إن ألزم الأحوال في التأسي به ﷺ وطاعته واتباعه ما كان في الحال الذي نزلت بسببه الآيات، وهو حال الجهاد الذي جعله الرسول صلى الله عليه وسلم ذروة سنام الإسلام، وحقيقته ومقصده تعظيم الخالق والرحمة بالخلق، بقمع الظلمة لتكون كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم.
أصل الدين: تصديق الرسول فيما أخبر وطاعته فيما أمر
الحمد لله وحده.. نصر عبده وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، والصلاة والسلام على مصطفاه وعبده محمد، وعلى آله وصحبه، وبعد:
فإن توحيد الله أصل الأصول لكل خير، وقسيم توحيد الله اتباع رسوله والتأسي به وطاعته، وإذا كان التوحيد هو إفراد الله عز وجل بالعبادة، والنفي والبراءة من كل معبود دونه، فإن التوقير والاتباع والنصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تكون بجعل القدوة والأسوة الحسنة فيه صلى الله عليه وسلم.
والآيات القرآنية التي أوجبت طاعته صلى الله عليه وسلم واتباعه وعدم مخالفة أمره تزيد على الأربعين آية، قال الإمام أحمد رحمه الله: «نظرت في المصحف فوجدت فيه طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة وثلاثين موضعاً»، ثم جعل يتلو: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور: ٦3] وجعل يكررها، ويقول: «وما الفتنة؟ الشرك، لعله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيزيغ فيهلكه»، وجعل يتلو هذه الآية: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [النساء: 6٥]1(1) الإبانة الكبرى لابن بطة (٢٦١/١)، وطبقات الحنابلة (1/97-۹۸) ، الصارم المسلول لابن تيمية (ص (٥٦)..
وقال الآجري: «فَرضَ على الخلق طاعته صلى الله عليه وسلم في نيف وثلاثين موضعا من كتابه»2(2) الشريعة (١/ ٤١١).. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وقد ذكر الله طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه في نحو من أربعين موضعا من القرآن كقوله تعالى: (مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ). وقال أيضا: «وقد أمر الله بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكثر من ثلاثين موضعاً من القرآن، وقرن طاعته بطاعته، وقرن بين مخالفته ومخالفته، كما قرن بين اسمه واسمه، فلا يذكر الله إلا وذكر معه»3(3) مجموع الفتاوي (٤/١) (١٠٣/١٩)..
الآيات الآمرة بطاعة النبي ﷺ ارتبطت بالجهاد
وهذا أمر يجب التنبه له بوضع هذه الآيات في مواضعها وتصحيح المفاهيم نحوها، فإن من يتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم ويلزم سنته وطاعته.. يجب عليه أن يعلم ارتباطها بالجهاد والحركة والسعي ومحاربة الظلم والفساد، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم هي الحكمة، وهي وحي من سبحانه (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ) [النجم: 3-٤]. وأكد ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «أَلا إِنِّي أُوتِيتُ القُرآنَ ومِثلَهُ مَعَهُ»4(4) أخرجه أحمد في المسند (4/130-۱3۱) وغيره من حديث المقدام بن معدي كرب، وهو حديث صحيح..
ومثلما كان جمع القرآن في عهد الصديق أبو بكر رضي الله عنه وفي عهد ذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه بسبب الجهاد، فإن إيجاب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وعدم مخالفة أمره واتباعه والتأسي والاقتداء به كان في مواطن الجهاد، وكذلك أكرم الله تعالى الأمة بأحكام التيمم وقصر الصلاة في السفر في أثناء الغزو والجهاد.
إن الآيات الواردة في الأمر بطاعة النبي صلى الله عليه وسلم واتباعه والاقتداء به جاءت في مواطن متعددة من القرآن الكريم. واتصفت تلك الآيات بتنوع أساليبها وتعدد صيغها مع اتحادها جميعها في الأمر بالاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وطاعته في جميع ما جاء به من شرائع وأحكام من عند الله تبارك وتعالى، وهذا تقسيم للآيات على حسب ما اتحدت به في السياق على النحو التالي:
أ- الآيات التي جاء فيها الأمر بطاعته صلى الله عليه وسلم.
ب- الآيات التي جاء فيها الأمر باتباعه والتأسي به والأخذ بما شرعه.
ت- الآيات التي جاء فيها وجوب التسليم لحكمه والانقياد له5(5) حث الأتباع على تجريد الاتباع (ص۱۷۹)..
وهنا نتحدث عن صيغة واحدة تنوع ورودها وهي صيغة (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) و(وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ) وأشباهها ونظائرها ومثل قوله: (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ ولِلرَّسُولِ) ومثل قوله: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)، قوله تعالى: (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ).
نجد هذه الصيغ الصريحة الموجبة لطاعة النبي صلى الله عليه وسلم قد وردت في ما يزيد على ستة وعشرين موضعاً في القرآن الكريم بخلاف صيغ أخرى المجال لا يتسع لسردها منها:
(سبع مواضع) في سورتي (النساء وآل عمران) وكلها في معرض الجهاد والحديث عن غزوة بدر وغزوة أحد. و(موضعان) في سورتي (المائدة والأعراف)، في معرض الحديث عن أهل الكتاب في المائدة، وفي الأعراف عند الحديث عن اليهود. وفي سورة (الأنفال) ثلاثة مواضع، وهي السورة التي تحدثت عن غزوة بدر والغنائم. وفي سورة (التوبة) في موضع واحد، وكان نزولها بعد غزوة تبوك في ذي القعدة أو ذي الحجة سنة (٩هـ).. وفيها نبذ العهود للمشركين جميعهم الذين لم يفوا بعهودهم6(6) الموسوعة القرآنية – خصائص السور (٢/ ٢2٧) المقدمات الأساسية في علوم القرآن (ص75)..
وفي سورة (النور) في موضع واحد، وقد “نزلت سورة النور بعد سورة الحشر، ونزلت سورة الحشر بين صلح الحديبية وغزوة تبوك”7(7) الموسوعة القرآنية – خصائص السور (7٥/٦).، مرجع الناس من غزوة بني المصطلق، وقال أهل الإفك ما قالوا، وأنزل الله تعالى في ذلك براءة عائشة أم المؤمنين ما أنزل8(8) جوامع السيرة (ص٢٦١)، راجع الآيات: ١١-١٥ من سورة النور، وفيها براءة أم المؤمنين عائشة رضي عنها..
وفي (الأحزاب) ، 4مرات، عن ابن عباس أنه قال: «نزلت سورة الأحزاب بالمدينة»9(9) انظر: الإتقان 23/۱، زاد المسير ٢٤٧/٦، روح المعاني ٢١/ ١٤٢، الجامع ١٤/ ١٣ الدر ٥ / ١٧٩. بعد غزوتي “بني قريظة، والخندق”10(10) البدء والتاريخ (٢٢٠/٤)..
وفي سورة (محمد) موضع، “وسميت أيضًا سورة القتال، لبيان أحكام قتال الكفار فيها في أثناء المعارك وبعد انتهائها: (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ) “11(11) فتح القدير للشوكاني (٢٥/٥) ، تفسير حدائق الروح والريحان (١٢٠/٢٧).، وفي سورة (الفتح) في موضعين وهي التي نزلت في صلح الحديبية والبشرى بفتح مكة.
بخلاف سورة الحجرات والمجادلة، نزلت سورة الحجرات بعد سورة المجادلة ونزلت سورة المجادلة بعد سورة المنافقون، ونزلت سورة المنافقون بعد غزوة بني المصطلق في السنة الخامسة من الهجرة؛ فيكون نزول سورة المجادلة، فيما بين صلح الحديبية وغزوة تبوك12(12) الموسوعة القرآنية (٩/ ١٦٧) (٢٢٥/٨)..
وفي سورة التغابن جاء الأمر بطاعة النبي صلى الله عليه وسلم في موضعين، قال عطاء بن يسار: نزلت في عوف بن مالك الأشجعي، كان ذا أهل وولد، وكان إذا أراد الغزو بكوا إليه ورققوه وقالوا: إلى من تدعنا؟ فيرق ويقيم؛ فأنزل الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ) بحملهم إياكم على المعصية وترك الطاعة، (فَاحْذَرُوهُم) أن تقبلوا منهم، (وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا) فلا تعاقبوهم على خلافهم، وتثبيطهم إياكم (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)13(13) أخرجه ابن إسحاق كما في «الدر المنثور» للسيوطي ٢٤٢/٦، والطبري في «جامع البيان ۲۸/ ١٢۵، والبغوي في «معالم التنزيل» ١٤٣/٨ عن عطاء بن يسار فقط. “.
الأسوة في رسول الله واتباعه أصله في الجهاد ورد المعتدي والوقوف في وجه الظالم
وهنا نسلط الضوء على آية واحدة لو لم ينزل غيرها في وجوب طاعة النبي صلى الله عليه وسلم واتباعه لكفت ووفت ولكنه فضل الله جل جلاله. وهي قوله تعالى: (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ…) [الأحزاب: ٢١]؛ فقد جاءت بعدما أخبر تعالى عن أهل النفاق وما وقع منهم من الأحوال التي هي غاية في الدناءة، في قوله: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا ۖ وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ ۖ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَىٰ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ۖ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ ۚ أُولَٰئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ ۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا ۖ وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ ۖ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا) [الأحزاب: 20-18].
وانظر إلى مفردات «معوقين»، واغراءات القعود «هلم إلينا»، وسوء الأفعال «أشحة عليكم»، و«سلقوكم بألسنة حداد» و«أشحة على الخير».. لتعلم مدى إجرام هؤلاء الذين يؤذون المؤمنين بالتخذيل والتثبيط وهم من بني جلدتهم ويتحدثون بألسنتهم!
(والشح أَصْلُهُ: والشحّ : البخل بما في الوسع مما ينفع الغير . وأصله : عدم بذل المال ، ويستعمل مجازاً في منع المقدور من النصر أو الإعانة، والمعنى: يمنعونكم ما في وسعهم من المَال أو المعونة ، أي : إذا حضروا البأس منعوا فائدتهم عن المسلمين ما استطاعوا ومن ذلك شحّهم بأنفسهم وكل ما يُشحّ به . وهم أيضاً أشحة في الظّاهر ، أي يظهرون أنهم يخافون عليكم الهلاك فيصدونكم عن القتال ويحسِّنون إليكم الرجوع عن القتال)14(14) التحرير والتنوير (٢١/ ٢٩٦)..
و«الخير يعني الظفر في القتال، وذلك قوله في سورة الأحزاب: (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا) يعني لم يصيبوا ظفراً ولا غنيمة، وقال: (أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ). والخير القتال”15(15) التصاريف لتفسير القرآن مما اشتبهت أسمائه وتصرفت معانيه (ص١٧٦)..
هذا مع جبنهم ورعبهم وخوفهم الذي هو دليل على ضعف إيمانهم، إن لم يكن دليل على ذهاب الإيمان من قلوبهم.
فالجهاد هو السنة.. والأسوة في رسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعه أصله في الجهاد ورد المعتدي والوقوف في وجه الظالم، وتحمل الأذى في سبيل الله في النفس أو المصاب في الغير.
التأسي بالرسول ﷺ في الجهاد أصالة، وفي باقي الأمور بالتبع
ومع أن هذا هو الأصل فالعبرة فيها بعموم لفظها ليعم تأسي الناس به صلى الله عليه وسلم في الإيمان والإسلام وكثير من الأحكام، وفي عموم الأفعال.
قال نجم الدين الطوفي: «واعلم أن الاستدلال بهذه الآية على التأسي مبني على أن الآية في نفسها عامة، ثم على أن الاعتبار في العام بعموم لفظه لا بخصوص سببه؛ لأن هذه الآية إنما وردت على سبب خاص، وهو اعتزال المنافقين القتال في غزوة الأحزاب مع مباشرة النبي صلى الله عليه وسلم لها، فقيل لهم: هلا تأسيتم برسول الله في لقاء العدو، فلقد كان لكم فيه أسوة، ألا تراه يقول: (يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا ۖ وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ ۖ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا * لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب: ٢٠-٢١]16(16) الإشارات الإلهية إلى المباحث الأصولية (ص٥٠٤) بتصرف..
وعامة أهل التفسير على أن معنى قوله تعالى: (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) إنما هو في الجهاد أصالة، وفي باقي الأمور بالتبع، حيث إنه صلى الله عليه وسلم حضر الجهاد بنفسه الكريمة، وباشر موقف الحرب، وهو الشريف الكامل، والبطل الباسل «قال مقاتل بن سليمان: (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) أن كُسرت رباعيته، وجُرح فوق حاجبه، وقتل عمه حمزة، وآساكم بنفسه في مواطن الحرب والشدة (لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) يعني: لمن كان يخشى الله سبحانه وتعالى، ويخشى البعث الذي فيه جزاء الأعمال»17(17) تفسير مقاتل بن سليمان (٤۸۲/۲)، موسوعة التفسير المأثور (۱۷/ ۷۱۲)..
الأمر بالتأسي برسول الله ﷺ في المصابرة والمرابطة والمجاهدة وانتظار الفرج
فَهَذِهِ الْآيَةُ الكَرِيمَةُ أَصْلُ كَبِيرُ فِي الَتأسي بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، في أقواله وأفعاله وأحواله؛ قدوة حسنة، وسنة صالحة، لأنه كان أسبقهم في الحرب، وتَصْبِرُوا عَلَى مَا يُصِيبُكُمْ كمَا فَعَلَ هُوَ، بأَنْ تَنصُرُوا دِينَ اللَّهِ وَتَؤازِرُوا الرَّسُولَ وَلَا تَتخَلَّفُوا عَنْهُ، فَوَاسَاكُمْ مَعَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، في مواطن الحرب، فَافْعَلُوا أَنتُمْ كَذَلِكَ أَيْضًا وَاسْتَنوا بِسُنَّتِه فباشروا معه القتال، وَلهَذَا أمِرَ النَّاسُ بِالتَّأْسِي بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْأَحْزَابِ، فِي صَبْرِهِ وَمُصَابَرَتِهِ وَمُرَابَطَتِهِ وَمُجَاهَدَتِهِ وَانْتِظَارِهِ الْفَرَجَ مِنْ رَبِّهِ عز وجل، دائما إلى يوم الدِّينِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى لِلَّذِينِ تَقَلَّقُوا وَتَضْجَرُوا وَتَوَلزَلُوا وَاضْطَرَبُوا فِي أَمرِهِمْ يومَ الْأَحْزَابِ (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) أَي: هلا اقتديتم بِهِ وَتَأسيتم بِشَمَائِلِهِ؟ وَلهَذَا قَالَ: (لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)18(18) تفسير الطبري (٢٠/ ٢٢٥)، تفسير ابن كثير (٢٩١/٦)، الكشف والبيان (۲۲/۸)، وانظر: تفسير القرطبي (١٤/ ١٥٥)، البحر المحيط (4/ ٤٦٦)، الجواهر الحسان (٢٤٠/٤) ، تفسير الماتريدي (٢٦٧/٨) ، وبحر العلوم (۱۳/۴)، تفسير البغوي (٢٣٦/٦)، تفسير العزين عبد السلام (٥٦٦/٢) التيسير في التفسير (١٢ / ١٥٨)، تفسير الألوسي (١١/ ٢٧٥)..
قال الشيخ السعدي: (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) حيث حضر الهيجاء بنفسه الكريمة، وباشر موقف الحرب، وهو الشريف الكامل، والبطل الباسل، فكيف تشحون بأنفسكم، عن أمر جاد رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه فيه؟» فَتَأسوا به في هذا الأمر وغيره19(19) تفسير السعدي، (ص (٦61)..
الأصل الثاني في اتباع الرسول ﷺ
والأصل الثاني المشهور في سنته واتباعه والتأسي به وطاعته هي قول الله عز وجل: (مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ ۚ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الحشر: ٧].
وهذه الآية نزلت في الغنائم، وعمت سائر الأشياء، فدخل فيها ما أمر به وسنه صلى الله عليه وسلم ، وما نهى عنه بالسنة، فلا يجوز مخالفته في شيء من أوامره إلا ما خُص عليه من الخبر، مما لم يتفق المسلمون على إيجابه لا بكتاب ولا سنة، فإنه صلى الله عليه وسلم قال في هذا الجنس الذي هذا صفته: «فخذوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فانتهوا»، وقد نزلت هذه السورة والآيات في بني النضير حينَ أجلاهُم رسول الله صلى الله عليه وسلم20(20) أحكام القرآن لبكر بن العلاء (٢/ ٤٠٢)، والصارم المسلول ( ص ١٨٦) ، تيسير البيان لأحكام القرآن (٢١٥/٤)..
الآيات الآمرة بطاعة النبي ﷺ نزلت أثناء الجهاد والغزو
إن الآيات الآمرة بطاعة النبي صلى الله عليه وسلم والموجبة لاتباعه والتأسي به أكثرها إن لم يكن جلها نزلت أثناء الجهاد والغزو وهي عامة بلفظها وإن نزلت على سبب خاص وذلك “من خصائصه صلى الله عليه وسلم حيث أن الله تعالى فرض طَاعَته على العالم فرضا مطلقاً لا شَرط فيهِ وَلَا استثناء فَقَالَ: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) وقال: (مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) وإن الله تعالى أوجب على الناس التأسي به قولاً وفعلاً مطلقًا بِلا استثناء فَقَالَ: (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) وَاسْتَثنى في التأسي بخليله فَقَالَ: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ) إلى أن قالَ: (إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ)”21(21) الخصائص الكبرى (٢٤٢/٢)..
الشرف والنجاة في التزام وطاعة الرسول ﷺ
هذا فليست سنة النبي صلى الله عليه وسلم ترفاً ولا خلوداً إلى الأرض واتباعاً للأهواء، وليست كذلك تشدقاً وثرثرة، بل إن اتباع الصادق الأمين وطاعته والتزام سنته شرف لا يحوزه أهل الأهواء والبدع ومرضى النفوس ممن يتطاولون على أهل الإسلام ويؤذونهم ويدعون أهل الأوثان ويسالمونهم، فمن يوالي أعداء الله بموافقته لهم في مواقفهم فهو منهم، ومن يكثر سواد الظلمة والفاسدين فليس من الله في شيء، وهؤلاء كما قال ابن عقيل الحنبلي: “إذا أردت أن تعلم مَحَلَّ الْإِسْلَامِ مِنْ أَهْلِ الزَّمَانِ فَلَا تَنظُرْ إِلَى زِحَامِهِمْ فِي أَبْوَابِ الْجَوامع، وَلَا ضجيجهِمْ فِي الْمَوْقِفِ بِلبَيِّكَ، وَإِنَّمَا انْظُرْ إِلَى مُوَاطَأَتِهِمْ أَعْدَاءَ الشَّرِيعَةِ”22(22) الآداب الشرعية والمنح المرعية (۲۲۷/۱)، الكنز الأكبر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (ص٤٣٢)..
ولهذا قال ابن حزم: «وَلَا إثْمَ بَعدَ الكُفْرِ أَعْظَمُ مِنْ إثْمِ مَنْ نَهَى عَنْ جِهَادِ الْكُفَّارِ وَأَمَرَ بِإِسْلَامِ حريم المسلمين إليهم”23(23) المعلى بالآثار (3٥٢/٥).. وقال الإمام محمد عبده: «فَالْقِتَالُ لحماية الحَقِيقَةِ كَالْقِتَالِ لِحمَايَةِ الْحَقِّ.. كُلِهِ جِهَادُ في سبيل الله”24(24) تفسير المنار (٢/ ٢٦٥)..
وإن ألزم الأحوال في التأسي به وطاعته واتباعه ما كان في الحال الذي نزلت بسببه الآيات، وهو حال الجهاد الذي جعله الرسول صلى الله عليه وسلم ذروة سنام الإسلام، وحقيقته ومقصده تعظيم الخالق والرحمة بالخلق، بقمع الظلمة لتكون كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم.
الهوامش
(1) الإبانة الكبرى لابن بطة (٢٦١/١)، وطبقات الحنابلة (1/97-۹۸) ، الصارم المسلول لابن تيمية (ص (٥٦).
(2) الشريعة (١/ ٤١١).
(3) مجموع الفتاوي (٤/١) (١٠٣/١٩).
(4) أخرجه أحمد في المسند (4/130-۱3۱) وغيره من حديث المقدام بن معدي كرب، وهو حديث صحيح.
(5) حث الأتباع على تجريد الاتباع (ص۱۷۹).
(6) الموسوعة القرآنية – خصائص السور (٢/ ٢2٧) المقدمات الأساسية في علوم القرآن (ص75).
(7) الموسوعة القرآنية – خصائص السور (7٥/٦).
(8) جوامع السيرة (ص٢٦١)، راجع الآيات: ١١-١٥ من سورة النور، وفيها براءة أم المؤمنين عائشة رضي عنها.
(9) انظر: الإتقان 23/۱، زاد المسير ٢٤٧/٦، روح المعاني ٢١/ ١٤٢، الجامع ١٤/ ١٣ الدر ٥ / ١٧٩.
(10) البدء والتاريخ (٢٢٠/٤).
(11) فتح القدير للشوكاني (٢٥/٥) ، تفسير حدائق الروح والريحان (١٢٠/٢٧).
(12) الموسوعة القرآنية (٩/ ١٦٧) (٢٢٥/٨).
(13) أخرجه ابن إسحاق كما في «الدر المنثور» للسيوطي ٢٤٢/٦، والطبري في «جامع البيان ۲۸/ ١٢۵، والبغوي في «معالم التنزيل» ١٤٣/٨ عن عطاء بن يسار فقط.
(14) التحرير والتنوير (٢١/ ٢٩٦).
(15) التصاريف لتفسير القرآن مما اشتبهت أسمائه وتصرفت معانيه (ص١٧٦).
(16) الإشارات الإلهية إلى المباحث الأصولية (ص٥٠٤) بتصرف.
(17) تفسير مقاتل بن سليمان (٤۸۲/۲)، موسوعة التفسير المأثور (۱۷/ ۷۱۲).
(18) تفسير الطبري (٢٠/ ٢٢٥)، تفسير ابن كثير (٢٩١/٦)، الكشف والبيان (۲۲/۸)، وانظر: تفسير القرطبي (١٤/ ١٥٥)، البحر المحيط (4/ ٤٦٦)، الجواهر الحسان (٢٤٠/٤) ، تفسير الماتريدي (٢٦٧/٨) ، وبحر العلوم (۱۳/۴)، تفسير البغوي (٢٣٦/٦)، تفسير العزين
عبد السلام (٥٦٦/٢) التيسير في التفسير (١٢ / ١٥٨)، تفسير الألوسي (١١/ ٢٧٥).
(19) تفسير السعدي، (ص (٦61).
(20) أحكام القرآن لبكر بن العلاء (٢/ ٤٠٢)، والصارم المسلول ( ص ١٨٦) ، تيسير البيان لأحكام القرآن (٢١٥/٤).
(21) الخصائص الكبرى (٢٤٢/٢).
(22) الآداب الشرعية والمنح المرعية (۲۲۷/۱)، الكنز الأكبر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (ص٤٣٢).
(23) المعلى بالآثار (3٥٢/٥).
(24) تفسير المنار (٢/ ٢٦٥).
المصدر
عبد القادر محمد المهدي أبو سنيج، مجلة أنصار النبي ﷺ.