ثمة أناس هم “أسرى الواقع” لا يرون أبعد مما تعطيه الأحداث الجزئية، وهذا قصور شديد؛ فالمؤمن يرى في قدر الله طلاقة لا تحدها الأحداث القريبة؛ فيسري قدره كيفما شاء سبحانه، ومن حيث لا يعلمون.
مقدمة
يتجسد في حادثة مقتل الصحفي السعودي “جمال خاشقجي” رسالة لأسرى واقعهم؛ بأن مشيئة الله مطلقة وليست أسيرة معطيات الواقع.
﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس: 82].
﴿إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [البقرة: 117] و[آل عمران: 47] و[مريم: 35] و[غافر: 68].
﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [النحل: 40].
فيؤمنوا بطلاقة المشيئة الإلهية ويستغفروا الله من كلماتِ نبْتٍ منهم استخفوا فيها ببعض أولياء الله حين فاض يقين قلوبهم على ألسنتهم فنطقوا بما تنطوي عليه قلوبهم من قوة اليقين بنصر الله..
مقتدين برسول الله، صلى الله عليه وسلم، حين قال لأصحابه في مكة حين شكوا إليه قائلين:
ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا؟
قال: «كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض، فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون». (1صحيح البخاري رقم (3612) و(3852) و(6943))
تُرى.. هل كان يخطر ببال بلال أنه بعد أقل من خمسة عشر عاما يَقتل هو بيده من كان يعذبه في مكة قائلا: “لا نجوت إن نجا”. (2صحيح البخاري رقم (2301))
﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [آل عمران: 26].
من كان يظن أن “ابن علي” ـ تونس ـ ذا القبضة الحديدية الذي كان “نايف” يعده مثَله الأعلى وقدوته؛ ينهار بالصورة التي أرانا الله إياها، ورأينا من العوام من يصيح في الشارع متعجبا من عجيب صنع الله سبحانه وتعالى بالطاغية.
ولم يخطر ببال أعدائه الذين آذاهم وشردهم وسجنهم وقتلهم وسباهم ما انتهى إليه أمره.
انحرافاتٌ تحت ضغط الواقع
لست أشك أن كثيرا منهم كان يقيس الأمور بالمعطيات المادية المشاهَدة، فيصيب بعضَهم الإحباط من إمكان استئصاله وتغييره، فيرضى بالواقع ويخلد الى الأرض..
ويجنح آخرون إلى التحلل من الضوابط الشرعية في أمر الله ونهيه في الولاء والبراء، ويركنون إلى الذين ظلموا، ويتحللون من بعض أحكام وشرائع دينهم إرضاء لأعداء الله من اليهود والنصارى الأمريكان وغيرهم.
وربما وصل الحال ببعضهم إلى اتخاذ “الديموقراطية” إلها آخر، ونادى بها وضحّى بنفسه وبمن يأتمر بأمره ويستنير بمشورته؛ إرضاءً للغرب، حتى يساعدوه في استئصال طاغيته؛ فجاء أمر الله اللطيف لما يشاء بما لم يكن لهم جميعا في الحسبان، وسقط الطاغية بأسرع مما كان يتوقع الجميع .. حتى إن الغرب «فوجئ بسقوطه..!» كما قالت “كلنتون” وزيرة خارجية امريكا وقتها، وقد صدقَت.
وذهب بعض المفتونين بالغرب الظانين أنه “على كل شيء قدير!!” إلى أنها “مؤامرة” خطط لها الغرب ونفذها العامة والغوغاء. وهو كلام ساقط يُفرح الغرب، وفيه سوء ظن بالله، وأنه إذا أراد شيئا هيأ أسبابه ﴿إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ﴾ [يوسف: 100].
ومثل هذا الظن يفرح الغرب لأنه ينصرهم بالرعب يقذفه في قلوب عامة المسلمين، فلا يفكر أحد منهم بالمقاومة.
ومع الأسف نجحوا في غرس هذه الروح “الانهزامية” في نفوس عامة المسلمين بفعل إعلامهم وأكاذيبهم وبطولاتهم التي يسوّقونها علينا، ويسوّقها مع الأسف بعضُ المفتونين بهم وبقوتهم من المثقفين والصحفيين والسياسيين..
وبكل أسف نقول: ويسوقها بعض من انتسب إلى العلم والدعوة!! حتى سمعتُ بعضهم يسخر ممن يعتقد أن أمريكا ستسقط قريبا قائلا: “أمريكا ما هي طيارة تسقط”، يعني أن أمريكا دولة مؤسسات ويستحيل سقوطها.. هكذا يُفهم من كلامه أو هكذا يفهمه من لا يكادون يفقهون حديثا؛ وما أكثرهم هذه الأيام.
إنه لمن شنيع المعتقد وسيء القول أن نأسر “طلاقة المشيئة الإلهية” ونحكمها بالأسباب المادية التي نحتكم إليها والتي أُمرنا شرعا أن نأخذ بها، لكن نُهينا شرعا أن نحاكم أفعال الله وإرادته إليها.
طلاقة المشيئة، وقدر الله من حيث لا يعلمون
إن من القوانين التي وضعها الله في الكون أن النار من طبعها الإحراق، والماء من طبعه الإغراق، فإذا أراد خرق هذه السنة الكونية فعل، لا رادّ لقضائه ولا معقّب لحكمه، فلم تحرق النار إبراهيم حين شاء الله ذلك، ولم يغرق الماء موسى حين شاء الله ذلك، وأغرق نفسُ الماء فرعون حين شاء الله ذلك.
لقد كانت حادثة “بو عزيزي” تونس سببا ساقه الله حين أراد إسقاط طاغية، لا يستطيع أحد أن يزعم أنه خطط لها؛ فكان ما أراد الله من تسارع الأمور وخروجها عن سيطرة الطاغية ثم سقوطه، ففعل به الله ما كان يفعل هو بالمستضعفين من التشريد والطرد من بلده.
دونكم “القذافي” ففيه مُعْتَبَرٌ؛ كم كان يهدد ويزبد ويرعد، ثم كيف انتهى به الأمر بعد أيام قليلة من تهديداته، وشفى الله قلوبا مكلومة نالها من أذاه واضطهاده شيئٌ كثير.
ثم انظر إلى “حُسنِي” كيف قذف الله الرعب في قلبه، وسلَبه ملكه بعد أن كان يخطط لجعله لولده من بعده؛ فإذا به يذهب إلى غير رجعة، ويذهبون به إلى الحبس.
وقل مثل ذلك في “حاكم اليمن” كيف كانت نهايته، وقريبا ستزف البشرى ببشّار، وأملنا في الله عظيم.
إني لأعجب من الطواغيت، أولياءِ اليهود والنصارى، الذين تزعّموا “الثورة المضادة” لثورات الشعوب؛ كيف لا يخافون نقمة الله وقد رأوا عجيب صُنعه بالطواغيت وأليم أخْذه ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ [هود: 102].
لكن العجب يزول حين نعلم نفاقهم وما أخبرنا الله عن أسلافهم بقوله: ﴿أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ [التوبة: 126].
وعن أسلافهم من المتكبرين وسنته فيهم بقوله: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ﴾ [الأعراف: 146].
خاتمة
على هذا المنحى “الطليق” يجب أن يكون قلب المؤمن، ورؤيته وبصيرته، فلا يستأسره حدث ولا يخضع لأزمة عابرة تُفقده يقينه وثقته، وثباته واستبشاره.
بقي أن ننظر (3انظر الجزء الثاني) في علاقة هذا الحدث مع ذلك الغر الذي آذى دين الله والمسلمين.
يُتبع إن شاء الله..
الهوامش
- صحيح البخاري رقم (3612) و(3852) و(6943).
- صحيح البخاري رقم (2301).
- انظر الجزء الثاني.