للعلماء دور كبير في ثبات المجتمع ومنع الانحرافات، وفي نشر العلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد أمرهم الله بالصدق، وللصدق لوزام.
مقدمة
علماء الأمة ورثة الأنبياء، يتحملون علم النبوة كما يتحملون مواقف القيام بالحق كما وقفها الأنبياء من قبل؛ رغبة في الإصلاح من أجل الله وحده مستعينين به متآلفين فيه.
وقد أمر الله المؤمنين عامة بلزوم الصدق، وهو ليس تحليا ولا تمنيا؛ بل هو حالة للإنسان لها شروط وتلزم منها مواقف. ومن الواجب التوجه اليهم بما أمر الله ووصيتهم بما أوصى سبحانه.
إلى علماء الأمة وطلاب العلم فيها
أوصي نفسي وإياكم بما أوصى به ربنا عز وجل عباده المؤمنين ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة: 119].
يا علماءنا الأجلاء.. يا من تعقد عليهم الأمة أملها بعد الله سبحانه في إنقاذها مما هي فيه من جهل ومحن وبلاء.. ﴿اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾.
وإن من لوازم الصدق مع الله سبحانه وتعالى ومع عباده المؤمنين، الحذر الشديد من الدنيا وزينتها وزخرفها، فلا أضرَّ على العالِم منها، ولذا كان سلفنا الصالح يحْذرونها أشد الحذر، فبارك الله في علمهم وعملهم، وأصلح الله بهم ما فسد.
أيها العلماء الأجلاء.. إن أمتنا الإسلامية تمر في هذا الزمان بمحن شديدة وهي تنتظر كلمتكم، فإذا سكتُّم فمَن لعقيدة الأمة التي يسعى الأعداء لإفسادها..؟ ومَن لدماء الأمة التي تُسفك وتستباح يوماً بعد يوم..؟ ومن لأعراض الأمة وأخلاقها التي تنتهك باسم الحرية والتقدم والتحضر..؟ ومَن لأموال الأمة واقتصادها الذي تسري فيه نار الربا والبيوع المحرمة..؟!
ودعاؤنا إلى الله عز وجل أن تلتحم صفوف المصلحين في هذه الأمة من علمائها ودعاتها ومجاهديها وقادتها ليكونوا يداً واحدة في الإصلاح والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
ولكم في سيرة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله قدوة حسنة، فقد استفاد في محنته من أعرابي عامي؛ ذكر الذهبي في السير:
“قال أحمد بن حنبل: ما سمعت كلمة منذ وقعْت في هذا الأمر ـ يعني محنته ـ أقوى من كلمة أعرابي كلمني بها في رجعة طوق، قال: يا أحمد، إن يقتلك الحق مُت شهيداً، وإن عشت عشت حميداً، فقَوى قلبي”. (1سير أعلام النبلاء 11/ 241)
إلى دعاة الأمة ومجاهديها
أوصي نفسي وإياكم بما أوصى به الله سبحانه عباده المؤمنين: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة: 119].
لزوم الإخلاص
وإن من لوازم الصدق ومقتضياته أن تكون الدعوة إلى الله عز وجل والجهاد في سبيله لأجل الله عز وجل وابتغاء مرضاته؛ فلا تكون لأجل مال أو منصبٍ أو جاهٍ أو كسب شهرة أو التعصب لشيخ أو حزب أو طائفة، لأن كل ذلك ذاهب وضائع وممحوق البركة في الدنيا والآخرة، فحريٌّ بنا أن نحاسب أنفسنا ونحن في طريق الدعوة والجهاد في سبيل الله، ونتبين مدى صدقنا في دعوتنا إلى الله سبحانه، وهل هي خالصة لله وحده أم يشوبها ما يشوبها من أعراض الدنيا الفانية..؟!
مواطأة العمل للقول
وإن من لوازم الصدق في الدعوة إلى الله سبحانه أن يبادر الداعية إلى تصديق قوله وما يدعو إليه بفعله، وأن لا يقول بلسانه ما ليس في قلبه، أو يرغب في فعل ولا ينوي القيام به، أو يُظهر للناس حرقة وغيْرة على هذا الدين والأمر لا يتعدى شقشقة اللسان، والقلب مشحون بأمر الدنيا وشهواتها وغارق في وِدْيانها.. إن كل ذلك مما ينافي الصدق في الدعوة إلى الله عز وجل.
سلامة القلب
مع أهمية سلامة قلب الداعية من الغل والحقد والحسد على إخوانه الآخرين من الدعاة، وإنما يُكنّ المحبة لكل مصلح يدعو إلى الخير، ويتعاون معه في طاعة الله عز وجل، ولا يحتقر جهده مهما قَلّ، ولا تراه إلا حريصاً وساعياً إلى اجتماع الكلمة ووحدة الصف، فالداعية الصادق يكره الفرقة والاختلاف إذا لم يكن في أصول الدين وكلياته، والدعاة الصادقون يرحم بعضهم بعضاً، ويرفق بعضهم ببعض، ويتناصحون فيما بينهم.
البصيرة
كما إن الصدق مع الله سبحانه في الدعوة والجهاد يفرض على المسلم أن يكون على بصيرة فيما يدعو إليه ويجاهد من أجله، وهذا يلزم التفقه في الدين والتبصرة فيه بما قال الله عز وجل وقال رسوله، صلى الله عليه وسلم، وفهِمه الصحابة الكرام رضي الله عنهم.
الحذر من مزالق العدو
وإن من لوازم الصدق في الدعوة إلى الله سبحانه، الحذر من كيد الأعداء المتربصين بهذا الدين وأهله من الكافرين والمنافقين، وبخاصة في زماننا هذا الذي تنوَّعت فيه أساليب المكر والخبث، فحري بالداعية الصادق أن يتفطن لدسائس الأعداء ودجلهم ونفاقهم ولو ألبسوا ذلك كله لبوس الحكمة والمصلحة. إن التنازل اليسير من الداعية إلى الله سبحانه لا يقف عند حد، بل يتبعه تنازلات وتنازلات، لأن أعداء هذا الدين لا يكتفون بالقليل من الداعية وقد حذَّر الله سبحانه نبيه، صلى الله عليه وسلم، من هذا الخطر فقال: ﴿فلا تُطِعِ المكذبين * وَدُّوا لو تُدْهِنُ فَيُدْهِنُون﴾ [القلم: 8-9].
والحقيقة التي ينبغي أن يعيش فيها أصحاب الدعوة إلى الله هي هذه الحقيقة التي لقَّنها الله لصاحب الدعوة الأولى، صلى الله عليه وسلم، وهي أن التكليف بهذه الدعوة تنَزَّل من عند الله فهو صاحبها، وأن الحق الذي تنزلت به لا يمكن مزجه بالباطل الذي يدعو إليه الآثمون الكفار، فلا سبيل إلى التعاون بين حقها وباطلهم، أو الالتقاء في منتصف الطريق بين القائم على الحق والقائمين على
الباطل، فهما منهجان مختلفان وطريقان لا يلتقيان، فأما حين يغلبه الباطل بقوَّته وجمعه على قِلة المؤمنين وضعفهم، لحكمةٍ قضاها الله؛ فالصبر حينئذ حتى يأتي الله بحُكْمه والاستمداد من الله والاستعانة بالدعاء والتسبيح، وهما الزاد المضمون لهذا الطريق.
إنها حقيقة كبيرة لا بد أن يدركها ويعيش فيها رواد هذا الطريق فالمحاولات كثيرة التي حاول المشركون مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فيها المساومة على الدعوة، ولكنَّ الله عصم منها رسولَه؛ وهي محاولات الطغاة مع أصحاب الدعوات دائماً، محاولة إغرائهم لينحرفوا ولو قليلاً عن استقامة الدعوة وصلابتها، ويرضوا بالحل الوسط الذي يغرونهم به في مقابل مغانم كثيرة. ومن جملة الدعاة من يفتن بهذا عن دعوته لأنه يرى الأمر هيناً، فأولئك لا يطلبون منه أن يترك دعوته كلياً، إنما يطلبون تعديلات طفيفة ليلتقي الطرفان في منتصف الطريق.
حذر الكذب والالتواء
ومن لوازم الصدق في الدعوة أن يحْذر الداعية من الكذب على إخوانه المسلمين والدعاة المصلحين. ومن ذلك إشاعة الأخبار قبل التحقق من صحتها واستخدام الأساليب الملتوية والمراوغات بحجة السياسة والمصلحة.. كل هذا لا يتفق وصدق الداعية وسلامة قلبه.
ومن لوازم الصدق في الدعوة إلى الله سبحانه أن يعتني كل مسلم منا بنفسه بالوسائل الشرعية للتربية، وذلك في وسط بيئة صالحة معروفة بصحة الفهْم وحسن القصد، يتربى معها، ويعدّ نفسه للتضحية في سبيل الله عز وجل وبذْل المال والنفس في ذلك، وأن يوطن نفسه لابتلاءات الطريق ومَشاقِّه، التي هي سنة من سنن الله عز وجل لتمحيص الصفوف، قال تعالى: ﴿الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ [العنكبوت: 2-3]؛ فلا يتبين الصادق في دعوته من الكاذب إلا بالابتلاء نسأل الله عز وجل العافية والصبر عند البلاء.
تربية النفس
إن الداعية الذي يهمل نفسه؛ فلا يربيها ويعدّها للبيع على الله عز وجل، يوشك أن ينهزم وتخذله نفسه عند أول هزة وأول اختبار، مع أنه يحب لنفسه غير ذلك مما يعيشه في حال الرخاء والأمن من الحماس العاطفي والكلام الذي لا يجاوز التراقي؛ يقول سيد قطب رحمه الله:
“إن العقيدة وطريقها لشاقة بعيدة، تتقاصر دونها الهمم الساقطة والعزائم الضعيفة، إن تكاليف العقيدة هو جهد خطر، تجزع منه الأرواح الهزيلة والقلوب الخاوية، وهو الأفق الذي تتخاذل دونه النفوس الصغيرة والبيئة الهزيلة، قال تعالى: ﴿لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ﴾ [التوبة: 42] (2طريق الدعوة، ج1، ص 96)
خاتمة
إنني بهذه المناسبة أوصي نفسي وإخواني الدعاة والمجاهدين أن لا نتكلم في أمر، أو نقدم على موقف من مواقف الدعوة حتى تتوفر فيه الشروط التالية:
1- الاطمئنان التام “أنه الحق الذي يحبه الله تعالى”، وإعداد النفس لتحمل تبعاته.
2- الاطمئنان التام على أن القيام في هذا الأمر هو “لله سبحانه وحده” وابتغاء مرضاته.
3- “الاستعانة بالله” وحده في تحقيق هذا الأمر والثبات عليه؛ إذ لا قدرة للعبد لحظة واحدة بدون عون الله وتوفيقه.
إذن يا إخواني الدعاة: إن الأمر جد ليس بالهزل.
قد هيؤوك لأمر لو فطنت له … فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
……………………………….
الهوامش:
- سير أعلام النبلاء 11/ 241.
- طريق الدعوة، ج1، ص 96.