إن أجل المقاصد وأنفع العلوم وأشرفها وأعلاها؛ العلم بأسماء الله عز وجل الحسنی وصفاته العلا؛ ذلك لأنها تعرف الناس بربهم سبحانه؛ الذي هو أشرف معلوم، وأعظم مقصود، و تعرفهم بخالقهم وخالق السماوات والأرض ومن فيهن، وهذا يستلزم عبادته سبحانه، ومحبته، وخشيته، وتعظيمه وإجلاله.

حديث إن لله تسعة وتسعين اسما

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة»1(1) رواه البخاري (7392)، ومسلم (2677)..

وفي شرح هذا الحديث عدة وقفات:

– الوقفة الأولى: ضعف الطرق التي فيها سرد الأسماء

جاء في بعض روایات هذا الحديث تفصيل في ذكر هذه الأسماء التسعة والتسعين كما عند الترمذي وغيره، ولكن أغلب العلماء ضعفوا هذه الرواية وردوها، وإنما الرواية الصحيحة هي التي عند البخاري ومسلم، وغيرهما مما لم يذكر فيها تفصيل لهذه الأسماء. .

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى -: (إن التسعة والتسعين اسما لم يرد في تعيينها حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأشهر ما عند الناس فيها حديث الترمذي الذي رواه الوليد بن مسلم عن شعيب بن أبي حمزة، وحفاظ أهل الحديث يقولون: هذه الزيادة مما جمعه الوليد بن مسلم عن شيوخه من أهل الحديث …)2(2) «مجموع الفتاوی» (22/ 482) ..

– الوقفة الثانية: هل المراد بالحديث حصر الأسماء الحسنى في هذا العدد؟

ليس في الرواية الصحيحة لهذا الحديث ما يدل على حصر أسماء الله عز وجل بالعدد المذكور، وفي ذلك يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى -: (اتفق العلماء على أن هذا الحديث ليس فيه حصر لأسمائه سبحانه وتعالى فليس معناه أنه ليس له أسماء غير هذه التسعة والتسعين؛ وإنما مقصود الحديث أن هذه التسعة والتسعين من أحصاها دخل الجنة، فالمراد الإخبار عن دخول الجنة بإحصائها لا الإخبار بحصر الأسماء)3(3) النووي (17/ 5)، ويراجع الكلام النفيس لابن حجر – رحمه الله تعالى- في «فتح الباري» (11/ 218) على هذا الحديث..

وقال الخطابي: (فجملة «من أحصاها» مكملة للجملة الأولى وليست استثنائية منفصلة، ونظير هذا قول العرب: إن لزيد ألف درهم أعدها للصدقة، وكقولك إن لعمرو مائة ثوب من زاره خلعها عليه، وهذا لا يدل على أنه ليس عنده من الدراهم أكثر من ألف درهم، ولا من الثياب أكثر من مائة ثوب، وإنما دلالته أن الذي أعده زید من الدراهم للصدقة ألف درهم، وأن الذي أرصده عمرو من الثياب للخلع مائة ثوب)4(4) الخطابي «الدعاء» (ص 24)، عن كتاب «المنهج الأسنی» (ص 28)..

وقال شيخ الإسلام – رحمه الله تعالى- بعد نقله لكلام الخطابي: (وأيضا فقوله: «إن الله تسعة وتسعين» تقيده بهذا العدد بمنزلة قوله تعالى: (عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ)  [المدثر: 30]، فلما استقلوهم قال: (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) [المدثر: 31]، فألا يعلم أسماءه إلا هو أولى)5(5) مجموع الفتاوی» (16/381)..

وقال أيضا في درء تعارض العقل والنقل: (والصواب الذي عليه الجمهور أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة»؛ معناه: أن من أحصى التسعة والتسعين من أسمائه دخل الجنة، ليس مراده أنه ليس له إلا تسعة وتسعون اسما.

وقال: (وثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده: «اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك».

فأخبر: أنه صلى الله عليه وسلم لا يحصي ثناء عليه، ولو أحصى جميع أسمائه لأحصى صفاته، فكان يحصي الثناء عليه، لأن صفاته إنما يعبر عنها بأسمائه)6(6) «درء تعارض العقل والنقل» (3/ 333-332)..

ومن أقوى الأدلة على أن أسماء الله عز وجل ليست محصورة في «تسعة وتسعين اسما» ما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أصاب أحدا قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك، ناصيتي بيدك ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله حزنه وهمه، وأبدل مكانه فرحا»7(7) رواه أحمد (1/391)، والحاكم، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة» (199)..

ففي هذا الحديث دلالة على أن لله عز وجل أسماء لم ينزلها في كتاب ولم يعلمها لأحد من خلقه بل استأثر بها في علمه سبحانه وحجبها عن خلقه ولم يظهرها لهم.

وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم – رحمه الله تعالى -: (إن الأسماء الحسنى لا تدخل تحت حصر، ولا تحد بعدد، فإن لله تعالى أسماء وصفات استأثر بها في علم الغيب عنده لا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل، كما في الحديث الصحيح: «أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك».

فجعل أسماءه ثلاثة أقسام

قسم: سمى به نفسه؛ فأظهره لمن شاء من ملائكته أو غيرهم، ولم ينزل به کتابه.

وقسم : أنزل به کتابه؛ فتعرف به إلى عباده.

وقسم: استأثر به في علم غیبه، فلم يطلع عليه أحدا من خلقه؛ ولهذا قال: «استأثرت به»؛ أي: انفردت بعلمه.

وليس المراد انفراده بالتسمي به؛ لأن هذا الانفراد ثابت في الأسماء التي أنزل الله بها کتابه.

ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة: «فيفتح علي من محامده بما لا أحسنه الآن». وتلك المحامد هي بأسمائه وصفاته. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك». وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة»: فالكلام جملة واحدة، وقوله: «من أحصاها دخل الجنة»: صفة لا خبر مستقل، والمعنى: له أسماء متعددة من شأنها أن: «من أحصاها دخل الجنة». .

وهذا لا ينفي أن يكون له أسماء غيرها، وهذا كما تقول: «لفلان مائة مملوك؛ وقد أعدهم للجهاد» فلا ينفي هذا أن يكون له مماليك سواهم معدون لغير الجهاد، وهذا لا خلاف بين العلماء فيه)8(8) «بدائع الفوائد» (1/ 150 – 151)..

الوقفة الثالثة: ما معنى الإحصاء في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من أحصاها دخل الجنة»؟

جاء عند البخاري رواية أخرى للحديث فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لله تسعة وتسعين اسما – مائة إلا واحدا – لا يحفظها أحد إلا دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر»9(9) البخاري كتاب الدعوات باب الله مائة اسم غير واحد» الفتح (11/ 318)..

ففي الرواية الأولي قوله: «من أحصاها»، وفي الرواية الثانية: «لا يحفظها» ويؤخذ من هذه الرواية تفسير الإحصاء بالحفظ.

ولقد ذكر أهل العلم في ذلك معاني عظيمة لا يصدق على أحد بأنه أحصاها على وجه التمام والكمال، أو حفظها حتى يأتي بها وهي كما يلي:

1- عدها وحفظها واستحضارها وأخذها من أدلتها، سواء ما ورد منها في الكتاب أو السنة.

2- فهم معانيها ومعرفة مدلولاتها، وهذا من معاني الإحصاء الذي منه العقل والمعرفة، تقول العرب: فلان ذو حصاة، أي: ذو عقل ومعرفة بالأمور.

3- معرفة آثارها في الكون والحياة، والقلب قدر الطاقة؛ لأن هذا ميدان يتفاوت الناس في تحقيقه.

4- دعاء الله عز وجل بها والتعبد له سبحانه بها، وشهود آثارها في القلب، واللسان، والجوارح، والعمل بها. فإذا قال: «السميع البصير» علم أن الله يسمعه ويراه، وأنه لا يخفى عليه خافية، فيخافه في سره وعلنه، ويراقبه في كافة أحواله، وإذا قال: يا رحمن يا رحيم تذكر صفة الرحمة واعتقد أنها من صفات الله سبحانه فيرجو رحمته، ولا ييأس من مغفرته، وإذا قال: «الرزاق» اعتقد أنه المتكفل برزقه يسوقه إليه في وقته فيثق في وعده وأنه لا رازق له سواه …، إلخ.

وهذه المعاني السابقة لإحصاء أسماء الله تعالى التسعة والتسعين وحفظها هي قول أهل العلم في شرحهم لهذا الحديث.

يبين الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى – مراتب إحصاء أسمائه سبحانه التي من أحصاها دخل الجنة، فيقول:

(المرتبة الأولى: إحصاء ألفاظها وعددها.

المرتبة الثانية: فهم معانيها ومدلولها.

المرتبة الثالثة: دعاؤه بها، كما قال تعالى: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا) ، وهو مرتبتان:

إحداهما: دعاء ثناء وعبادة، والثانية: دعاء طلب ومسألة، فلا يثنى عليه إلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، وكذلك لا يسأل إلا بها؛ فلا يقال: یا موجود، يا ذات، یا شيء اغفر لي وارحمني، بل يسأل في كل مطلوب باسم يكون مقتضيا لذلك المطلوب فيكون السائل متوسلا إليه بذلك الاسم فيقول: يا غفار اغفر لي فإنك أنت الغفور الرحیم، یا رزاق ارزقني إنك أنت الرزاق الكريم وهكذا …)10(10) «بدائع الفوائد» (1/ 148)..

وقال ابن بطال رحمه الله: (الإحصاء يقع بالقول، ويقع بالعمل، فالإحصاء القولي: يحصل بجمعها وحفظها، والسؤال بها، ولو شارك المؤمن غيره في العد والحفظ، فإن المؤمن يمتاز عنه بالإيمان والعمل بها، والإحصاء بالعمل: أن لله أسماء يختص بها کالأحد، والقدير، فيجب الإقرار بها والخضوع عندها، وله أسماء يستحب الاقتداء بها في معانيها، کالكريم، والعفو، فيستحب للعبد أن يتحلى بمعانيها ليؤدي حق العمل بها؛ فبهذا يحصل الإحصاء العملي)11(11) «فتح الباري» (13/390)..

ويوضح الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى- دعاء العبادة والثناء على الله عز وجل بأسمائه وصفاته فيقول: (أما دعاء العبادة فيقتضي أن يتعبد العبد لله سبحانه وتعالى بمقتضى الأسماء، فتؤثر معرفة هذه الأسماء في عبوديته الظاهرة والباطنة، فإذا علم العبد بسمع الله، وعلمه، وبصره، وأنه لا يخفى عليه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، وأنه يعلم السر وأخفى، ويعلم خائنة الأعين، وما تخفي الصدور، يثمر له حفظ لسانه وجوارحه، وخطرات قلبه عن كل ما لا يرضي الله)12(12) «مفتاح دار السعادة» (2/90)..

وينقل ابن حجر رحمه الله تعالى- عن ابن بطال قوله: (طريق العمل بها -أي بالأسماء- أن الذي يسوغ الاقتداء به فيها كالرحيم، والكريم، فإن الله يحب أن يرى خلالها على عبده؛ فلیمرن العبد نفسه على أن يصح له الاتصاف بها، وما كان يختص بالله تعالی کالجبار، والعظيم فيجب على العبد الإقرار بها والخضوع لها، وعدم التحلي بصفة منها، وما كان فيه معنى الوعد نقف منه عند الطمع والرغبة، وما كان فيه معنى الوعيد نقف منه عند الخشية والرهبة، فهذا معنى أحصاها وحفظها)13(13) «فتح الباري» (11/266)..

الهوامش

(1) رواه البخاري (7392)، ومسلم (2677).

(2) «مجموع الفتاوی» (22/ 482) .

(3) النووي (17/ 5)، ويراجع الكلام النفيس لابن حجر – رحمه الله تعالى- في «فتح الباري» (11/ 218) على هذا الحديث.

(4) «الخطابي «الدعاء» (ص 24)، عن كتاب «المنهج الأسنی» (ص 28).

(5) «مجموع الفتاوی» (16/381).

(6) «درء تعارض العقل والنقل» (3/ 333-332).

(7) «رواه أحمد (1/391)، والحاكم، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة» (199).

(8) «بدائع الفوائد» (1/ 150 – 151).

(9) «البخاري كتاب الدعوات باب الله مائة اسم غير واحد» الفتح (11/ 318).

(10) «بدائع الفوائد» (1/ 148).

(11) «فتح الباري» (13/390).

(12) «مفتاح دار السعادة» (2/90).

(13) «فتح الباري» (11/266).

اقرأ أيضا

أسماء الله الحسنى .. المعرفة للتعبد

أسماء الله الحسنى .. استقامة الرؤية والشعور

كيف يكون الإيمان بالأسماء والصفات

 

التعليقات غير متاحة