لابد من استحضار قواعد السنن الحاكمة لمجرى التاريخ ، لا لاستشراف المستقبل فحسب؛ بل لاكتشاف طرق تصحيح المسار، واستشفاف عوامل تجنب البوار والانهيار، والاعتبار بما كان فيما سوف يكون.

مطارق السنن

العواصف التغييرية؛ تهب اليوم على غالب الساحات العالمية والإقليمية والمحلية في بقاع الأرض .. وبخاصة في بلدان العرب والمسلمين، التي لا نكاد نرى فيها بلدا إلا وهو على شفا تغييرات جذرية وتحولات مفصلية ..

وحتى النظام الدولي ذاته ؛ نراه مقبلا على تغييرات جوهرية، ستنتقل به غالبا من حالة تفرد أمريكا بالقيادة الدولية إلى وضع التعددية القطبية، وهو ما ستتبعه حتما تحولات إقليمية ومحلية، في مرحلة ما بعد الثورات العربية..

العودة الحتمية لتمكين الدين واستخلاف المسلمين

في تقديري أن هذه التحولات القائمة والقادمة؛ ليست إلا مقدمات لما بعدها من تغييرات كبيرة وكثيرة، ستتابع خلال المرحلة الانتقالية التي يشهدها العالم ، بين زمان تسلط الجبر الدولي والإقليمي والمحلي ، وبين مرحلة العودة الحتمية لتمكين الدين واستخلاف المسلمين .

فالخلافة (نعم) ..الخلافة على منهاج النبوة.. قادمة قادمة؛ كما صحت بذلك الأحاديث، ولكنها لن تأتي فجأة بدون مقدمات، بل بين يديها تغيرات وتحولات.

سنن الله في التغيير تعم جميع الأجناس والطوائف البشرية

وهذه التحولات الكبرى، تحكمها لا محالة ؛ سنن الله في التغيير، وهي سنن وقوانين تعم جميع الأجناس والأصناف والطوائف البشرية، إسلامية كانت أو كفرية، فردية أو جماعية ، شرقية أكانت أو غربية ..

فعندما قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حتى يُغَيِّروا ما بِأَنفُسِهِم) [الرعد:١١] .. جاءت كلمة ( قوم ) لتعم كل قوم، فهم يخضعون طوعا أو كرها لقوانين التغيير الربانية في السنن الكونية .. وكما قال الله سبحانه أيضا: (ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۙ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال:٥٣].

لذلك فإن سنن التغيير المبثوثة في القرآن، والمنثورة في السنة ؛ تشير إلى أن التغيير في أحوال الناس قد يكون إلى الأحسن بالنسبة إلى قوم، وقد يكون إلى الأسوأ بالنسبة لآخرين، بحسب تعامل الناس مع أسباب الإصلاح في الدنيا، أو قواعد الفلاح في الآخرة ..

ولهذا أيضا ؛ لابد من استحضار قواعد السنن الحاكمة لمجرى التاريخ ، لا لاستشراف المستقبل فحسب؛ بل لاكتشاف طرق تصحيح المسار، واستشفاف عوامل تجنب البوار والانهيار، والاعتبار بما كان فيما سوف يكون.

ولذلك قال الله تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج:٤٦].

قال ابن كثير في تفسيرها: ” ليس العمى عمى البصر، وإنما العمى عمى البصيرة، وإن كانت القوة الباصرة سليمة فإنها لا تنفذ إلى العبر، ولا تدري ما الخبر “.

تصاريف الزمن بحسب السنن

لا يدري أحد ماذا ستكون عليه أحوال عالم اليوم بعد بضع سنين، فتسارع حركة الأحداث العالمية وتقلباتها ؛ تذكرنا بانقلاب أحوال العالم قبل البعثة النبوية في غضون سنوات معدودة، لسابق علم الله بقدوم النور بعد الظلام، وذلك عندما تغير وضع الزعامة العالمية من قيادة الفرس إلى قيادة الروم، تمهيدا لسيادة المسلمين خلال سنوات قلائل بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو ما أشار إليه القرآن في قول الله تعالى: (ألم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ) [الروم:1-4]..

جاءت أخبار انتصار الروم على الفرس، في وقت انتصار المسلمين في غزوة بدر، التي كانت فاتحة لانتصارات المسلمين، ولهذا قال الله تعالى: (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ ۚ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) [الروم:4-5].

وقد نقل ابن كثير عند تفسيره لهذه الآيات قول عن الزبير بن عبد الله الكلابي أنه قال لابنه: (رأيت غلبة فارس الروم ، ثم رأيت غلبة الروم فارس ، ثم رأيت غلبة المسلمين فارس والروم، كل ذلك في خمس عشرة سنة) ..

سُنن تابعة لسنة التغيير

إذا كان التغيير سنة قدرية إلهية عامة؛ فإن تحتها مجموعة من السنن التابعة لها، مثل: سُنَّة التدافع الدائم بين أهل الحق وأهل الباطل، وسُنَّة تداول النصر والهزيمة بحسب قوانينهما ودواعيهما، وكذلك سُنَّة تجديد الدين على يد المصلحين، وسُنَّة إهلاك الظالمين ولو بعد حين، وكذا سُنَّة نهوض شعوب وأمم بعد موات آخرين، وسُنَّة تحقق وعد التمكين بغلبة المؤمنين، وسُنَّة الاستبدال بين صعود العاصين أو المصلحين، وسنة دمار قرى المترفين، وسنة فشل المتفرقين المتنازعين ونجاح المتعاونين المعتصمين بحبل الله المتين .. ونحو ذلك مما أشارت إليه نصوص الوحي كتابا وسنة..

والأمر كما قال الله تعالى: (يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [الرحمن:٢٦]. وهذه الآية تلاها النبي صلى الله عليه وسلم عند أصحابه فقالوا : وما  ذاك الشأن؟ قال : (مِن شأنِه أنْ يغفِرَ ذَنْبًا ويُفرِّجَ كربًا ويرفَعَ قومًا ويضَعَ آخَرينَ)1(1) رواه ابن حبان (رقم /٦٨٩) بإسناد صحيح..

وأملنا ورجاؤنا إذا وضع الله أقواما ورفع آخرين .. أن يجعل ذلك عزا للإسلام ورفعة للمؤمنين..

سنة الله في دفع بعض الناس ببعض

هل تصورت يوما الحال التي ستكون عليها جزيرة العرب ، لو لم يتصد الرسول صلى الله عليه وسلم مع صحابته في نحو مئة غزوة وسرية ، جاهد بنفسه في تسع عشرة منها للدفاع عن ملة التوحيد في تلك الجزيرة مهد الإسلام ؛ التي استمات كفارها ليبقوها على الشرك والوثنية..؟

وهل تأملت ماذا سيكون مصير تلك الجزيرة لو لم يتصد خليفته الأول – أبو بكر الصديق ، رضي الله عنه – لمواجهة جموع القبائل العربية التي ارتدت عن الإسلام ومنعت الزكاة وقاتلت على ذلك بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم؟.

وهل تخيلت ما الذي كان سيكون عليه أمر دين الله، لو لم يقم عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – بكف بأس أكاسرة الفرس المجوس عن جزيرة الإسلام، ثم تصديه لكبح جماح قياصرة الروم عن بيت المقدس وديار الشام، ، بعد أن استعبد الفرس والروم عرب الجزيرة واستذلوهم قرونا..؟

هل كان يمكن لدين الحق أن ينتشر في ربوع العالم ، لو لم يخرج أبناء الصحابة والتابعين للدعوة إليه والدفاع عنه في أنحاء آسيا، وربوع أوروبا ومجاهل إفريقيا..؟ وينتصب علماؤهم ودعاتهم للدفاع عن عقائد المسلمين ودفع شبه المبطلين..؟

ما الذي كان يمكن أن يصير إليه حال أمة الإسلام لو لم ينهض صلاح الدين الأيوبي لدحر الصليبيين، وينبري سيف الدين قطز لإيقاف زحف التتار الوثنيين، الذين أسقطوا الخلافة العباسية في بغداد ثم اجتاحوا بلاد الشام ، قاصدين بعدها استباحة الديار المصرية ليقضوا تماما على الأمة الإسلامية ..؟!

إن (سنة التدافع) الربانية المذكورة في النصوص القرآنية تجيب على كل تلك التساؤلات الافتراضية، حيث يقول الله تعالى: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) [البقرة:٢٥].

نقل الإمام البغوي في تفسيره لهذه الآية عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال:

“ولولا دفع الله بجنود المسلمين ؛ لغلب المشركون على الأرض، فقتلوا المؤمنين وخربوا المساجد والبلاد”2(2) تفسير البغوي..

وهذه السنة الربانية (المدافعة) مذكورة أيضا في قول الله سبحانه: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج:٤٠].

قال الإمام ابن كثير: ” أي: لولا أنه يدفع عن قوم بقوم ، ويكشف شر أناس عن غيرهم ، بما يخلقه ويقدره من الأسباب، لفسدت الأرض، وأهلك القوي الضعيف “..3(3) تفسير ابن كثير..

سنة التدافع بين الحق والباطل ستظل باقية ما بقي الزمان ، ولئن ظن البعض أن واقع المسلمين اليوم في العالم خال من المدافعة فـ (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ۗ.. إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) [الحج:٣٨].

سنة الله في مداولة الأيام

أحوال المسلمين وغير المسلمين في العالم تتغير بسرعة، وستظل تتغير، من سراء إلى ضراء، ومن ضراء إلى سراء، فمن سنن التغيير التي تأتي عواصفها على الأخيار والفجار: (سنة التداول) ، التي تتصرف وتنتقل بها الغلبة وتتداول بين أطراف الناس، وقد أشار إليها القرآن في قول الله تعالى: (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [آل عمران: ١٤٠] .. والآيات نزلت بعد أن كثر (القرح) أو الجراح على المسلمين في غزوة أحد، بعد أن استعر القتل بالمشركين في غزوة بدر ..

وسنة “التداول” أو “المداولة” يجري بموجبها تصريف الأقدار بحلوها تارة، وبمرها تارة ، على أهل الحق وعلى أهل الباطل على السواء، ولكن لأن من أركان الإيمان أن نؤمن بالقدر خيره وشره؛ فعلينا أن نوقن مع ذلك أن أمر المؤمن كله له خير، فإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له –  كما صح في الحديث – .. فتداول الأيام بين الناس يكون على الصالحين تمحيصا وتطهيرا.. ويكون على المفسدين عقوبة وتنكيلا.

وقد أورد الطبري عند تفسيره لهذه الآية عن التابعي الجليل (قتادة) أنه قال: (وتلك الأيام نداولها بين الناس) ” إنه والله لولا الدُّوَل ما أوذي المؤمنون، ولكن قد يُدال للكافر من المؤمن، ويبتلى المؤمن بالكافر، ليعلم الله من يطيعه ممن يعصيه، ويعلم الصادق من الكاذب”4(4) تفسير الطبري. ...

وفي حديث البخاري عن محاورة أبي سفيان لعظيم الروم في الشام، أن هرقل قال لأبي سفيان في ضمن أسئلة أخرى: (سَأَلْتُكَ كيفَ كانَ قِتَالُكُمْ إيَّاهُ؟ فَزَعَمْتَ أنَّ الحَرْبَ سِجَالٌ ودُوَلٌ، فَكَذلكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى ثُمَّ تَكُونُ لهمُ العَاقِبَةُ)5(5) رواه البخاري..

وهذه العاقبة ليست خاصة بالرسل، بل بكل المؤمنين من أتباع الرسل، كما في قول الكليم موسى لقومه: (اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا ۖ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف:١٢٨] وكما في قول الله لخليله محمد – صلى الله عليه وسلم: (تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ ۖ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلَا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَٰذَا ۖ فَاصْبِرْ ۖ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) [هود:٤٩].

فاللهم يا سميع الدعاء.. يسر أسباب العاقبة للمستضعفين من المؤمنين فوق كل أرض وتحت كل سماء ، واجعل أقدار التداول بين الناس ؛ لصلاح خير أمة أخرجت للناس ..

سنة الله في استدراج المكذبين

ما جرى ويجري في خلفيات الأحداث العالمية من تطاحن وتشاحن دولي؛ يظهر أن الجميع فيها يمكر بالجميع، ويريد جميعهم أن يورطوا غيرهم، وهذا ينبئ بأن هناك استدراجا إلهيا قدريا لهم جميعا ؛ يهيئ لأمر عظيم ..والعلم عند الله..

فتوريط أمريكا لروسيا في حرب أوكرانيا؛ وسعي روسيا لتفكيك وإفقار أوروبا ؛ وتربص كل من الصين وأمريكا ببعضهما، عن طريق حلفائهما؛ ثم تخبط الطغاة المنافقين في بلاد المسلمين وسط هذه القوى المتقلبة والمتغلبة، حائرين بين الرجوع للشعوب أو الركون للأعداء، مذبذبين بين ذلك، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء .. كل ذلك يدل على أن السنة الكونية الإلهية (سنة الاستدراج) تعمل بقوة وخفاء..

ومعنى (سنة الاستدراج) أن يقاد أهل الباطل إلى هلاكهم وحتوفهم درجة بعد درجة، وخطوة بعد خطوة، وهذه السنة التغييرية تجري في الغالب الأعم على الجبابرة المكذبين بالدين؛ لتثبيت اليقين بأن الله مولى الذين آمنوا، وأن الله مخزي الكافرين، كما قال سبحانه وتعالى: (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِيّ مَتِينٌ) [الْأَعْرَاف:١٨٢-١٨٣] .

وَفِي آيَةٍ أُخْرَى قال عز وجل: (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِيّ مَتِينٌ) [الْقَلَم: ٤٤-٤٥].

وعندما تبدو ظواهر الأمور عند البشر على غير حقيقتها في المقادير؛ تظهر إشارات هذه السنة الإلهية من اللطيف الخبير، الذي يخبئ بها منحا في المحن، فيجعل شدة الابتلاءات مفتاحا لما بعدها من عطايا وكرامات، كما قال رسول الهدى صلى الله عليه وسلم لحبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس: (واعلَمْ أنَّ النَّصرَ مع الصَّبرِ ، وأنَّ الفرَجَ مع الكرْبِ ، وأنَّ مع العُسرِ يُسرًا)6(6) أخرجه الترمذي برقم (٢٥١٦) وأحمد برقم( ٢٨٠٣) بإسناد صحيح..

وسنة الاستدراج لا تسير فقط على المكذبين الكفار، بل على سائر العصاة المعاندين الفجار، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّه لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ ، فَإِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ، ثُمَّ قَرَأَ: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود:١٠٢]7(7) مُتَّفَقٌ عليه..

فهذه السنة تعمل في كل ظالم بحسبه “فيحمل كل على ما يليق به”8(8) كما قال ابن حجر في شرح الحديث بفتح الباري(٢٠٥/٨)..

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (إذا رأيتَ اللهَ يُعطي العبدَ من الدنيا على مَعاصيه ما يُحِبُّ.. فإنما هو اسْتدراجٌ، ثم تلا: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ ، حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) [الأنعام:٤٤]9(9) الحديث أورده الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (٤١٣)..

ونلاحظ في نصوص الاستدراج والإمهال والإملاء؛ أن المستدرجين يمهلهم الله ويملي لهم وهم (لا يعلمون).. لكنهم بعد فوات الأوان سيعلمون، كما قال القوي العزيز سبحانه: (… وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ) [الشعراء: ٢٢٧] .

سنة الله في نصر المؤمنين

في أزمنة الهزائم والتراجع والانكسار، يبدو الحديث عن وسائل النهوض والانتصار، مستغربا حتى وكأنه يقال : هل هذا وقته..؟

أقول؛ نعم .. وقته الآن، وفي كل آن، لأنه حديث القرآن..

فمهما بدت الأوضاع العالمية سوداوية ومأساوية بنظر الكثيرين، فيما يتعلق بواقع الدين ومستقبل المسلمين ؛ فإن السنن الإلهية تحسم الأمر عندما تقضي بصورة جازمة حتمية ، بنصر وإنصاف المؤمنين ، ولو بعد حين ..

وهو أمر لا يحتمل شكا من مرتابين، أو تشكيكا من قانطين متشائمين..لأن الله القوي العزيز هو الذي قال: (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة:21].

وقال: (إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) [غافر: ٥١].

وتأمل معي توكيد وتكرار الكتاب المجيد لمعنى فريد، لا يكاد يغيب إلا على ذوي الفهم المعيب، وهذا المعنى؛ هو اقتران قوانين نصر المؤمنين بنواميس السنن الجارية على الأولين والآخرين، بلا تبديل ولا تغيير ، كما قال الله عز وجل: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) [الأنعام:٣٤] ..

وقال أيضا: (وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) [الفتح:22-23].

لذلك فإن التأمل العميق في جريان القوانين والسنن..لتفعيل أسبابها في هذا الزمن.. من أهم مهام الوقت، فالسنن الإلهية هي أحكام كونية قدرية..لا تعطي نتائجها إلا على مقدمات الأخذ بالأحكام الدينية الشرعية، كما قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد:٧].

قال أهل التفسير: إن تنصروا الله بطاعتكم شرعا؛ ينصركم بقدرته قدرا، وهو ذات المعنى العظيم في قوله عز وجل: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج:٤٠].

سنة الله في هلاك المترفين

المترفون في عصرنا لم يعودوا مجرد قلة منحرفة في سلوكها وشدة شرهها بالمال والجاه كما كانوا عبر التاريخ؛ بل صاروا بالرأسمالية المتوحشة، معسكرا دوليا، يحمل دينا وضعيا، يقوم على تأليه المادة، وتقديس اللذة، ومضاعفة الربح بالاحتكار والربا أضعافا مضاعفة ..

وسنة الله تأبى أن تظل الأرض التي بارك الله فيها وقدر فيها أقواتها سواء للسائلين ؛ نهبا لعدة شركات عالمية قارونية عابرة للقارات.. تنشر الإفساد وتضل العباد عربا وعجما..

ولا نشك أن عواصف التغيير ستهب على المترفين في بلاد المسلمين؛ مثلما تهدد مصائر الغارقين فيه ببلاد الكفار والمشركين ، فحديث القرآن عن السنن الإلهية في هلاك أهل الإغراق في الترف المحرم والبطر والإسراف والتبذير، لا تخص القدماء الغرباء الغابرين، بل تعم كل من جاءوا بعدهم ففعلوا فعلهم، ولو قالوا نحن من المسلمين .

واسمع لهذه الآيات عن سنن الله في المترفين؛ حتى ترى بعين اليقين، ما سيحدث لطغاتهم ، ولو بعد حين:

قال الله تعالى في عاقبة بطر المترفين المسرفين الذين لايحبون الناصحين: (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ) [هود: ١١٦].

فمن سنة الله في الترف والمترفين، أن من ينهونهم ؛ هم القلة القليلة من خاصة المؤمنين، من أولي (البقية) في الفهم والعقل، وهؤلاء سيكونون من أوائل الناجين .

وقال الله عز وجل في استبدال أحوال المترفين: (وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ) [الأنبياء11-13] .

فعادة الله في المترفين أن يقصم ظهورهم؛ ثم يسخر منهم بعد إهلاكهم كما سخروا من الناصحين، فيدعوهم للعودة إلى الحال المحال الرجوع إليها، مما كانوا عليه من النعم السابقة السابغة التي لم يحمدوها ، والآلاء العظيمة التي لم يذكروها فيشكروها ..

وقال الله تبارك وتعالى في خذلان المترفين: (حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ * لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ) [المؤمنون64-65] .

فالآية تدل على أن سنة الله سبحانه في المترفين؛ أنهم يباغتون قبل غيرهم وقت هلاكهم، ولا يجدون نصيرا من أتباعهم عند مجئ وقت عقابهم .

وقال الله سبحانه في عاقبة انتشار الترف والفساد بين العباد: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) [الإسراء: ١٦].

والآية هنا تدل على أن من السنن الإلهية في هلاك الأمم الطاغية اللاهية؛ أنه سبحانه يقيم على طغاتها ومترفيها الحجج، ويوصل إليهم أوامر الطاعات، فإذا تكبروا عليها وخرجوا عنها؛ استحقوا شديد العذاب وعاجل العقاب ..

كما أنه سبحانه قد يمكن هؤلاء المترفين من الحكم والتسلط على رقاب عبيد الدنيا، فيخسرون معا الآخرة بعد خسران الدنيا كما في قراءة (أمرنا مترفيها) بتشديد الميم ، أي جعلناهم حكاما وأمراء..

وكما أن خسران المترفين نطق به القرآن الحكيم، فقد دعا به عليهم الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم حين قال فيما رواه البخاري: (تعِس عبدُ الدينارِ ، تعِس عبدُ الدرهمِ ، تعس عبدُ الخميصةِ ، تعس عبدُ الخميلةِ ، تعِس وانتكَس وإذا شيكَ فلا انتقشَ)10(10) رواه البخاري..

الهوامش

(1) رواه ابن حبان (رقم /٦٨٩) بإسناد صحيح.

(2) تفسير البغوي.

(3) تفسير ابن كثير.

(4) تفسير الطبري. ..

(5) رواه البخاري.

(6) أخرجه الترمذي برقم (٢٥١٦) وأحمد برقم( ٢٨٠٣) بإسناد صحيح.

(7) مُتَّفَقٌ عليه.

(8) كما قال ابن حجر في شرح الحديث بفتح الباري(٢٠٥/٨).

(9) الحديث أورده الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (٤١٣).

(10) رواه البخاري.

اقرأ أيضا

تاريخ الأنبياء .. وسنن الصراع بين الحق والباطل

سُنة الله عز وجل في العصاة والمكذبين

سُنة الله في المدافعة بين الحق والباطل

سُنة الابتلاء للمؤمنين، وأن العاقبة للمتقين

سُنة “الإملاء” و”الاستدراج” للكافرين والظالمين 

التعليقات غير متاحة