للإصلاح والتغيير أصول، منها البصيرة والعمل الصالح، الإخلاص والتجرد وما ينفي الشقاق، والتميز والنجاح في الابتلاء؛ سنة الله، ورفع الالتباس ووضوح الدعوة.. تلك الأصول ـ وغيرها أيضا ـ لا بد منها لنجاح التغيير المنشود..
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين، وبعد.
فلم يعد خافيًا على أحدٍ من الناس اليوم ما يعيشه المسلمون من ذلةٍ ومهانة، وما يحيط بهم من ظروف صعبة، وأحوال مريرة، تتمثل في كيد الأعداء وتسلطهم على بلاد المسلمين، كما تتمثل في أحوال المسلمين أنفسهم، وما طرأ على كثير من مجتمعاتهم من بُعْدٍ عن تعاليم الإسلام، وإقصاء لشريعة الله سبحانه، ورفض الحكم بها والتحاكم إليها.
إنَّ الواقع المرير الذي يعيشه المسلمون اليوم لا يُستغرب من قبل العالِمين بسنن الله عز وجل في التغيير؛ حيث إنَّ هذا الواقع هو النتيجة الطبيعية للبعد عن دين الله عز وجل، وعدم الاستسلام لشرعه. ولا ننتظر في ضوء السنن الربانية غير هذا، والله عز وجل يقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِم﴾ (الرعد:11) ويقول سبحانه: ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُم﴾ (محمد: 7).
أما الذين يجهلون سنن الله عز وجل أو يغفلون عنها، وينسونها، فهم الذين يستغربون ما يحل بالمسلمين اليوم من محنٍ وويلات، وهم الذين يتساءلون “أنى هذا”؟ و”كيف يحصل هذا ونحن أصحاب الدين الحق”؟
فيجيبهم الله عز وجل بما أجـاب به من سأل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم مثل هذا السؤال، فقال سبحانه وتعالى: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ (آل عمران: 165).
أخطاء بسبب نسيان السنن الربانية
ونتيجة لنسيان هذه السنة الربانية أو الغفلة عنها، يقع الانحراف في المواقف المختلفة إزاء هذه الأحوال المريرة، التي يمر بها المسلمون ما بين:
يائسٍ من التغيير قد أصابه الإحباط، وألقى بيده ينتظرُ المهدي أو المسيح عليه السلام لإنقاذ الأمة والتمكين لها في الأرض.
أو مستعجلٍ قد نفد صبره مما يرى من الكفر والنفاق، فقرر الجهاد والمواجهة مع أعداء الدين غير ملتفت للقواعد الشرعية وأصول التمكين، وأسباب النصر، فنجم عن ذلك من المفاسد ما الله به عليم.
وآخر رأى مهادنة الأعداء والرضى منهم بأنصاف الحلول، والدخول معهم في مفاوضات ومقايضات، لم تثمر إلاَّ مزيدًا من التمكين للمفسدين، والإقرار لهم بالشرعية والوجود.
أما الذين فقهوا سنن الله عز وجل في النصر والتمكين والتغيير، وأخلصوا دينهم لله تعالى، فقد هداهم ربهم سبحانه لما اختُلف فيه من الحق، ورأوا أنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلاَّ بما صلح به أولها، وذلك بما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام عليهم رضوان الله تعالى.
أصول الإصلاح والتغيير
وباستقراء المنهج النبوي في الإصلاح والتغيير يظهر لنا أنه قائم على ستة أصول؛ منها:
الأصل الأول: البصيرة في الدين وصحة الفهم والعمل
قال الله عز وجل: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ﴾ (يوسف: 108).
ويعنى بهذا الأصل: أن تقوم الدعوة وينطلق التغيير من فهمٍ صحيح، وعقيدة صافية، وبصيرة واضحة في الدين، كما جاء في كتاب الله عز وجل وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفهم الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ لأنَّ أي دعوة تعارض هذا الفهم أو تزيد عليه أو تنقص، فإنها قد فرطت في هذا الأصل العظيم من أصول التمكين والنصر.
ويلحق بالفهم الصحيح ما يجب أن يكون عليه أصحاب الدعوة من عمل صحيح، موافق لما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك في عباداتهم ومعاملاتهم وسلوكهم.
وهذا هو ما أراده الرسول صلى الله عليه وسلم عندما وصف الفرقة الناجية المنصورة بقوله صلى الله عليه وسلم” «ما أنا عليه وأصحابي». (1رواه التـرمـذي : كتاب الإيمان بـاب (18) مـا جاء في افتراق هذه الأمة، 5 / 26 (رقم: 2641))
وإنَّ الجهد في إخضاع أفراد الدعوة وعامة الناس للفهم الصحيح والعمل الموافق يحتاج إلى صبر وعناء، وتضافر في الجهود، واتخاذ الأسباب المباحة المتاحة في تبليغ هذا الفهم الصحيح للأمة، ببرامج علمية وعملية، حتى تستقيم الأفهام في العقيدة والأحـكام والتصورات على هذا المنهج النبوي الكريم، ومما يلحق بالفهمِ فهمُ الواقع الذي يتحرك فيه الدعاة، وطبيعته والبصيرة بأحوال الناس، واستبانة سبيل المجرمين، والوعي بكيدهم ومخططاتهم وإمكاناتهم.
الأصل الثاني: حسن القصد
ويعنى بهذا الأصل إخلاص المقاصد لله عز وجل، وصدق النية في الدعوة والتغيير، بأن يكون القصد من ذلك التعبد لله عز وجل وابتغاء وجهه ورضاه وجنته، وإنقاذ الناس بإذن ربهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن الشقاء والعذاب في الدنيا والآخرة.
وهذا بدوره ينفي كل مقصد دنيوي سواءً كان رياءً أو إرادةَ جاهٍ أو مالٍ أو منصبٍ أو شهرة.. إلخ، لأنَّ وجود مثل هذه المقاصد في الدعوة يفسدها ولا يكون القصد فيها حسنًا، وبالتالي لا يبارك الله فيها ولا ينصر أهلها، ولا يمكِّن لهم في الأرض ولو كانوا على فهمٍ صحيح؛ لأنَّهم فرطوا في أصلٍ عظيم من أصول التمكين، ألا وهـو إرادة الله عز وجل والآخرة ليس إلا.
ولا شك أنَّ تحقيق هذا الأصل العظيم في نفوس الدعاة يحتاج إلى جهدٍ ومجاهدة، ومناصحة وتربية علمية وعملية، يعتني فيها بالقلوب وأعمالها، وتُقوَّى فيها الصلة بالله عز وجل والتحلي بالأخلاق المحمودة الباطنة والظاهرة، والتي على رأسها الإخلاص لله عز وجل.
الأصل الثالث: وحدة الصف
وهذا الأصل ثمرة للأصل السابق، حيثُ إنَّ تجرد المقاصد لله عز وجل ينفي الهوى وحظوظ النفس، والتي هي من أكبر أسباب الفرقة والبغضاء، لأنَّه لا يمكن لأصحاب الفهم الصحيح الواحد أن يتفرقوا إلا إذا كان القصد غير حسن.
وأصحاب القصد الحسن لا يفارقون غيرهم، إلاَّ إذا كانوا على فهمٍ منحرفٍ غير صحيح كأصحاب الفرق وأهل البدع.
وكون الاجتماع ووحدة الصف أصلٌ من أصول التمكين، لا يجادل في هذا أحد، كيف والله عز وجل يقول: ﴿وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (الأنفال: 46).
ولا شك أنَّ نبذ الفرقة، واجتماع القلوب، ووحدة الصف بين أهل السنة، أصحاب الفهم الصحيح، يحتاج إلى القدوات وإلى الصبر والجهد الجهيد، والتجرد لله عز وجل، وترك حظوظ النفوس.
وتقع المسئولية في ذلك على العلماء والموجِهين والمربين، كلٌ في مجاله.
ويكون ذلك بالتواصي والمناصحة، وإظهار الود وحقوق الأخوّة بين الدعاة، وإن لم يجد بعضنا مجالاً له في جمع الكلمة، فليتق الله ولا يفرق، فإنها صدقة منه على نفسه وكف شر عن إخوانه، وهو بذلك يسـاهم في جمع الكلمة وتوحيـد الصـف.
وإن مما يحفز الهمم على تحقيق هذا الأصل العظيم، اليقين بأنَّ نصر الله عز وجل لا ينزل على أمةٍ متفرقةٍ متباغضة.
وقد يجد أصحاب الدعوة الحريصون على جمع الكلمة أنفسهم أمام أناسٍ غير حريصين على وحدة الصف، فحينئذ حسبهم أن يعلم الله عز وجل صدقهم وإخلاصهم، فيوفقهم ويعينهم وينصرهم.
الأصل الرابع: التمحيص والتميز
قـال الله عــز وجــل: ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ (آل عمران:141).
وقال سبحانه: ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ (آل عمران: 179).
وإنَّ المتأمل في منهج الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وبخاصة في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه المؤمنين، لَيرى هذه السنة الربانية واضحة وضوح الشمس، وذلك بما تعرض له المسلمون من الابتلاء والتمحيص في مكة، والهجرة، والجهاد في سبيل الله عز وجل، وأنهم لم يمكنوا إلاَّ بعد أن ابتُلوا ومُحِّصوا.
أنواع الابتلاء
والابتلاء الذي يتعرض له أصحاب الدعوة نوعان :
أولا: ابتلاء عقوبة وتكفير وتنبيه
وذلك عندما يحصلُ الخلل في واحـدٍ من الأصـول الثلاثة السابقة أو أكثر.
فعندما يحصل الخلل في الفهم والمعتقد، أو في النية والمقصد، أو في وحدة الصف وتآلف القلوب، فإنَّ الله عز وجل قد يبتلي عباده هؤلاء ببعض العقوبات والابتلاءات لعلهم يرجعون ويراجعون أنفسهم، ويكفِّر الله عز وجل عنهم ـ بهذه العقوبات ـ سيئاتهم.
ثانيا: ابتلاء تمحيص وتمييز للصفوف
وهذا النوع من الابتلاء هو الذي نقصده في هذا الأصل، وهو الذي يتعرض له أصحاب الفهم الصحيح، والقصد الحسن والصف الموحد.
والحكمة منه تمحيص القلوب، وتمييز الصفوف مما قد يكون فيها من المنافقين وأصحاب القلوب المريضة، والذين يكون ضررهم شديدًا على الدعوة فيما لو بقوا مندسّين في الصفوف ولم يُعرف شأنهم؛ فيقدّر الله عز وجل مثل هذا النوع من الابتلاءات ليتميز المؤمن الصادق من غيره، ويزيد الله عز وجل به المؤمنين إيمانًا وثباتًا وصلابة في إيمانهم.
قال الله عز وجل عن المؤمنين في غزوة الأحزاب عندما رأوا الشدائد والأهوال: ﴿وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً﴾ (الأحزاب:22).
وقال عن المنافقين الذين نجم نفاقهم عند الابتلاء: ﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً﴾ (الأحزاب:12).
فما زادت الشدائد المؤمنين إلاَّ إيمانًا وتسليمًا، وما زادت المنافقين إلاَّ مرضًا، وأخرج الله بها ما في قلوبهم من النفاق والكذب والذي ما كان ليُعرف في حال السلم والأمان.
للنجاح في فترات التمحيص
وإنَّ فترات التمحيص والابتلاءات لمن أشدِّ فترات الدعوة على أهلها، فهي تحتاج إلى جهدٍ عظيم من التعليم والتربية والعبادة، والتواصي على الحق والتواصي بالصبر والزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة.
ومن علم الله عز وجل صحة فهمه وحسن قصده، وعمله الصالح وحرصه على الوحدة والاجتماع، فإنَّهُ سبحانه يثبته ويخرج من الابتلاءات وقد قوي إيمانه، وصلب عوده.
وعلى مثل هؤلاء ينزل نصر الله تعالى ويقوم عز الإسلام.
ضرورة التميز
وبقيت مسألةٌ مهمةٌ تتعلقُ بالتميز، ألا وهي ضرورة تميز أصحابِ الدعوات ـ الذين يريدون التمكين لدين الله تعالى ـ عمن حولهم، ممن ابتعدوا عن الدين وتعاليمه، وظهور ذلك في تصوراتهم وأفهامهم، وفي عبادتهم وسلوكهم، وفي دعوتهم وصبرهم وتضحيتهم.
وعليهم أن يوصلوا ما يحملونه من علمٍ ودعوةٍ إلى طبقات الناس قدر استطاعتهم، حتى يتم البلاغ وتقوم الحجة، ويُعرف أصحاب الدعوة بين الناس بمنهجهم الواضح وأهدافهم العالية.
ومن أهم ما يقومُ به أصحاب الدعوة حتى يحصل التميز القيام بفضحهم للباطل وأهله، وتبيين سبيل المجرمين للناس حتى لا تختلط عليهم الأمور ويلتبس الحق بالبـاطل.
خاتمة
إنه ما لم يتم هذا البيان فإنَّ الناس المضلَلون قد يُستخدمون في مواجهة أصحاب الدعوة، لعدم وضوحهم ووضوح دعوتهم في مجتمعات الناس، وذلك بما يستخدمه أعداء الدعوة من تضليل وتلبيس للناس، سواء في تشويه أهل الدعوة وإظهارهم للناس بمظهر المفسدين والمهيجين للفتن، أو بما يضفونه على أنفسهم من أنهم أصحاب الحق وحُماته.
فما لم يحصل البلاغ الكافي، والذي يتميز فيه الحق من الباطل، ويزول التلبيس والتضليل، فإنَّ هذا الأصل ـ أعني أصل التميز ـ لم يتحقق بعد، وعلى الدعاة الصبر والتأني، وبذل الأسباب في تحقيقه قدر الاستطاعة، حتى يهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة، وحتى يعطِي الواحد من الناس ولاءه لمن يختاره من أهل الحق أو الباطل عن علم وبينة وطواعية.
………………………………………………
هوامش:
1- رواه التـرمـذي : كتاب الإيمان بـاب (18) مـا جاء في افتراق هذه الأمة،5 / 26 (رقم: 2641).