مع تتابع الضغوط وتكاثر الفتن اليوم، بين شبهة يلقيها منافقون، أو ضغوط بالترهيب والترغيب لكتمان الحق واعوجاج الطريق وبيع قضية الإسلام. يجب أن نعرف أسباب الثبات وأسباب السقوط.

مقدمة .. معنى الفتن

وقوع الفتن سنة ربانية لا تتبدل كما في قوله تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ﴾ [العنكبوت: 2].

وقد كتبها الله عز وجل على عباده لحكم عظيمة.. منها تميز المؤمنين من غيرهم، ومنها تكفير السيئات ورفع الدرجات، ومنها غير ذلك مما لا نعلمه.

فعن حذيفة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: «تُعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً؛ فأي قلب أُشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين: أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر مرباداً، كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه». (1مسلم، كتاب الإيمان (144))

والحديث عن الفتن وأسبابها يتطلب إفراد كلمة “الفتن” بالتعريف والشرح، وتوضيح الفرق بين مدلولاتها.

فـ (الفتن)، وهي بكسر الفاء وفتح التاء، جمع فتنة، قال الأزهري: جماع معنى الفتنة في كلام العرب الابتلاء والامتحان، وأصلها مأخوذ من قولك: “فتنت الفضة والذهب” أذبتُهما بالنار ليتميز الرديء من الجيد، ومن هذا قول الله عز وجل: ﴿يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ﴾ [الذاريات: 13].

أي يُحرَقون بالنار. وقال ابن الأنباري: فتنَت فلانة فلاناً، قال بعضهم: أمالته.. قال تعالى: ﴿وَإن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ﴾ [الإسراء: 73] أي يُميلونك.. فتنت الرجل عن رأيه أي أزلته عما كان عليه.. والفتنة: الإثم في قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الفِتْنَةِ سَقَطُوا﴾ [التوبة: 49].

وأما قول النبي، صلى الله عليه وسلم: «إني أرى الفتن خلال بيوتكم». (2البخاري، كتاب المناقب (3597))؛ فإنه يكون القتل والحروب والاختلاف الذي يكون بين فِرَق المسلمين إذا تحزّبوا، ويكون ما يُبلَوْن به من زينة الدنيا وشهوتها فيُفتَنون بذلك عن الآخرة والعمل لها.

و”الفتنة” الإضلال في قوله تعالى: ﴿مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ..﴾ [الصافات: 162] يقول ما أنتم بمضلين إلا من أضله الله.. و”الفتنة” العذاب نحو تعذيب الكفار ضعفة المؤمنين في أول الإسلام ليصدوهم عن الإيمان، و”الفتنة” الاختبار، و”الفتنة” المحنة، و”الفتنة” المال، و”الفتنة” الأولاد، و”الفتنة” الكفر، و”الفتنة” اختلاف الناس بالآراء، و”الفتنة” الإحراق، وقيل: “الفتنة” الغلو في التأويل المظلم. يقال: فلان مفتون بطلب الدنيا أي قد غلا في طلبها.

وجماع الفتنة في كلام العرب: الابتلاء والامتحان». (3تهذيب اللغة، (14/297 299) (باختصار))

مما سبق بيانه يتحصل لدينا أن الفتنة تطلق ويراد منها معان كثيرة تدل على كل معنى منها، ويعرف حسبما ورد بالسياق والقرائن، ومن هذه المعاني:

  1. الابتلاء والامتحان.
  2. الميل عن الحق.
  3. الإثم.
  4. القتل والحرب.
  5. الاختلاف والفرقة.
  6. الإضلال.
  7. الكفر.
  8. العذاب، وغير ذلك من المعاني المذمومة.

والآن وبعد أن تبين لنا معنى الفتنة وما يتفرع عنها من المعاني، وبعد أن تبين لنا خطرها وذم الشرع لها، وجب الحذر منها والهرب والفرار والفزع إلى الله عز وجل من شرورها.

ومما يساعد على البعد عنها والنجاة منها إذا وقعت معرفة أسبابها والطرق المؤدية لها؛ لأن معرفة أسباب السقوط فيها تعين على النجاة منها بإذن الله عز وجل.

أسباب السقوط في الفتن

الأسباب المؤدية إلى ملابسة الفتن والسقوط فيها كثيرة؛ لكنها لا تخرج في مجموعها عن سببين هامين يرجع إليهما جميع الأسباب. وقد ذكر هذين السببين الإمامان الجليلان ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، رحمهما الله تعالى، وعبرا عن ذلك بأسلوبين مختلفين لفظاً لكنهما متفقان في المعنى.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

“ولا تقع فتنة إلا مِن ترْك ما أمر الله به، فإنه سبحانه أمر بالحق وأمر بالصبر. فالفتنة إما مِنْ تَرْك الحق، وإما من ترك الصبر”. (4الاستقامة، (1/ 39))

ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:

“الفتنة نوعان:

فتنة الشبهات

وهي أعظم الفتنتين، وفتنة الشهوات. وقد يجتمعان للعبدِ، وقد ينفردُ بإحداهما.

ففتنة الشبهات من ضعف البصيرة، وقِلة العلم، ولا سيما إذا اقترن بذلك فساد القصد، وحصول الهوى، فهنالك الفتنة العظمى، والمصيبة الكبرى، فقل ما شئت فى ضلال سيئ القصد، الحاكم عليه الهوى لا الهدى، مع ضعف بصيرته، وقلة علمه بما بعث الله به رسوله، فهو من الذين قال الله تعالى فيهم: ﴿إِنْ يَتّبِعُونَ إلا الظّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنُفُسُ﴾). [النجم: 23].

وقد أخبر الله سبحانه أن اتباع الهوى يضل عن سبيل الله، فقال: ﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِى الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتّبِعِ الْهَوَى فَيضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بَما نَسُوا يَوْمَ الحِسَابِ﴾ [ص: 26].

وهذه الفتنة مآلها إلى الكفر والنفاق، وهى فتنة المنافقين، وفتنة أهل البدع، على حسب مراتب بدعهم. فجميعهم إنما ابتدعوا من فتنة الشبهات التي اشتبه عليهم فيها الحق بالباطل، والهدى بالضلال.

ولا ينُجى من هذه الفتنة إلا تجريد اتباع الرسول، وتحكيمه في دِقِّ الدين وجِلِّه، ظاهره وباطنه، عقائده وأعماله، حقائقه وشرائعه؛ فيتلقى عنه حقائق الإيمان وشرائع الإسلام، وما يثبته الله من الصفات والأفعال، والأسماء، وما ينفيه عنه، كما يتلقى عنه وجوب الصلوات وأوقاتها وأعدادها، ومقادير نُصبُ الزكاة ومستحقيها، ووجوب الوضوء والغسل من الجنابة، وصوم رمضان، فلا يجعله رسولا في شيء دون شيء من أمور الدين، بل هو رسول فى كل شيء تحتاج إليه الأمة في العلم والعمل، لا يتلقى إلا عنه، ولا يؤخذ إلا منه، فالهدى كله دائر على أقواله وأفعاله، وكل ما خرج عنها فهو ضلال، فإذا عقد قلبه على ذلك وأعرض عما سواه، ووزَنه بما جاء به الرسول، فإن وافقه قبله، لا لكون ذلك القائل قاله، بل لموافقته للرسالة، وإن خالفه رده، ولو قاله من قاله، فهذا الذى ينجيه من فتنة الشبهات، وإن فاته ذلك أصابه من فتنتها بحسب ما فاته منه.

وهذه الفتنة تنشأ تارة من فهم فاسد، وتارة من نقل كاذب، وتارة من حق ثابت خفى على الرجل فلم يظفر به، وتارة من غرض فاسد وهوى متبع، فهى من عمى فى البصيرة، وفساد فى الإرادة.

وأما النوع الثاني من الفتنة؛ فـ

فتنة الشهوات

وقد جمع سبحانه بين ذكر الفتنتين في قوله: ﴿كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاقِكُمْ﴾ [التوبة: 69].

أي تمتعوا بنصيبهم من الدنيا وشهواتها. والخلاق هو النصيب المقدر، ثم قال: ﴿وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا﴾ [التوبة: 69] فهذا الخوض بالباطل، وهو الشبهات.

فأشار سبحانه في هذه الآية إلى ما يحصل به فساد القلوب والأديان، من الاستمتاع بالخلاق، والخوضِ بالباطل؛ لأنّ فساد الدين إما أن يكون باعتقادِ الباطل والتكلم به، أو بالعمل بخلاف العلم الصحيح.

فالأول: هو البدع وما والاها، وهو فساد من جهة الشبهات. والثاني: فسقُ الأعمال، وهو فساد من جهة الشهوات.

ولهذا كان السلف يقولون: “احذروا من الناس صنفين: صاحب هوى قد فتنه هواه، وصاحب دنيا أعمته دنياه”، وكانوا يقولون: “احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل؛ فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون”. (5إغاثة اللهفان 1/ 165-167 (باختصار))

والسببان هما نفس ما ذكره شيخ الإسلام نفسه من الأسباب؛ فالشبهة إنما تنشأ من ترك الحق والجهل به، بينما تنشأ الشهوة من ترك الصبر أو ضعفه.

ففتنة الشبهات من ضعف البصيرة، وقلة العلم، ولا سيما إذا اقترن بذلك فسادُ القصد، وحصول الهوى.

وهذه الفتنة تنشأ تارة من فَهْمٍ فاسدٍ، وتارةً من نقلٍ كاذب، وتارةً من حق ثابت خَفيَ على الرجل فلم يَظْفر به، وتارةً من غرض فاسد وهوى مُتبع، فهي من عمى في البصيرة، وفسادٍ في الإرادة.

خاتمة

يمكن تلخيص هذه الأسباب فيما يلي:

1- ترك الحق وعدم السعي للعلم به أو عدم إصابته بسبب شبهة أو تأويل فاسد؛ ومن هنا تنشأ الفتنة بسبب الجهل أو الفهم الفاسد.

وهذا ما عبر عنه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى بقوله: “ترك الحق”، وعبر عنه الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى بقوله: “فتنة الشبهات من ضعف البصيرة وقلة العلم”.

2- ترك الصبر. وأصل الفتنة في هذا السبب هو عدم الصبر على الحق؛ فصاحب هذه الفتنة لا ينقصه العلم بالحق بل يعلمه ولا يجهله؛ ولكنه تركه ضعفاً وشهوة، وهو يعلم من نفسه أنه تارك للحق.

واليوم نجد شدة الحاجة لهذين الأمرين، العلم بالحق ورد الشبهات المتكاثرة التي يطلقها أهل الباطل باقتطاع النصوص واجتزائها، وتحريم الأحكام عن مناطاتها، واتخاذ مبدأ التبرير لكل وارد من الغرب والشرق.. وغير ذلك من الجرائم.

وكذلك فتنة الضغوط اليوم بكثرة التخويف للعلماء والدعاة والصادعين بالحق، والضغوط بالشهوات والتلويح بالدنيا لمن يستجيب لأهل الباطل.

هنا يجب الحذر، والثبات، والأخذ بهذين الأصلين العظيمين. وبالله الثبات والتوفيق.

…………………….

الهوامش:

  1. مسلم، كتاب الإيمان (144).
  2. البخاري، كتاب المناقب (3597).
  3. تهذيب اللغة، (14/ 297 299) (باختصار).
  4. الاستقامة، (1/ 39).
  5. إغاثة اللهفان 1/ 165-167 (باختصار).

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة