«احملوا أيها المسلمون دعوة القرآن وانهضوا وحلقوا فوق العالم».

«إن هذه الحركة هي هدف حياتي الأساسي، حياتي ومماتي وقْف على هذا الهدف النبيل».

«عرفْت الإسلام، وعرفت طريقة إحيائه، وقررت ألا أدخل عالم الصحافة في المستقبل إلا لأن أجعلها وسيلة لخدمة الإسلام وإحيائه».

«أيها الناس، اجعلوا قلوبكم وأذهانكم مسلمة خاضعة لله، وتخلوا عن نظم الجاهلية واسلكوا صراط الله المستقيم، وخذوا كتاب الله بالقوة لتكونوا سادة العالم وأئمة الحضارات».

«إن مثل الحركة الإسلامية كمثل الماء المتدفق، إذا واجه صخرة في طريقه لا يضيع جهده في تحطيمها، بل ينعطف يميناً ويساراً حتى يترك الصخرة وراءه تعض أناملها من الغيظ».

الشيخ أبو الأعلى المودودي” .. (1321 ـ 1399 هـ ـ 1903 ـ 1979م)

المولد والنشأة

كان أبوه سيد أحمد حسن مودود الذي ولد في دلهي بالهند سنة (1266 هـ = 1850م) واحدًا من طلاب جامعة “عليكرة”، وقد عمل مدرسًا، ثم عمل بالمحاماة، وفي (3 من رجب 1321 هـ = 25 من سبتمبر 1903م) رزق بابنه «أبو الأعلى المودودي»، وبعد ذلك بنحو عام اعتزل الأب الناس، ومال إلى الزهد، فنشأ أبو الأعلى في ذلك الجو الروحاني، وتفتحت عيناه على تلك الحياة التي تفيض بالزهد والورع والتقوى.

ولد المودودي بمدينة «أورنك أباد» في ولاية “حيدر أباد” بالهند، وكان أبوه معلمه الأول، الذي لم يعلمه في المدارس الإنجليزية واكتفى بتعليمه في البيت.

وقد عنى السيد أحمد حسن بتربية ولده على أفضل ما يتصور من الأخلاق، كما حرص أبوه على تعليمه اللغة العربية والفارسية بالإضافة إلى الفقه والحديث، وأقبل المودودي على التعليم بجد واهتمام حتى اجتاز امتحان “مولوي”، وهو ما يعادل “الليسانس”.

المودودي صحفيًا

“عرفت الإسلام، وعرفت طريقة إحيائه، وقررت ألا أدخل عالم الصحافة في المستقبل إلا لأن أجعلها وسيلة لخدمة الإسلام وإحيائه”.

عقب وفاة الوالد عام (1917) أدرك الابن أنه أصبح لا يملك إلا بناء الذات فاتجه إلى الصحافة فانضم إلى جريدة مدينة “بجنوز” (1918)، ومنها إلى جريدة “تاج” الأسبوعية، وفيها كتب افتتاحيات عديدة تتحمس للمحافظة على الخلافة الإسلامية، وفي هذه الأثناء كتب كتاب “النشاطات التبشيرية في تركيا”.

ونتيجة احتكاكه بحركة الخلافة انتقل إلى “دهلي” عاصمة الهند، وقابل مفتي الديار الهندية الشيخ “كفاية الله” والشيخ “أحمد سعيد”، وكانا من كبار جمعية العلماء بالهند، ووقع الاختيار عليه لرئاسة تحرير الصحيفة التي ستصدرها الجمعية تحت اسم “المسلم” (بين 1921و1923)، وفي عام (1924) أُصدرت جريدة “الجمعية”، ورأس المودودي تحريرها حتى (1948).

وبكتابته هذه جمع بين السياسة والإعلام والانكباب على قضايا الإسلام والمسلمين، شارحًا ومنافحًا.

وخلال إقامته في “دهلي” تعمق المودودي في العلوم الإسلامية والآداب العربية، كما تعلم الإنجليزية في أربعة أشهر، وحصّل قراءات فاحصة للآداب الإنجليزية والفلسفة والعلوم الاجتماعية؛ الأمر الذي مكّنه من إجراء المقارنة بين ما تنطوي عليه الثقافة الإسلامية وما تتضمنه الثقافة الغربية.

أصدر مجلة ” ترجمان القرآن ” الشهرية المستقلة سنة (1923)م وكان لها دور أساسى في الحركة الإسلامية في القارة الهندية.

وكان تأثير المودودي عبر “ترجمان القرآن” من أهم العوامل التي ساعدت على انتشار التيار الإسلامي في الهند، وزيادة قوته، وقد تبلور ذلك في حزب الرابطة الإسلامية، وتأكد ذلك من خلال دعوته أثناء المؤتمر الذي عُقد في “لكنو” سنة (1937م) إلى الاستقلال الذاتي للولايات ذات الأغلبية الإسلامية.

التغيير السياسي عند المودودي

ينطلق المودودي في تحديده لمنهج التغيير السياسي وأدواته المطلوبة في تغيير الواقع في ضوء المنظور الحضاري الإسلامي، من عدة منطلقات وأسس، أبرزها:

التغيير السياسي يهدف إلى الدولة الإسلامية:

لا يمكن أن تتحقق عبودية الله في الأرض أو أن ينفصل إيمان الإنسان المسلم عن إقامة شرع الله في الأرض والوصول إلى الحالة التي تتمكن فيها الأمة والشعوب المسلمة من تحقيق المعاني الكاملة لمفهوم العبودية؛ الذي يقوم على الاعتراف بربوبية الله وألوهيته من خلال سيادة قانونه الإلهي في الدولة والمجتمع، بأن يكون القانون الإلهي هو مصدر التشريع الوحيد، والقانون الوحيد المطبق في المجتمع.

ويطلق المودودي على الدولة الإسلامية مصطلح “الدولة الفكرية”، ويرى أن على كل مسلم آمن بالله عز وجل إيمانا حقا أن يسعى إلى إقامة الدولة الإسلامية، ويعتبر أن كل مسلم هو عضو في حزب الله الذي يجب أن يجاهد ويعمل ما بوسعه لتكون كلمة الله هي العليا، ولا يتحقق ذلك بغير إقامة الدولة الإسلامية، التي تقيم الشرع وتنشر الدعوة في العالم.

مراحل التغيير السياسي

والتي استنتجها المودودي من سيرة الرسول، صلى الله عليه وسلم، هي:

  1. عرض الإسلام ونشر قيمه وأفكاره بالحجة والبرهان.
  2. تشكيل جماعة أو حركة تدعو إلى هذه المباديء ويتسم نشاطها بالشمولية ينضم إليها كل من آمن بفكرتها، وتضع منهجا للتربية والتعليم.
  3. إحداث الانقلاب الاجتماعي، وما يرتبط به من تبدل في أفكار العوام وقيمهم ومشاعرهم.
  4. إقامة الدولة الإسلامية الفكرية التي تقوم على نشر الدين في الأرض.

ضرورة التغيير الاجتماعي

إن الدعوة وتشكيل الحركة الإسلامية وتوسعها ونشرها قيم الإسلام وانضمام عناصر جديدة من المجتمع إليها، سيؤدي ذلك كله إلى تشكيل قاعدة إسلامية كبيرة في المجتمع تدعو إلى الإسلام وتعمل به، وهذا سيؤول في النهاية إلى حدوث انقلاب اجتماعي نحو الإسلام، وبالتالي يقوم المجتمع الرباني بعقيدته ومشاعره وأفكاره وعلاقاته، والذي يؤدي فيما بعد إلى تهيئة الأمور لإقامة الدولة الإسلامية.

وبغير الانقلاب الاجتماعي، لا مجال للحديث عن الدولة الإسلامية، يقول المودودي، موضحا هذه القاعدة:

“والذين لهم أدنى إلمام بعلوم العمران يعرفون أن الدولة مهما كان من وضعيتها لا تتكون ولا توجد بالطرق الصناعية، فليست هي بالتي تصنع في مصنع، ثم تنقل منه وتثبت في موضع آخر، بل إنها تنشأ نشأة طبيعية لأسباب أخلاقية ونفسية وعمرانية وتاريخية، وتتفاعل هذه الأسباب فيما بينها، فتكون لها أمور أوّلية لازمة ومحركات اجتماعية ومقتضيات فطرية، تتجمع وتتقوى حتى تنبعث منها الدولة انبعاثا ..”. (1انظر المودودي، منهج الانقلاب الإسلامي ص 26- 28)

رؤيته لما يجب أن يتسلح به الدعاة

لا يقف المودودي عند حدود البيان لمباديء الإسلام وإنما يجب أن تتولى الدعوة مسؤولية بيان: كيف يمكن أن تطبق هذه المفاهيم والمباديء على المسائل والشؤون الحاضرة، حتى يقوم في الأرض نظام صالح للمدنية والاجتماع.

ولذلك يرى المودودي أن المجدد لا يكفي أن يكون عالما بالشؤون الدينية، وإنما يجب أن يكون مُلمّا بأسس الحضارة العلمية والثقافية، وأوضاع العالم المختلفة.

المرحلة الثانية أن يبدأ الدعاة والمجددون بإنشاء حركة شاملة تقوم بمهمة التجديد، والدعوة والتربية، بحيث ينضم لها الصالحون والصادقون، وتتوسع هذه الحركة يوما بعد يوم. كما يتلقى هؤلاء الأفراد تربية خاصة تستند على تشربهم ومباديء الإسلام وأخلاقه، وبالتالي تجمع الحركة الإسلامية بين الدعوة باللسان والدعوة بالخلق والعمل.

وتحاول هذه الحركة أن تتوسع في المجتمع وتقترب من كافة شرائحه، وتعمل على فهم هموم الفئات المختلفة والدعوة إلى حقوقهم، والسماع إلى مطالبهم، في ذات الوقت الذي تعمل على تدوين القوانين الإسلامية بحيث تكون قابلة للتطبيق عند إقامة الدولة الإسلامية.

والسلاح الذي يتسلح به أبناء الحركة الإسلامية: الحجة والبرهان من ناحية والأخلاق من ناحية أخرى، وتعمل على التوسع من خلال ما يسميه المودودي “علم كسب الإنسان”. (2انظر: منهج النقلاب الإسلامي ، ص10 وما بعدها)

المودودي والجماعة الإسلامية

لقد عَبَّرَ الإمام المودودي عن إحساسه بأهمية وجود جماعة مؤمنة مجاهدة تكون أداة للتغيير بقوله:

“إنَّ نظام الاستخلاف في الأرض لا يمكن أن يتغير ويتبدل بمجرد وجود فرد صالح أو أفراد صالحين مشتتين في الدنيا، ولو كانوا في ذات أنفسهم من أولياء الله تعالى، بل ومن أنبيائه ورسله، إن الله تعالى لم يقطع ما قطع من المواعيد لأفراد متفرقين مشتتين، وإنما قطعها لجماعة منسقة متمتعة بحسن الإدارة والنظام، بل إن مما لا مندوحة عنه لهذه الفئة المؤمنة أن تستمر في المكافحة والمناضلة لقوى الكفر والفسق على كل خطوة، من كل حلبة من حلبات الحياة الدنيا، وتثبت ما في نفسها من حب للحق، وكفاءة للاضطلاع بأعباء إمامة الأرض، ببذل التضحيات والمساعي في سبيل إقامة الحق، وذلك شرط لم يُستثن منه حتى الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، فَأَنَّى لأحدٍ اليوم أن يتمنَّى على ربه أن يستثنيه منه”.

وقد بدأ ذلك بإصدار بيان رنّان قال فيه:

“لا بد من وجود جماعة صادقة في دعوتها إلى الله، جماعة تقطع صلتها بكل شيء سوى الله، جماعة تتحمّل السجن والتعذيب والمصادرة وتلفيق الاتهامات، وحياكة الأكاذيب، وتقوى على الجوع والعطش والحرمان والتشريد، وربما القتل والإعدام، جماعة تبذل الأرواح رخيصة وتتنازل عن الأموال بالرضا والخيار، وتقدّم كل ما تملك قربانًا في سبيل إقامة مجتمع الإسلام ونظامه.

وإن الذين تتوفر لديهم الرغبة في ذلك عليهم أن يجتمعوا في “لاهور” يوم الخامس والعشرين من شهر أغسطس عام (1941م)؛ لبحث إجراءات تأسيس حركة إسلامية في شكل منظّم”.

وهكذا تأسست الجماعة الإسلامية في عام (1941م)، وانتُخب المودودي أميراً للجماعة، وفي نوفمبر (1972م) استقال أبو الأعلى المودودي من إمارة الجماعة الإسلامية.

المودودي في باكستان ومعركة الدستور

نتيجة إعلان قيام دولة باكستان في (11 من شوال 1366 هـ = 28 من أغسطس 1947م)، انتقل المودودي مع زملائه إلى “لاهور”؛ حيث أسس مقر الجماعة الإسلامية بها، وفي (صفر 1367 هـ = يناير 1948م) بعد قيام باكستان بنحو خمسة أشهر، ألقى المودودي أول خطاب له في كلية الحقوق، وطالب بتشكيل النظام الباكستاني طبقًا للقانون الإسلامي.

وبدأت الجماعة الإسلامية في الضغط على الحكومة ومجلس سن القوانين للموافقة على المطالب التي قدمها المودودي بجعل القانون الأساسي لباكستان هو الشريعة الإسلامية، وأن تقوم الحكومة الباكستانية بتحديد سلطتها طبقا لحدود الشريعة.

وفي المقابل كان هناك مخطط شيطاني تمليه أهواء الأقليات الضالة من متسلطين نشئوا في محاضن الاستعمار فلا يستسيغون سوى طريقته في الحياة، ووثنيين خُلِّفوا في باكستان ليكونوا «الطابور الخامس» لأعدائها المتربصين بها الدوائر.. ماركسيين فقاديانيين يدّعون الإسلام وهم ألدّ أعدائه، الذين أعطوا ولاءهم لبريطانيا التي حطمت كيان الدولة الإسلامية في الهند، وملأت شوارعها بجثث العشرات من آلافهم.

وهكذا يمضي الفريقان كل في الطريق الذي ارتضاه أو سيق إليه.

وكان أشد الجميع إيذاءً للجماعة الإسلامية جمهور “القاديانيين” من أنصار وزير خارجية باكستان، التي يقول أول رئيس لوزرائها “لياقات علي خان”: «إنها هبة الإسلام» ومع ذلك لا يتورع حكامها أن يشهروا الحرب على الإسلام وأن يسلطوا عليه أشرس أعدائه.

في هذه الظروف ألّف الأستاذ المودودي رسالته في موضوع “القاديانية” ففضح عقائدها ومؤامراتها الرهيبة على المسلمين. وكان حاكم باكستان «غلام محمد» ما لبث أن اتخذ منها مسوغاً لإعلان الحكم العرفي ولإلغاء الجمعية التأسيسية، ولوقف البحث في الدستور الجديد، الذي يوشك أن يأخذ طابعه الإسلامي تحت ضغط الشارع، الذي يقوده المودودي وأنصار فكرته.. وتلا ذلك اعتقال الكثيرين من رجال الإسلام، وعلى رأسهم المودودي بتهمة تأليف كتيب وصف بأنه ضاعف من أسباب الاضطرابات والقلاقل.

وأصدرت محكمة العسكر قرارها بإعدام المودودي، في محاكمة صورية كالتي يساق إليها الإسلاميون في مصر وتركية وإندونيسيا، والعديد من أقطار المسلمين الرازحة تحت كابوس العسكريين.

وقد قضى الأستاذ خمسة وعشرين شهراً فقط من تلك السنين في السجن..

وكانت هدنة تحرر المسلمون أثناءها من كابوس الإرهاب العسكري، وبخاصة بعد أن عادت الجمعية التأسيسية الجديدة إلى أعمالها، وصدّقت على الدستور الإسلامي، الذي أجمعت عليه الأمة بلسان علمائها وجماعاتها وجماهيرها الشعبية، واعتبر يوم صدوره من عام (1956م) منطلق حياة سعيدة للمسلمين جميعاً، لم يشذ عنهم إلا قلة من المستغربين والشيوعيين والقاديانيين والنفعيين، الذين ألقوا بأقدامهم إلى مزلقة الإثم، فلم يعودوا بقادرين على التوقف قبل أسفل الهاوية.

وعبّر المودودي أيامئذ عن فرحة المسلمين بذلك التصريح الذي يصوّر مدى أمل المسلمين في مستقبلهم المنشود:

“نبدأ اليوم حياة جديدة، حياة شعب حر قرر بلسان ممثليه أن الحاكمية في باكستان لله عز وجل، وأن السلطة أمانة في عنق الأمة لا تزاولها إلا في نطاق ما حدد الله ورسوله.. فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله”.

تطور انقلابي

في الثامن أكتوبر عام (1958م) أغار الجنرال “محمد أيوب”، وكان رئيساً لأركان الجيش الباكستاني، على أمنها في انقلاب عسكري ألغى البرلمان ونقض الدستور، وأدخل البلاد في تيار المحن والمتاعب المتلاحقة طوال إحدى عشرة سنة، لم تعرف لها باكستان نظيراً في كثافة البلاء وجرأة الحكام على دينها وشريعتها.

وقد امتازت هذه المعركة بضروب من العنف والهول أكبر من كل التجارب السابقة، ذلك أن “محمد أيوب” قد دخلها في برنامج صريح يستهدف حرباً للإسلام لا هوادة فيها.. فقد قرب إليه منكري السنة من أتباع المدعو «أبرويز».

لقد راح هؤلاء الخائبون يثيرونها حرباً شعواء على السنة النبوية فيصدرون الكتب والمجلات المشحونة بالطعن عليها، وتتولى أجهزة الإعلام الحكومية توزيعها وإشاعتها.

لقد انبرى “المودودي” لعدوّ السنة “أبرويز” وجعل يفند أضاليله الواحدة بعد الأخرى في مجلته «ترجمان القرآن» حتى أتى عليها جميعاً، فكشفه للناس عدواً مبيناً لدين الله، وهو يعلم يقيناً أنه لا يهاجم أباطيله وحدها، بل يهاجم مِن ورائه السلطة التي تمدّه بكل أسباب القوة، ويهاجم كذلك كل من أخذ بترّهاته من أعداء السنة.

وهذا كتابه «مكانة السنة في التشريع» يجعل من هؤلاء في كل زمان ومكان أضحوكة العقلاء، بما يعرّي من جهلهم لحقائق الإسلام، القائمة على الكتاب والسنة دون أي انفصام.

وتصدَّى لقوانين “أيوب” المنافية لشريعة الله بالنقد العلمي الذي قطع ألسنة كل المدافعين عنها؛ مما أثار حنق الطاغية فأمر باعتقال بعض قادة الجماعة الإسلامية، وزجَّ بالسجن صاحب المطبعة التي أقدمت على نشر ذلك النقد.

ثم أصدرت قرارًا بحظر نشاط الجماعة، وتم اعتقال “المودودي” و(63) من زملائه، ولكن القضاء أصدر حكمًا ببطلان الحظر والاعتقال، وأطلق سراح “المودودي” وزملائه في (جمادى الآخرة 1384 هـ = أكتوبر 1964م).

وعندما قامت الحرب بين باكستان والهند في (جمادى الأولى 1385 هـ = سبتمبر 1965م) كان للمودودي والجماعة الإسلامية دور بارز في الشحذ المعنوي للجماهير ومساعدة مهاجري الحرب، كما ساهمت الجماعة بشكل إيجابي في الإمداد الطبِّي، فأقامت نحو عشرين مركزًا للإمداد الطبي في “آزار كشمير”، وألقى المودودي عدة خطابات عن الجهاد.

وفي (رمضان 1386 هـ = يناير 1967م) قامت الحكومة باعتقال “المودودي” لمدة شهرين، وبعد أن أطلق سراحه ظل يمارس دوره الدعوي في شجاعة وإيمان، فكان من أبرز دعاة الحرية والوحدة، وظل يحذّر الشعب من مساندة الجماعات الانفصالية حتى لا ينقسم الوطن، ويقع في حرب أهلية لا يعلم مداها إلا الله.

سمات الفكر المودودي

قدر الله تعالى أن يظهر المودودي بفكره التجديدي الأصيل، يعرض الإسلام كما أنزله الله، لا كما يشتهيه الناس.. الإسلام كما هو، وبما هو. لا يعتسف في تأويل، ولا يلجأ إلى تبرير، ولا يعتذر عن حكم جاء به الوحي وصحَّ نسبُه إلى الإسلام، ولا يقيم معركة بين العقل والوحي. بل يجعل العقل في خدمة الوحي، فهما وبيانا وتعليلا.

الالتزام بالإسلام كل الإسلام

كان المودودي يدعو إلى الإسلام إسلاما خالصا لا يقبل الشركة ولا تشوبه شائبة، فلم يقبل في يوم من الأيام أن يشوبه باشتراكية أو ديمقراطية أو قومية؛ فلكلٍ من هذه الدعوات وجهتها ومحتواها وغاياتها ووسائلها الخاصة. أما الإسلام فهو نسيج وحده، سابق عليها، متميز عنها بمضمونه، وأهدافه ووسائله، ويكفي أنها تمثل قصور البشر، وأهواء البشر، وهو يمثل كمال الله، وعدل الله: ﴿صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ﴾ [البقرة:138].

كان الإسلام عند “المودودي” إسلاما شاملا، لا يقتصر على العقيدة وإن كانت هي أساس البناء، ومنها انطلق إلى نظرياته السياسية وغيرها.

ولا يقف عند حد العبادة الشعائرية، بل ينطلق منها إلى جعل الدين كله عبادة كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية من قبله.

لا يكتفي بالأخلاق، على الرغم من منزلتها في الدين: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق». إنما الإسلام عنده (نظام كامل للحياة) فهو نظام عبادي، ونظام خلقي، ونظام اجتماعي، ونظام اقتصادي، ونظام سياسي. وقد وضح ذلك في رسائله وكتبه، ومنها رسالة «نظام الحياة في الإسلام».

المعاصرة

وكانت المزية الثانية لفكر المودودي: أنه ينظر إلى الإسلام بعين، وإلى العصر بأخرى، فهو لا يعيش في الماضي معزولا عن الحاضر، بل يخاطب العقل المعاصر بلغته، ويحاجه بمنطقه، ويلزمه بمقتضى مسلماته الفكرية والعلمية. وهذا شأن الداعية الموفق الذي فقه معنى البيان في قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ [إبراهيم: 4].

المواجهة

لم يسلك المودودي سبيل “المعتذرين” عن الإسلام، أو “المحامين” الذين تصوروه داخل قفص الاتهام ثم تولوا الدفاع عنه، أمام هجمات الحضارة الغربية ودعاتها من ليبراليين واشتراكيين.

أجل، لم يكن المودودي يوما في موقف الدفاع أو الاعتذار، أمام الحضارة الوافدة، والأفكار الدخيلة، والتيارات المنحرفة، بل كان موقفه المواجهة والهجوم. ولم يرعْه هذا “الصنم الكبير” الذي وقف تجاهه الكثيرون مبهورين، وخرّ أمامه آخرون ساجدين، وهو صنم “الحضارة الغربية” التي بلغت أوجّها بالتفوق العلمي والتكنولوجي.

فقد كان معتزا بإسلامه غاية الاعتزاز، مؤمنا بتفوق رسالته كل الإيمان، وكان أساس إيمانه أن ما وضعه المخلوق ـ بما فيه من قصور ذاتي وهوى غالب ـ لا يمكن أن يرقى إلى ما شرعه الخالق ـ الذي وسعت كل الخلق رحمتُه، ووسع كل شيء علمه: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك: 14].

لم تكن الفكرة الإصلاحية عند المودودي فكرة جزئية ترقيعية، تبقي الأوضاع الجاهلية المستوردة على ما هي عليه، مكتفية بإدخال تعديلات تخفف من غلوائها، وتقرّبها من الإسلام، وتقف بالأمة المسلمة في منتصف الطريق.

كلا. لم يقبل المودودي الصلح مع الجاهلية، ولم يرض معها بأنصاف الحلول، أو اللقاء في منتصف الطريق؛ بل كانت فكرته تهدف إلى التغيير الكلي، التغيير من الجذور، أي تغيير الفلسفة والأفكار والقيم والمعايير، قبل تغيير القوانين واللوائح.

أجل، كانت فكرته في الإصلاح “فكرة انقلابية” أو “ثورية” تهدف إلى تغيير المجتمع من جذوره، بعد هدم صروح الجاهلية من أساسها، لتبنى على أنقاضها حياة إسلامية متكاملة، حياة توجهها ـ فكريا ـ مفاهيم الإسلام، وتزكيها ـ روحيا ـ عبادات الإسلام. وتحكمها ـ قانونيا ـ شريعة الإسلام، وتحركها ـ عاطفيا ـ دعوة الإسلام، ومشاعر الإسلام. تضبطها ـ سلوكيا ـ أخلاق الإسلام، وقيم الإسلام، وآداب الإسلام.

وفي مواجهة العلامة المودودي للحضارة: حدد النقاط الأساسية التي تخالف فيها الحضارة الغربية حضارتنا الإسلامية، وهي:

  1. العلمانية.
  2. القومية.
  3. الديمقراطية.

وتحدث عن كل منها حديثا مستفيضا.

تراثه العلمي

وطبيعي أن القارئ الذي يريد الإحاطة بشخصية الأستاذ المودودي، لن يكفيه الاطلاع على ما كتبه عنه وعن جهاده الكاتبون، حتى يرجع إلى مؤلفاته نفسها فيُنْعِم فيها الفكر والتأمل، ويتغلغل من خلالها في أعماق تلك الشخصية الفذة، التي أعدّها القدَر إعداداً خاصاً لإيضاح معالم الإسلام، ولإيقاظ الوعي لحقائقه الجامعة المانعة على ضوء العصر، فكان بها أحد المجددين لهذا الدين.

مؤلفاته

ولقد بلغ عدد مؤلفات المودودي (70) مصنفًا ما بين كتاب ورسالة، ومن أبرز تلك المؤلفات:

  • الجهاد في الإسلام: وقد ألفه سنة (1347هـ = 1928م).
  • الحضارة الإسلامية (أصولها ومبادئها): وقد كتبه سنة (1350هـ = 1932م).
  • نظرية الإسلام السياسية: كتبه سنة (1358هـ = 1939م)
  • تجديد وإحياء الدين: كتبه سنة (1359هـ = 1940م).
  • الاصطلاحات الأربعة الأساسية في القرآن: كتبه سنة (1360 هـ = 1940م).
  • الإسلام والجاهلية: كتبه سنة (1360هـ = 1941م).
  • الأسس الأخلاقية للحركة الإسلامية: كتبه سنة (1364هـ = 1945م).
  • الدين الحق: كتبه سنة (1366هـ = 1947م).
  • نظام الحياة الإسلامي: كتبه سنة (1367هـ = 1948م)
  • حقوق أهل الذمة: كتبه سنة (1367هـ = 1948م).
  • مطالب الإسلام تجاه المرأة المسلمة: كتبه سنة (1372هـ = 1953م).
  • قضية القاديانية: كتبه سنة (1372هـ = 1953م)
  • تفسير “تفهيم القرآن”. ويقع في ستة أجزاء، وقد بدأ كتابته سنة (1360هـ = 1941م)، وأتمه في سنة (1392هـ = 1972م).
  • سيرة النبي، صلى الله عليه وسلم. وقد شرع في تأليفه سنة (1392هـ = 1972م)، وأتمه قبيل وفاته، وهو آخر مؤلفاته.

وفاتــــه

في (غرة ذي القعدة 1399هـ = 22 من سبتمبر 1979م) انطفأت تلك الجذوة التي أضاءت الطريق إلى الرشد والهداية لكثير من المسلمين، ورحل المودودي عن عالمنا إلى رحاب ربه، ولكنه بقي بأفكاره وتعاليمه ومؤلفاته الجليلة ليظل قدوة للدعاة على مر العصور، ونبعًا صافيًا من منابع الإسلام الصافي والعقيدة الخالصة.

………………………………

هوامش:

  1. انظر المودودي، منهج الانقلاب الإسلامي ص 26- 28.
  2. انظر: منهج النقلاب الإسلامي ، ص10 وما بعدها.

المصادر:

  1. أبو الأعلى المودودي: «لو جلست فمن سيبقى واقفاً؟!». د. خالد النجار.
  2. أبو الأعلى المودودي.. داعية فوق السحاب. أرشيف إسلام أون لاين.
  3. من أعلام العقيدة فى العصر القريب: أبو الأعلى المودودي. موقع واحة العقيدة.
  4. الإمام أبو الأعلى المودودي…ويكيبديا الإخوان المسلمون.
  5. أبو الأعلى المودودي…المعرفة.
  6. التغيير السياسي عند المودودي (1-2-3-4-5) مجلة العصر.
  7. أبو الأعلى المودودي.. عملاق الدعوة الإسلامية.د/راغب السرجاني.
  8. المودودي وابن تيمية والغزالي. د/محمد عمارة.
  9. منهجية التجديد عند أبي الأعلى المودودي .الإسلام اليوم.
  10. سمات الفكر المودودي . موقع العلامة القرضاوي.
  11. قراءة المودودي للواقع: الأسباب التي أدت إليه ومظاهره . مجلة العصر.
  12. الإمام المودودي في الفكر العربي المعاصر موقع ، شبكة يمانيون.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة