يستخدم العلمانيون الابتزاز العاطفي للناس بحبهم الفطري لموطنهم لقلب الموازين العقدية وخلق مفاهيم مناقضة للدين وأحكامه بجرأة وقحة.
مقدمة
في المقال السابق “الوطنية طاغوت العصر“ تم إيضاح خطورة المفهوم، ونشأته ورجوعه الى وثنية أوروبا زمن “أثينا” القديمة، ومصادمته للعقيدة، وأنه مرادف ومتلازم مع العلمانية، وانسلاخ من الاسلام.. وفي هذا المقال ننظر في الآثار المترتبة على هذا الانحراف الذي يستخدم عاطفة فطرية بريئة للتوصل الى نقض العقيدة وتراجع الأمة.
من الآثار المترتبة على طاغوت الوطنية
أولا: انقلاب الموازين
يقوم مصطلح “الدولة الوطنية” على مبدأ السيادة على الحدود الجغرافية، والمصالح الأرضية المرتبطة بها لتوفر الأمن والرفاه والسعادة للمواطنين.
في “الدولة الوطنية” استُبدل الولاء لـ “الله” وحده؛ بالولاء للوطن! أو أُشرك معه..!
فظهر “إله” جديد! اسمه “الوطنية”؛ فانقلبت كل الموازين، وترتب على هذا الأمر لوازم كثيرة. فعلى سبيل المثال لا الحصر: استبدل الولاء للدين بالولاء للجغرافيا..! واستُنسل منها مصطلح جديد “غريب” اسمه “المواطن”! بدلاً من (المسلم)!
وعلى هذا الأساس يتحدد الإخاء، وتُعطى الحقوق، ويثمّن الأفراد، وتُمنح الهوية والجنسية!
فأصبح “المواطن” النصراني أو الباطني أوْلى بالمودة والإخاء والحقوق؛ من المسلم السنّي “الأجنبي”.
واستُبدل الجهاد والرباط؛ بحماية الحدود؛ فأصبح الجار أو الأخ الشقيق هو العدو الأول المحتمل لمشاركته الحدود الوطنية، والدول اللدودة البعيدة ليست عدواً محتملاً! لأنها لا تقع على الحدود الوطنية المقدسة، ومن لم يؤمن بذلك فقد خان بيعته الوطنية؛ أو كفر بها.
إن لم تكن هذه هي العلمانية؛ فأي شيء تكون؟
وعلى هذا نقول: لا يمكن أن تكون “الدولة الوطنية” إلا دولة ليبرالية علمانية، ولا يمكن أن تقوم أي “دولة وطنية” إلا بهذا المفهوم، وعلى هذه الثوابت.
[للمزيد: الإسـلام هويـة تجمـع الأمـة]
ثانياً: الابتزاز العاطفي
قامت “الدولة الوطنية” على ابتزاز حبّ الناس لأوطانهم! و على استفزاز هذه المشاعر الفطرية البريئة، ثم تحويلها إلى تمرد على ألوهية الله!
بأن رتّبت على هذا الحب الفطري وعلى الولاء للوطن “استحقاقاً” أرضياً بشرياً، فرضته على الدين!
استحقاقٌ تنتزع بموجبه؛ تفرده سبحانه بـ (الحُكم، والأمر “والتشريع”)..! فتجعله للناس ـ (مجلس النواب، مجلس الشورى، البرلمان، الخبراء.. الخ) ـ من دون الله!
وربما يجاملون، أو يستحيون ـ أحياناً ـ فيجعلون الأمر مشاركة معه..! أي “قوانين مختلطة”. تعالى الله عما يشركون.
الدولة “الوطنية” يمكن أن تكون دولة “وطنية” نصرانية، أو وطنية “بوذية” أو وطنية “شيوعية” أو “هندوكية”؛ لكنها لا يمكن أن تكون وطنيةً إسلاميةً بحال.
الإسلام لا يقبل معه أي صورة من صور الشرك مهما قلّت مساحتها أو صغر حجمها.
ومن يرى: أنّ “وطنيةً ما” يمكن أن يكون لها خصوصية أو استثناء يجعلانها رديفاً للإسلام أو شريكاً مقبولا للتوحيد!
أو من يعيش في أوهام المزاوجة بين لوازم “الإسلام” ولوازم “الوطنية” فعليه أن يقشع غمامة الشرك عن معتقده ويبصر الحقيقة. حقيقة استحالة الجمع بين لوازم “الوطنية” ولوازم “التوحيد”.
ومن يعتقد غير ذلك؛ فليأت بكتاب، أو أثارة من علم إن كان من الصادقين، وهيهات.
ولهذا نجزم أن “الوطنية” وجه من أوجه الليبرالية المتعددة، ولا تمتّ للإسلام بصِلة.
ثالثـاً: “الوطن” الإسلامي .. و”الإسلام” الوطني
بعد أن كان “الوطن الإسلامي” كله ـ عدا الأقليات الباطنية ـ وعبر تاريخه الطويل، تجمعه وحدة دينية وسياسية واقتصادية وفكرية؛ بالرغم من تعدد لغاته وأعراقه وثقافاته؛ “استُولِد” من عبادة “طاغوت” الوطنية الجديد عدة ديانات “إسلامية” “سُنّية” جديدة!
وتولد لكل دين إسلامي سنّي جديد: طاغوت جديد .. أو إله جديد خاص به!
فهناك إسلام “مصري” ـ مثلاً ـ له “إلهه” الوطني الخاص به، وآخر سوري وثالث مغربي..؛ وهكذا، حتى في الدول غير الإسلامية! أصبح هناك إسلام أمريكي، وآخر إنجليزي وثالث فرنسي ورابع روسي .. وهكذا.
بمعنى أنه أصبح عدد الأديان الإسلامية الجديدة بعدد الدول الوطنية في الأرض! وعُدِّلت الديانات الإسلامية الجديدة المخترعة، حسب ما يمليه عليها إلهها أو طاغوتها “الوطن”! وأصبح لكل “دولة وطنية” إسلامها الوطني الخاص، مثله مثل العلم الوطني، والنشيد الوطنيّ! والهُوية الوطنية، والطوابع الوطنية، والجواز الوطني، والزي الوطني..!
إسلام “جديد” تصوغه كل دولة وتُحرّفه وتُكيّفه وتُبدّله؛ حسب ما تمليه مصالحها “الوطنية”!
وكل دولة وطنية تدّعي أن إسلامها هو الإسلام الصحيح، وأنّ قراءتها للنصوص الإسلامية الشرعية ـ التي لا تؤمن بها أصلاً! ـ هي القراءة الصحيحة!
وجُعل لكل دين وطني إسلامي جديد؛ قضاؤه وفقهه الخاص، ومؤسساته الدينية وأجهزته الخاصة،
وكَهنته وسَدنته الخاصين؛ من قضاة ومشرّعين، ومُفتين، ومُحلّلين ومحرّمين ومحرّفين “مُنحرفين”!
فعُدّل “الإسلام” وغُيّر، وكُيّف: سياسياً واقتصادياً وعرقياً وجغرافياً؛ حسب ما تقتضيه المصلحة الوطنية.
[للمزيد: هويّة الأمة الإسلامية]
رابعاً: ظهور مصطلحات غريبة ومستويات جديدة
مصطلحات غريبة: “المواطن ـ المواطنة ـ الجنسية”
المُواطِـن
هو اصطلاح جديد محْدَث بالكامل، لا يُعرف في تاريخ الإسلام، ويُطلق على المولود في تلك البقعة السياسية الجغرافية المسماة بـ “الوطن” ويكتسب الفرد “مواطَنته” النفيسة! بحكم “الولادة” أو “الأبوين” أو “القوانين السارية”.
وله حقوق وعليه واجبات يتميز بها عن “غير المواطنين” وليس من واجباته الالتزام بـ “الدين” بقدر ما هو الالتزام بقيم المواطَنة والوطنية ولوازمهما.
وله في مقابل ذلك استحقاقات كثيرة وخصائص متميزة تسبغها عليه مرتبة “المواطَنة”.
المواطَنَة
هو ذلك السلوك الذي تذوب فيه الفوارق بين المواطنين؛ إلا فيما يتعلق بالأحوال الشخصية..! وتذوب فيه فوارق “المذهب” والقبيلة والعِرق! وكل الأمور التي تفرّق أبناء “الوطن” الواحد وتُشرذِمهم وتحرّض على الكراهية والشّحناء، وتشيع بينهم العداوة والبغضاء وقد تؤدّي إلى الحروب وتسبب الانقسام والفُرقة والتشظِّي بين أبناء “الوطن”..!
“المواطَنة” حقوق وواجبات، تُحتّم الدفاع عن حدود الوطن، وترابه، ودستوره؛ وإن كان أرضيا!
“المواطَنة” مرتَبة وامتياز يستحقها كل من آمن بمبادئ الوطنية واعتنقها؛ عقيدة وسلوكا.
بـ “المواطنة” يكون له حق المساواة مع غيره من المواطنين، أياً كان دينه أو مذهبه أو طائفته، وبها: يكون له حق التصويت على “تشريع!” القوانين أو إلغائها ولو ظاهرياً.
وبها يكون له حق تكوين الأحزاب والاعتراض والمحاسبة والترشّح أو انتخاب النواب أو أعضاء البرلمان أو أعضاء المجالس النيابية والبلدية، أو الحكومة، ولو ظاهرياً.
“المواطَنَة” هي المحددة لأفضلية “المواطن” أمام القبيلة والجماعة، وفي “الوظيفة” والعمل؛
لا يستحق أحدٌ بدونها “الوظيفة” ولا العمل أو الكسب؛؛ فضلاً عن الاحترام والحرية.
الجنسيّة
الجنسية: هي مصطلح أممي جديد بالكامل، أفرزته أجندة المشروع (الغربي “الإغريقي”)!
هي بطاقة التعريف المؤكدة للهوية “الأرضية”، وللقبول بالمشروع العالمي الحديث الذي يربط الإنسان بالحدود الجغرافية؛ حدود “الكلأ والمرعي” ومشروع “سازانوف ـ سايكس ـ بيكو”.
الجنسية تلغي التاريخ الإيماني، وتبطل النسب الديني، بل وتربط الناس إلى ما قبل الإسلام، إلى عصور الجاهلية الشركية؛ باعتبارهم مواطنين قدماء، من أهل هذا البلد أو ذاك!
الجنسية في عرف الدول الوطنية؛ هي القِيمة الحقيقية للإنسان، والمرجعية، والمحددة للهُوية.
الجنسية هي المعرِّفة للإنسان، وهي المُثَمِّنة لقيمته في بلده وعلى أرضه فضلاً عن “الخارج”.
فليس هناك أمام الجنسية موقع حقيقي لا للدين ولا للقبيلة، ولا لتاريخها، ولا للوازمها.
والذي ليس له “جنسية” ولا ينتمي لأي دولة وطنية لن يكون له هُوية! ولا مُعرّف! وإن كان من أكابر العلماء، أو ينتمي لأكبر القبائل وأعظمها أو أكثرها شهرة، وسيكون نَكرة! غريب في الأرض كلها! ولن يكون له أي حقوق ولا قيمة! ويكون حاله كمن لا وجود له!
وإذا ما أرادت الدولة “الوطنية” تحقيق أقصى عقوبة بحق أحد “رعاياها” فإنها تحرمه من فضيلة “الجنسية”..! وحقوقها “المقدسة”؛ فيُحرم من حق الانتماء لأسرته، ويحرم من حق الانتماء لقبيلته وعشيرته، وأرضه..!
وتحرمه من حق الانتساب للمكان الذي ولد فيه، أو تربى فوق ترابه، وعاش على أرضه، أو دفن فيه آباؤه وأجداده! فيتنكر له الجميع، فلا أرض تؤويه، ولا قبيلة تظله ولا أسرة تضمه..!
ولن يتمكن من العمل أو العلاج ولا التعلم، ولا السفر أو التنقل، ولا العيش أو السكن في أي مكان على الأرض؛ إلّا بحق اللجوء.
ولا لجوء إلا إلى “الروم!” ـ العدوّ المُلجئ والملتجأ..!
وإذا ما سجن أو اعتقل وهو بلا جنسية؛ فلا قوانين تحميه، ولا قبيلة يلجأ إليها، ولا دولة تطالب بحقوقه.
خاتمة
للاسلام سياقه الفريد، فله عقيدته وأحكامه، مفاهيمه ومصطلحاته.
الاسلام هو قطب رحى الأمة، وهو الذي يرتب حقوق الفرد ويحدد دور القبيلة ومكانة “الموطن” واعتبار المشاعر الانسانية، وهو الذي يجعل للمسلم دوره في الحياة، ودور “الأمة” في التاريخ.
……………………….