في فترات دولة الكفار يظنون أنهم نالوا من المسلمين ما يسكتهم أبدا ويطفيء جذوة الدين في قلوبهم؛ فيفاجأون أن الدين حيّ وأن النور ينبعث.

سيرة مختصرة لحياة بديع الزمان سعيد النورسي (1293 – 1379هـ 1873 -1960 م)

مقدمة

هذه كلمات رجل جاء على حين انتشاء الكفر وانتفاخ الباطل وفتنة الكثير بالبراق المخادِع من الشعارات..

“لو أن أبواب القبور كلها أغلقت وأعدم الموت من الوجود لجاز أن ينحصر الإذن في دائرتكم أما وأن ثلاثين ألف جنازة تنادي كل يوم نداء الموت، وتوقع على حكمه؛ فإن هذا يعني أن ثمة وظائف وواجبات أخري أهم كثيرا مما انحصر في دائرتكم وأحكامكم “.

“بني وطني.. لا تسيئوا تفسير الحرية كي لا تذهب من أيديكم. لا تصبّوا العبودية العفنة في قوالب براقة وتسقوننا من علقمها، إن الحرية لا تتحقق ولا تنمو إلا بتطبيق أحكام الشريعة ومراعاة آدابها”.

“لقد تساءلتم هل أنا ممن يشتغل بالطرق الصوفية وإنني أقول لكم: إن عصرنا هذا هو عصر حفظ الإيمان لا حفظ الطريقة، وإن كثيرين هم أولئك الذين يدخلون الجنة بغير طريقة ولكن أحداً لا يدخل الجنة بغير إيمان”.

المولد

ولد سعيد النورسي الملقب بـ (بديع الزمان) في قرية (نورس) الواقعة شرقي الأناضول في تركيا عام (1294هـ – 1877م) مع أبوين صالحين كانا مضرب المثل في التقوى والورع والصلاح، ونشأ في بيئة كردية يخيم عليها الجهل والفقر، كأكثر بلاد المسلمين في أواخر القرن الماضي، وبدايات هذا القرن. وإلى قريته (نورس) ينسب.

علمه واهتمامه بالعلوم الحديثة

وقد بدت عليه أمارات الفطنة والذكاء منذ طفولته، ولما دخل (الكُتّاب) وتتلمذ على أيدي المشايخ والعلماء بهرهم بقوة ذاكرته، وبداهته، وذكائه، ودقة ملاحظته، وقدرته على الاستيعاب والحفظ، الأمر الذي جعله ينال الإجازة العلمية وهو ابن أربع عشرة سنة بعد أن تبحر في العلوم العقلية والنقلية بجهده الشخصي؛ فقد حفظ عن ظهر غيب، ثمانين كتاباً من أمهات الكتب العربية؛ كما حفظ القرآن الكريم في وقت مبكر من حياته الخصبة الحافلة.

كما عكف على دراسة العلوم العصرية، أو العلوم الكونية الطبيعية (رياضيات، وفلك، وكيمياء، وفيزياء، وجيولوجيا) والجغرافيا والتاريخ والفلسفة الحديثة وسواها من العلوم، حتى غدا عالماً فيها، ومناظراً فذاً للمختصين بها، وصار له رصيد ضخم من المعلومات، مكَّنه من الانطلاق من مرتكزات علمية سليمة.

ومما يثير الإعجاب أن بديع الزمان، رحمه الله، كثيرا ما نبَّه المعنيين والمسئولين من سلاطين وحكام بأن القرن الآتي هو “قرن العلم”؛ لذا فإن المدارس الدينية القائمة آنذاك والتي كانت مقتصرة على الدراسات الدينية فحسْب لا تخرج أجيالا من الشباب قادرة على التصدي للمغرمين بالحضارة الغربية ما لم تطعَّم هذه الدراسات بالعلوم الكونية الحديثة لذا فقد حذّر وأنذر وأعذر في خطبه الكثيرة ومقالاته العديدة وتأليفه ومقابلاته الشخصية وتجواله في المدن والأرياف.. كل ذلك لإيقاظ الأمة والمسئولين من هذه الغفلة التي طال أمدُها ومن الكارثة المتوقعة، ولكن صيحاته هذه لم تلْق سوي آذانا صُما وقلوبا عميا غُلفا لا تعي حتي وقعت الكارثة.

وفي هذه المرحلة سافر إلى إستانبول عام (1896) ليقدم مشروعاً لإنشاء جامعة إسلامية حديثة في شرقي الأناضول ـ بلاد الأكراد ـ وأطلق عليها اسم (مدرسة الزهراء) لتكون على منوال (الأزهر) في مصر؛ غير أنها تختلف عن الأزهر بتدريس العلوم الحديثة إلى جانب العلوم الشرعية والعربية، وذلك من أجل النهوض بالأكراد المسلمين المهمَلين الذين يفتك بهم الجهل والفقر والتخلف؛ ولكن النورسي لم يلق قبولاً من السلطان عبد الحميد ومن وزير داخليته.

“النورسي” المجاهد

أسس (الاتحاد المحمدي) في سنة 1909 رداً على دعاة القومية الطورانية، والوطنية الضيّقة، كجمعية الاتحاد والترقي، وجمعية تركيا الفتاة.

انضم إلى (تشكيلات خاصة) وهي مؤسسة سياسية عسكرية أمنية سرية، شُكلت بأمر السلطان محمد رشاد قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى، من أجل المحافظة على أراضي الدولة العثمانية، ومحاربة أعدائها، وكان قد انضم إلى هذه المؤسسة كثير من المفكرين والكُتّاب، وكان النورسي من أنشط أعضاء قسم (الاتحاد الإسلامي) فيها، وأصدر مع عدد من العلماء (فتوى الجهاد) التي تهيب بالمسلمين أن يهبوا للدفاع عن الخلافة.

وفي هذه المرحلة سافر إلى مدينة (وان) عام (1910) وبدأ يلقى دروسه ومحاضراته، متجولاً بين القبائل والعشائر الكردية، يعلّمهم أمور دينهم، ويرشدهم إلى الحق.

وفي سنة (1911) سافر إلى دمشق، وألقى في المسجد الأموي خطبته الشهيرة باسم الخطبة الشامية التي وصف فيها أمراض الأمة الإسلامية، ووسائل علاجها.

وفي سنة (1912) عُين بديع الزمان قائداً لقوات الفدائيين الذين جاؤوا من شرقي الأناضول، من الأكراد خاصة.

وفي سنة (1916) تمكنت القوات الروسية من الدخول إلى مدينة (أرضروم) التركية، وقد تصدى النورسي وتلاميذه المتطوعون للقوات الروسية، وخاضوا عدة معارك ضدها، ثم جُرح النورسي جرحاً بليغاً، ونزف نزفاً شديداً كاد يودي بحياته، الأمر الذي اضطر أحد تلاميذه إلى إعلام القوات الروسية بذلك، فاقتادوه أسيراً، وبقي في الأسر في (قوصطرما) سنتين وأربعة أشهر، ثم تمكن من الهرب من معسكرات الاعتقال، إثر الثورة البلشفية في روسيا.

النورسي وأتاتورك

دُعي إلى أنقرة سنة، (1922) واستُقبل في المحطة استقالاً حافلاً، ولكنه لاحظ أن أكثر النواب لا يُصلّون، كما أن “مصطفى كمال” يسلك سلوكاً معادياً للإسلام، فقرر أن يطبع بياناً تضمن عشر مواد، وجهه إلى النواب، واستهله بقوله:

“يا أيها المبعوثون .. إنكم لمبعوثون ليوم عظيم”

وكان من نتيجة هذا البيان الذي وُزع بين النواب وتولي إلقاءه الجنرال “كاظم قره بكر” (القائد الأول لحركة الاستقلال) أن ما يقارب ستين نائبا من النواب قد استقاموا على التدين وأقاموا الصلاة؛ حتي إن مسجد بناية المجلس لم يعد كافيا للمصلين فانتقلوا إلى غرفة أكبر منه .

لم يرض مصطفى كمال عن هذا البيان، فاستدعى بديع الزمان وحدثت بينهما مشادة عنيفة وكان مما قاله مصطفى كمال:

” لا ريب أننا بحاجة إلى أستاذ قدير مثلك. لقد دعوناك إلى هنا للاستفادة من آرائك المهمة، ولكن أول عمل جهودكم هنا هو بث الفرقة بين أهل هذا المجلس “

فأجابه بديع الزمان مشيرا إليه بإصبعه في حدة:

“باشا .. باشا .. إن أعظم حقيقة تتجلى بعد الإيمان هي الصلاة وإن الذي لا يصلي خائن وحكم الخائن مردود”

لذلك فكر “مصطفى كمال” بإبعاده عن أنقرة بحجة تعيينه واعظا عاما للولايات الشرقية وبمرتب مُغرٍ؛ ولكن “سعيد النورسي” رفض هذا الطلب.

مشروعه

كرّس النورسي حياته بعد تحوله الحاسم إلى “سعيد الجديد” للقيام بمشروعٍ سماه “إنقاذ الإيمان وخدمة القرآن.

يقوم المشروع على تحويل إيمان الناس من مجرد إيمان تقليدي موروث إلى إيمان تحقيقي مشهود. كما يقوم مشروعه في شقه الآخر على تبيان حقائق القرآن للناس وأبرزها التوحيد والنبوة والحشر.

وتبدأ هذه المرحلة من بداية حياته في منفاه في “بارلا “1926م، وتستمر هذه المرحلة حتي خروجه من سجن “آفيون” سنة (1949)..

في هذه المرحلة الثانية نرى أن “سعيدا الجديد” قد طلّق الحياة السياسية تحت شعاره المعروف “أعوذ بالله من الشيطان والسياسة” وأخذ على عاتقه مسألة “إنقاذ الإيمان” في تركيا، وذلك بعد أن أيقن استحالة خدمة الإسلام بالدخول في معترك السياسة ودهاليزها وصراعاتها العقيمة، خاصة بعد أن سُدت المدارس الدينية وحُولت مئات الجوامع والمساجد إلى مخازن أو اسطبلات أو مراكز للشباب؛ فتحول سعيد النورسي من العمل السياسي وصرف اهتمامه إلى النواحي الإيمانية والقضايا الاعتقادية؛ ففّوت على أعداء الإسلام كل فرصة أو حجة للوقوف أمام نشاطه. وبالرغم من أنه قُدم إلى المحاكم ست مرات فإن هذه المحاكم لم تكن تجد أى دليل ملموس على أنه يقوم بشئ مخالف للنظام أو الأمن. وبالرغم مما تحاول هي هدمه فإن المحاكم لم تكن تجد دليلا قانونيا ضده، فضلا عن أن الأستاذ سعيد النورسي أيقن بثاقب بصره أنه ما لم ينشئ جيلا مؤمنا بالله ورسوله حتي أعماق قلبه ووجدانه فإن كل جهد سيكون عبثا لا جدوى منه .

وهل يمكن خدمة الإسلام بأناس لا يملكون سوى أنصاف الإيمان..؟ وهل يمكن ذلك وبنفوس لم تعرف الإسلام جيدا ولم تتشرب به..؟ ألا يكون ذلك أكبر تشويه لصورة الإسلام وأكبر أذى يمكن إلحاقه به..؟

إن هذه النظرة العميقة المتأنية والبعيدة عن الارتجال والعجلة ونفاذ الصبر قد تكن درسا مفيدا للكثيرين، وتبرهن على أن في الوسع خدمة الإسلام بعيدا عن السياسة وصراعاتها.

مقاومة المد العلماني

لقد كرس النورسي نشاطه ودعوته على مقاومة المد العلماني الذي تمثل في:

  • إلغاء الخلافة العثمانية.
  • استبدال القوانين الوضعية ـ والقانون السويسري المدني تحديداً ـ بالشريعة الإسلامية.
  • إلغاء التعليم الديني.
  • منع الكتابة بالحروف العربية وفرضها بالحروف اللاتينية.
  • تغيير الأذان من الكلمات العربية إلى الكلمات التركية.
  • فرض النظرية الطورانية “وأن الترك أصل الحضارات”.
  • إلزام الناس بوضع القبعة غطاء للرأس.
  • جعل يوم الأحد يوم العطلة الرسمية بدلاً من يوم الجمعة.
  • ارتداء الجبة السوداء والعمامة البيضاء مقصور على رجال الدين.
  • ترجمة القرآن إلى اللغة التركية وذلك عام (1350هـ/1931م) وتوزيعه في المساجد.
  • تحريم الاحتفال بعيدي الأضحى والفطر، وإلغاء التقويم الهجري، وإحداث تغييرات في نظام المواريث.
  • الاتجاه نحو الغرب ومحاكاته في عاداته وتقاليده واهتماماته.
  • طمس العقيدة الإسلامية في نفوس الناس بعامة والناشئة بخاصة.

أعوذ بالله من الشيطان والسياسة

ويعلل الأستاذ “سعيد النورسي” سبب انسحابه من ميدان السياسة في تلك الفترة وانتقاله إلى “سعيد الجديد” بما يأتي :

لقد خاض سعيد القديم غمار السياسة ما يقارب العشر سنوات؛ عله يخدم الدين والعلم عن طريقها؛ فذهبت محاولته أدراج الرياح إذ رأى:

إن تلك الطريق ذات مشاكل ومشكوك فيها، وإن التدخل فيها ذات خطورة، وأن أغلبها خداع وأكاذيب. وهناك احتمال أن يكون الشخص آلة بيد الأجنبي دون أن يشعر.

وكذلك فإن الذي يخوض غمار السياسة؛ إما أن يكون موافقا لسياسة الدولة أو معارضا لها..

فإن كنت موافقا فالتدخل فيها ـ بالنسبة إليّ فضول، ولا يعنيني؛ حيث أنني لست موظفا في الدولة ولا نائبا في برلمانها فلا معنى ـ عندئذ ـ لممارستي الأمور السياسية.

وإذا دخلت ضمن المعارضة أو السياسة المخالفة للدولة فلا بد أن أتدخل ـ في حينه ـ أما عن طريق الفكر أو عن طريق القوة. فإن كان التدخل فكريا فليس هنالك حاجة إليّ أيضا لأن الأمور واضحة جدا؛ فالجميع يعرفون المسائل مثلي، فلا داعي إلى الثرثرة.

وإن كان التدخل بالقوة أى بأن أُظهر المعارضة لأجل الوصول إلى هدف مشكوك فيه بإحداث المشاكل فهناك احتمال الولوج في آلاف من الآثام والأوزار؛ حيث يُبتلى الكثيرون بجريرة شخص واحد؛ فلا يرضى وجداني الولوج في الآثام وإلقاء الأبرياء فيها بناء على احتمال أو احتالمين من بين عشرة احتمالات. لأجل هذا فإن “سعيدا القديم” قد ترك السياسة ومجالسها الدنيوية كما ترك السيجارة وقراءة الجرائد.

ظهور رسائل النور نواة الحركة الإصلاحية

في تلك السنوات الحالكة كان الإسلام يتعرض لزلزال كبير في تركيا؛ فالحرب ضد الإسلام تقودها الحكومة بكل أجهزة الدعاية والإعلام التي تملكها وبأقلام جميع المنافقين والمتزلفين وأعداء الإسلام من الكتاب والصحفيين؛ في الوقت الذي كُممت فيه أفواه دعاه الإسلام وحِيلَ بينهم وبين الدفاع عن عقيدتهم؛ لذلك فقد تعرضَت أسس الإسلام وأصوله ومبادئه الأولية إلى الشك والإنكار في نفوس كثير من الشباب الذي لم يكن يجد أمامه مرشدا وموجها.

نعم، إن المنظمات الإلحادية السرية كانت تستهدف إزالة الشعائر الإسلامية ورفعها الواحدة تلو الأخرى، وطمس روح الإسلام في الأمة التركية التي رفعت راية الإسلام طوال ستة قرون، بل منذ عهد العباسيين. ولتحقيق هدفهم هذا بدأوا بتنفيذ خطة “تنشئة جيل يقوم بنفسه بعد ثلاثين سنة بإزالة القرآن ونزعه من القلوب”. وفعلاً بدأوا بتنفيذ خطتهم هذه ونجحوا في قطع روابط هذه الأمة بالإسلام وسَعَوا لها بشتى الوسائل.

فالقضية إذن ليست قضية جزئية موضعية، بل هي قضية كلية عامة شاملة تتعلق بإيمان الملايين من أبناء الجيل المقبل، وتتعلق بالحياة الأبدية لشعب كامل، شعب الأناضول حيث شهدت تلك الفترة تحولات رهيبة ودمارا فظيعا وعداء شرسا للإسلام والقرآن، ومسخا للتاريخ المجيد لهذه الأمة البطلة. حتى دفعت تلك المنظمات الإلحادية الجيل الناشئ ـ ولا سيما طلاب المدارس ـ الى نسيان ماضي أجدادهم الملئ بالجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله، وذلك بكلام براق في الظاهر لكي يقطعوا صلتهم بالإسلام، حتى هيأوا جوا ملائما لإقرار نظام إلحادي سافر.

لذلك فقد قرر الأستاذ سعيد النورسي أن يحمل تلك الأمانة الكبرى على كاهله وأن يحاول “إنقاذ الإيمان” في تركيا.

نعم .. “إنقاذ الإيمان”. تلك كانت هي المسألة الرئيسية التي لا تحتمل التأجيل أو التسويف أو الاهتمام بأى أمر عداها؛ لذلك فإنه كان يصحح مفاهيم الذين يزورنه وهم يتصورون أنه شيخ طريقة صوفية..! فكان يقول لهم :أنني لست بشيخ طريقة؛ فالوقت الآن ليس طرق صوفية بل وقت إنقاذ الإيمان.

وهكذا الأمر في رسائل النور. إذ إن سبب الاهتمام الذي نالته “رسائل النور” نابع من أهمية الزمان نفسه.. من شدة الهدْم الذي أحدثه هذا العصر في الشريعة المحمدية والشعائر الأحمدية.. ومن فتنة “آخر الزمان الحالية” التي استعاذت منها الأمة الإسلامية منذ القدم.. ومن زاوية إنقاذ إيمان المؤمنين من صولة تلك الفتن..

نعم لقد تزعزعت قلاع الإيمان التقليدية وتصدعت أمام هجمات هذا العصر الرهيب. ونأى الإيمان عن الناس وتستر بحُجب وأستار. مما يستوجب على كل مؤمن أن يملك إيماناً تحقيقياً قوياً جداً كي يمكّنه من المقاومة والثبات وحده تجاه الضلالة المهاجمة هجوماً جماعياً.

النورسي في مواجهة الإنجليز

وفي هذا الأثناء وقوات الاحتلال الانكليزي تحتل استانبول ( 16 ارت 1920) ألف بديع الزمان كتابه “الخطوات الست” وأخذ ينشره سرا بمساعدة طلابه وأصدقائه.. يهاجم بديع الزمان في هذا الكتاب الانكليز بلهجة قوية رادعة ويُبطل الشبهات التي أثيرت آنذاك ببراهين قاطعة مفندا حججهم ويلفت أنظار المسلمين إلى أطماعهم ويحارب اليأس الذي تسلط على كثير من النفوس ويشدّ العزائم .

بدأت حركة المقاومة ضد الاحتلال الأجنبي في الأناضول؛ فأصدر شيخ الإسلام “عبد الله أفندي” ـ تحت ضغط المحتلين الانكليز ـ فتوي ضد هذه الحركة والقائمين بها؛ ولكن سرعان ما قام ستة وسبعون مفتيا مع ستة وثلاثين عالما وأحد عشر نائبا بإصدار فتاوي مضادة حيث أيّدوا تلك الحركة وشجعوا على قتال المحتلين، وكان بديع الزمان أحد هؤلاء العلماء؛ حيث قال:

” إن فتوي تصدر عن مشيخة وإدارة هي تحت ضغط الانكليز وإمرتهم لا بد أن تكون غير سليمة، ولا يجوز الانصياع لها؛ ذلك لأن الذين قاموا بمقاومة احتلال الأعداء لا يمكن اعتبارهم عصاة. لذا يجب سحب هذه الفتوي”.

النورسي .. والدعوة للانفصال

وبعد أن انهارت الدولة العثمانية ومُزقت، ظهرت رغبة عند بعض المثقفين الأكراد في إنشاء دولة كردية في الولايات الشرقية من تركيا ولكون “سعيد النورسي” كردي الأصل وذا منزلة كبيرة في نفوس أهالي الولايات الشرقية أرسل إليه أحد الصحفيين رسالة يطلب فيها الانضمام إلى الداعين لتكوين هذه الدولة. وقد أجابه سعيد النورسي برسالة مطولة قال فيها:

” يا رفعت بك.. سأكون معك إن حاولت إحياء الدولة العثمانية. وأنا مستعد للتضحية بنفسي في السبيل؛ أما تكوين دولة كردية؛ فلا..”.

من كلماته أمام محكمة الجزاء الكبري

“نعم .. نحن عبارة عن جمعية. وإنها لجمعية تحوي في كل عصر على (أربعمائة) مليون من الأعضاء المنتسبين إليها، وهم في كل يوم يعبّرون خمس مرات دائما عن أتمّ علاقتهم بالدستور العظيم لهذه الجمعية، وهم يتسابقون دائما إلى تحقيق أهم شعائرها ألا وهو “إنما المؤمنون أخوة”. فنحن من أفراد هذه الجمعية المقدسة العظيمة، وظيفتنا تعريف هؤلاء الإخوة المؤمنين بحقائق القرآن تعريفا علميا راسخا. وذلك تعاونٌ منا على اعتاق أنفسنا من سجن الأبدية الذي يتهددنا” .

“إن المسألة إذن من الخطورة والإجرام بحيث تحاولون أن تستروها برداء العلمانية. فإن كان الأمر كذلك فاعلموا أنه لو كانت لى ألف روح فأنا على استعداد أن أفدي كل ذلك في سبيل أهم حقائق الكون غَلا، وهو دين الله تعالي، وسأحتمي منكم بحصن واحد فقط هو: “حسبنا الله ونعم الوكيل”.

“إذن فاسمعوا يا من بِعتم بدنياكم ونُكستم في الكفر المطلق.. أنني أقول بمنتهي ما أعطاني الله من قوة: افعلوا كل ما يمكنكم فعله فغاية ما نتمناه أن نجعل رؤوسنا فداء لأصغر حقيقة من حقائق الإسلام”.

“أيا من بِعتم دينكم بدنياكم.. أيها الكافرون التعساء.. أنفقوا ما شئتم ستكون الدنيا وبالا عليكم. لقد فُديت هذه الدعوة المقدسة بملايين الأبطال، ونحن مستعدون لأن نفديها بأرواحنا. إننا نفضّل البقاء في السجن ألف مرة على أن نري الحرمات تنتهك في ظل هذا الاستبداد.

لا يمكن أن يقال أن هناك حرية، حرية العلم أو حرية الضمير أو حرية التعبير أو حرية الدين. وبقي على طلاب الحرية أن يموتوا أو يبقوا في السجون محتمين بالله تعالي قائلين: “حسبنا الله ونعم الوكيل”.

وفاته

توفي بديع الزمان النورسي في الخامس والعشرين من شهر رمضان المبارك عام (1379هـ) الموافق للثالث والعشرين من شهر آذار (1960م)، ودفن في مدينة (أورفه).

وبعد الانقلاب العسكري في تركيا في (27/5/1960) قام الانقلابيون العسكر بنقل رفات الإمام “النورسي” إلى جهة غير معلومة.
وقد وصف شقيقه الشيخ عبد المجيد النورسي نقل رفات أخيه بديع الزمان في مذكراته، بعد خمسة أشهر من وفاته..

فقد قالوا له: سنقوم بنقل رفات أخيك الشيخ سعيد النورسي من (أورفه).. وقاموا بهدم قبر بديع الزمان، وقلت في نفسي: “لا بد أن عظام أخي الحبيب قد أصبحت رماداً، ولكن ما إن لمست الكفن، حتى خُيل إلي أنه قد توفي بالأمس. كان الكفن سليماً، ولكنه كان مصفراً بعض الشيء من جهة الرأس كانت هناك بقعة واحدة على شكل قطرة ماء”.

وهكذا نقله العسكر بطائرة مروحية إلى جهة مجهولة، وكأن الله العلي القدير قد استجاب لرغبة الإمام بديع الزمان، بأن يكون قبره مجهولاً.

ضاق الأوباش بالإمام حياً فاضطهدوه، وضاقوا به ميتاً فدفنوه في مكان لا يعرفه أحد.. وكذلك يفعلون.

…………………………..

المصادر:

  • مؤلف رسائل النور ومؤسس جماعة النور، بديع الزمان سعيد النورسي، نظرة عامة عن حياته وآثاره. تأليف:  إحسان قاسم الصالحي.
  • سيرة ذاتية للنورسي : تقديم الأخ الفاضل مصطفى صونغور.
  • البعد السياسي في حياة بديع الزمان سعيد النورسي، د/ شعلان عبد القادر إبراهيم.
  • بديع الزمان سعيد النورسي، بقلم عبد الله الطنطاوي – مجلة المنار ، العدد 63 ، شوال 1423ه
  • بديع الزمان سعيد النورسي، ومنهجه الدعوي الإصلاحي وأثره على واقع الأمة. د/ حسن حسين عياش.
  • النورسية، موقع الكاشف.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة