قدّر الله تعالى التكليف للإنسان، وأمر الله عباده أن يواجهوا الباطل ويغيروا ما بأنفسهم، وأوضح لهم سننه في الصراع، والإمهال، والمداولة.
مقدمة
عندما أمرنا الله تعالى بالتزام دينه وإقامته؛ أخبرنا تعالى أن هناك عقبات وقوى رافضة للتغيير والهدى؛ ما بين نفوسٍ تأبى وبين قوى ممكَّنة ترفض الحق وتتنكر للهدى.
وقد أجرى تعالى هذا الصراع والمداولة والإمهال وأخذ الكافرين؛ على سنن لا تتبدل؛ من عرفها طامَن من نفسه واسرشد ببيان ربه وبما جرى في التاريخ البعيد والقريب.
وقد ضمّن تعالى كتابه بيان هذه السنن، ومن الخير التعرف على بعض هذه السنن الثابتة من خلال التفكر في تاريخ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فيما حكاه القرآن الكريم، ومنها ما يلي:
العاقبة للمتقين والهلاك للمكذبين المعاندين
والشواهد من الأدلة والوقائع على هذه السنة كثيرة جدًّا؛ فمن ذلك قوله تعالى عقب قصة “نوح” عليه الصلاة والسلام: ﴿تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلَا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [هود:49].
وقوله تعالى عن وصية “موسى” عليه الصلاة والسلام لقومه بعد أن هدّدهم فرعون بتقتيل أبنائهم واستحياء نسائهم: ﴿قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا ۖ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الأعراف:128].
وقوله تعالى عن هود عليه الصلاة والسلام مع قومه: ﴿فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۖ وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [الأعراف:72].
وقال عن نبيه “صالح” عليه الصلاة والسلام: ﴿فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ ۗ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ * وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾ [هود:66-67].
وقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا ۖ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم:47].
وما جرى من تحقيق هذه السنة في الماضي سيجري مثله إن شاء الله تعالى في الحاضر والمستقبل إذا تحققت أسبابها من ظهور “المتقين” الذين يستحقون نصر الله عز وجل.
حتى يغيروا ما بأنفسهم
هذه السنة من السنن الخالدة التي يتحمل البشر في ضوئها مسئوليتهم فيما يقع لهم من خير أو شر؛ لأن الله عز وجل قد منح الإنسان قدْرًا من الحرية والاختيار، وشرح له أسباب النجاة، وأسباب الهلاك، وأنزل عليه الكتاب، وأرسل إليه الرسل، فمنه يبدأ التغيير:
سواء إلى الشر أو إلى الخير؛ فإن كان الناس في شر وبلاء فإن الله عز وجل لا يزيل هذا الشر عنهم إلا بأن يأخذوا بأسباب النجاة، فيغيروا ما بأنفسهم بطاعة الله عز وجل وترك معاصيه التي هي أصل الشر والمصائب.
وعلى العكس من ذلك: لو كان الناس في خير ونعمة ورخاء؛ فإن حرمانهم من هذا الخير، وحصول الشر لهم بعده إنما يأتي من أنفسهم حين يفرّطون في طاعة الله ولا يشكرونه؛ قال تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [النحل:112].
وإنه لجدير بالدعاة إلى الله عز وجل في هذا الزمان وفي كل زمان أن يقفوا طويلًا عند هذه السنة؛ فهي الأساس المهم والمنهج الصحيح للدعوة والتغيير، بل هي أم السنن الربانية في البناء والتغيير.
الابتلاء سنة جارية للمؤمنين
وهذه السنة من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى تعليق؛ حيث تواردت بها الأدلة الكثيرة من القرآن والسنة، وحيث الوقائع والتجارب في حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم تشهد بذلك، ويكفي قوله تعالى: ﴿الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ [العنكبوت:1-3].
وقوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ [البقرة:214].
وحكمة هذا الابتلاء عظيمة، وفوائده في التربية والتمحيص وتمييز الصفوف معروفة، وينبغي أن توطَّن النفوس على هذه السنة مع سؤال الله عز وجل العافية والثبات.
كما يدخل تحت هذه السنة سنة المداولة بين الناس من الشدة إلى الرخاء، ومن الرخاء إلى الشدة، ومن إدالة الكفار على المسلمين للتمحيص والابتلاء.
قال تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ [آل عمران: 140].
انهيار الأمم الظالمة وزوالها بأجل
يقول الدكتور السلمي عن هذه السُّنة:
“قد يرى الناس موجِبات العذاب والانهيار قد حلّت بأمة من الأمم ثم لا يرون زوالها بأنفسهم، وقد أوضحنا في أول الكلام عن السنن أن سنة الله لا تتخلف، لكن عمرها أطول من عمر الأفراد ولا تقع إلا بأجل محدد لابدَّ من استيفائه؛ قال تعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [الأعراف:34]. وقال تعالى: ﴿مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ﴾ [الحجر:5]. وقال تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْقُرَىٰ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا﴾ [الكهف:59]» (1منهج كتاب التاريخ الإسلامي، ص161)
والحديث عن هذه السنة يقودنا إلى الحديث عن سنة أخرى ألا وهي:
سنة الإملاء
التي يملي الله عز وجل فيها للكفار، ويستدرجهم ويمهل لهم ليزدادوا غيًّا إلى غيّهم وظلمًا إلى ظلمهم، ويغتروا بإمهال الله لهم حتى يصلوا إلى حد معين من الظلم والكبر والعتوّ في الأرض لا يمهلهم الله عز وجل بعده، وإنما يحق عليهم موعده سبحانه في إهلاكهم؛ لأن الله عز وجل لا يترك الظالم المتكبر يظلم إلى ما لا نهاية، وإنما يملي له ليسارع إلى نهايته المحددة وموعده الذي يقصمه الله عز وجل عنده لا يتقدم عليه ولا يتأخر.
وسنة الإملاء هذه نراها الآن تعمل فيما يفعله الأمريكان واليهود في ديار المسلمين وننتظر وعْد الله فيهم؛ قال الله تعالى: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ [آل عمران:178].
سنة التدافع وسنة الصراع بين الحق والباطل
وهذه السنة أيضًا من أهم السنن الربانية التي يجب الوقوف عندها، وعدم نسيانها أو الغفلة عنها.
والمتأمل في دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع أقوامهم يلمس هذه السنة بوضوح وجلاء؛ قال الله تعالى بعد أن انتصر المسلمون بقيادة “طالوت” وقتل “داود” “جالوت” (الكافر): ﴿فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة:251].
وقال تعالى بعد إذنه سبحانه للمؤمنين بالقتال: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج:39-40].
والصراع والمدافعة بين الحق والباطل وُجِدا منذ أن أهبط “آدم” عليه الصلاة والسلام على هذه الأرض ومعه إبليس ـ الملعون ـ أعاذنا الله منه. واقتضت حكمة الله عز وجل أن يستمر هذا الصراع إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها؛ بين حزب الله عز وجل، وحزب الشيطان.
وليس بالضرورة أن تكون المدافعة أو أن يكون الصراع بالقتال والسلاح، بل إنه يكون بغير ذلك، وما القتال إلا مرحلة من مراحل هذا الصراع..
فإقامة الحجة على الباطل وأهلِه مدافعة، وإزالة الشُبه عن الحق وأهله مدافعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مدافعة، والصبر على ابتلاء الأعداء من الكفرة والظلمة والثبات على الدين مدافعة وصراع، ويأتي الجهاد والقتال في سبيل الله عز وجل على رأس وذروة هذه المدافعة والصراع؛ فيقذف الله بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق.
خاتمة
إنه ما دام هناك حق وباطل فالصراع موجود والمدافعة حتمية.
وهذا الصراع لصالح البشرية وخيرها، ولو كان فيه من العناء والشدة والمكاره؛ فإن هذه المشقات كلها تهون وتصغر عند المفاسد العظيمة التي تنشأ فيما لو لم يكن هناك دفع للفساد وصراع مع الباطل، كما مر بنا في قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾ [البقرة: 251]، وهذا يفرض على أهل الحق السير على هذه السنة، وبذل الجهد الجهيد في مدافعة الباطل وأهله، وإحقاق الحق وتمكين أهله، ورد البشرية الشاردة إلى عبودية الله تعالى وتوحيده، وإنقاذها من الشرك ومفاسده.
إن الذين يطمعون في الإصلاح ودرء الفساد عن الأمة بدون هذه السنة ـ أعني سنة المدافعة مع الباطل وأهل الفساد ـ إنهم يتنكَّبون منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله عز وجل الذي ارتضاه واختاره لهم؛ وإن الذين يؤْثرون السلامة والخوف من عناء المدافعة مع الفساد وأهله؛ إنهم بهذا التصرف لا يَسْلمون من العناء والمشقة؛ بل إنهم يقعون في مشقة أعظم وعناء أكبر يقاسونه في دينهم وأنفسهم وأعراضهم وأموالهم، وهذه هي ضريبة السكوت وفساد التصور وإيثار الحياة الدنيا.
………………………………….
الهوامش:
- منهج كتاب التاريخ الإسلامي، ص161.