الإيمان بالقدر أحد أركان الإيمان الستة، ولا يقبل الله من عبدٍ صرفاً ولا عدلاً حتى يؤمن به وفق ما جاءت به النصوص، وللإيمان به معالم منها: الإدراك الجازم بأن الله عز وجل حكم عدل لا يظلم أحداً، والاعتقاد الجازم بأنه سبحانه قد علم كل شيء أزلاً، وأنه قد أحاط بكل شيء علماً، وبهذا يصل العبد إلى كمال الراحة والطمأنينة فيما قدره الله تعالى له، فلا يجزع من مصيبة، ولا يضرب نصوص الشرع بعضها ببعض.
من آثار الإيمان بالقدر في حياة المسلم
زيادة الإيمان وقوته
الحقيقة أن أثر هذا عظيم جدا في حياة الإنسان وفي حياة الأمة جميعاً، وسأجمل هذه الآثار، لكن ينبغي أن تعلم أن قضية الإيمان بالقضاء والقدر قضية تربية وقضية أعمال قلوب، فالإنسان الذي يعبد الله ويتبع شرعه يعمر الله قلبه بالإيمان فيصبح مؤمناً بالله سبحانه وتعالى وبقضائه وقدره فيستريح في حياته.
لهذا فهذه الآثار التي سأشير إليها ما هي إلا آثار سأذكرها بإجمال تبين لنا أهمية الإيمان بالقضاء والقدر وأثره في الحياة.
فمنها أولاً: زيادة الإيمان وقوته؛ لأن الإيمان بالقضاء والقدر ركن من أركان الإيمان، وكل ركن من أركان الإيمان إذا آمن به الإنسان وعمر قلبه به تصديقاً وإيماناً وعمل قلب زاد إيمانه وقوي قلبه.
دفع المؤمن نحو العلم والإنتاج
ثانياً: أن الإيمان بالقضاء والقدر يدفع الإنسان ويدفع الأمة إلى العمل، وليس كما يظن الناس أن الإيمان بالقضاء والقدر يدفع الإنسان إلى الكسل، لا، بل الحاصل هو العكس تماماً، فالعمل والسعي مأمور به، والمؤمن هو الذي يعلم أنه لابد أن ينازع الأقدار بالأقدار، فهو يسعى ويعمل، لكنه يختلف عن غيره بأنه يسعى ويعمل وهو مرتاح الضمير، فلا يحزن ولا يغضب إذا فاته شيء، بخلاف غير المؤمن فإنه يتحسر على كل شيء يفوته وهو يطلب رزقه مثلاً.
فإذاً الإيمان بالقضاء والقدر يجعل الأمة تعمل وهي تعلم أنها إنما تعمل على وفق قضاء الله وقدره، فهي تعمل مع الإيمان بالقضاء والقدر، ولهذا تجد النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه وهو في صحيح مسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا.
قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان).
فهل تأملت كيف أن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله؟ إنَّ المؤمن القوي هو القوي في إيمانه، القوي في الخير، القوي في نفع الناس، القوي في العمل، يعمر الأرض ويعمر الكون، وهو مؤمن مصدق بقضاء الله وقدره، لكنه لا يحزن إذا فاته شيء أو لم يقع هذا الشيء الذي أراده، لا يحزن ولا يكون كبعض الناس يقول: لو أني فعلت كذا كان كذا ويتحسر؛ لأن (لو) تفتح عمل الشيطان.
إراحة المؤمن من أكدار الدنيا
ثالثاً: الحياة أحزان وأكدار، والله يقول: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) [البلد:4]، فهو قد يفرح أياماً لكنه يحزن أياماً أخرى، وهذا عام لجميع الناس أعلاهم منزلة دنيوية وأقلهم منزلة دنيوية، فتش عن أحوالهم تجدها متشابهة، فالملوك والأغنياء والرؤساء المشهورون والأثرياء والفقراء المرضى كلهم فتش عن حالهم تجد أحوالهم متشابهة، يحزنون أياماً ويفرحون أياما.
إذاً فمن هو الذي يستريح؟ لا يستريح إلا المؤمن الصابر على أقدار الله تبارك وتعالى.
الرضا بقضاء الله وقدره في المصائب
رابعاً: الرضا بقضاء الله تعالى وقدره في المصائب، وهذا الرضا هو من أعظم نعم الله سبحانه وتعالى على الإنسان ومن أشدها أثراً على استقراره النفسي، فالحياة مصائب، والإنسان دائماً معرض لها؛ لأنها أقدار وأحكام قائمة.
فالمؤمن بقضاء الله وقدره هو الذي يرضى ويسلم ويؤمن بأن هذا قضاه الله سبحانه وتعالى وقدره، ولهذا لو فتشت عن أولئك الذين لا يؤمنون بالقضاء والقدر تجدهم أمام هذه المصائب على أحوال عجيبة، فمنهم -كما هو الحال في كثير من بلاد الغرب- من ينتحر، يؤدي به حاله إلى الانتحار وإزهاق نفسه، نسأل الله السلامة والعافية.
ومنهم من تتحول حياته إلى حياة بائسة، ينظر إلى الدنيا وإلى الحياة نظرة مظلمة، ومنهم من يتحول وتتحول حياته إلى مرض نفسي لوجود مصيبة، لكن المؤمن بالقضاء والقدر ليس هذا حاله، ومنهم من يتحول وتتحول حياته إلى النقمة من الآخرين.
إذاً هذه الأحوال من يسلم منها؟ يسلم منها ذلك الذي يؤمن بقضاء الله سبحانه وتعالى وقدره ويسلم، فإذا سلم ورضي حول الله تبارك وتعالى تلك المصيبة إلى خير وإلى نعمة وإلى رضاً وإلى استراحة نفس واستراحة قلب، حتى إن الإنسان ربما لو خير بين وقوع المصيبة وبين ما أعطاه الله من الخير على صبره عليها فلربما اختار الثانية، وهذا هو الغاية، وليس ذلك إلا للمؤمن.
القضاء على داء الحسد في القلوب
خامساً: والإيمان بالقضاء والقدر يقضي على داء من أخطر الأدواء في المجتمعات، ألا وهو داء الحسد الذي هو داء عضال يأكل صاحبه ويولد الضغائن بين الناس، لكن المؤمن بالقضاء والقدر يعلم أن ما يراه على الآخرين وحرمه هو من جاه أو مال أو غير ذلك إنما هو بقضاء الله وقدره، فهو ابتلاء لهم، كما أن حرمانه ابتلاء له (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء:35].
وإذا كان كذلك فيسلم الأمر لله، فهو الذي يمن على عباده بما يشاء، وهو سبحانه وتعالى الذي أعطى هذا ومنع هذا بقضاء وقدر، وكل ذلك امتحان وتسليم، فلماذا تحسد الناس؟ ارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، هذه هي القاعدة، ومن ثم فإيمان الإنسان بقضاء الله وقدره يجعله ينظر إلى ما يجري في الكون وإلى ما يجري على الخلق وإلى تفاوت أحوالهم وأرزاقهم ومراتبهم الدنيوية ينظر إلى ذلك نظرة إيمانية قدرية ربانية تجعله يسلم الأمر لربه سبحانه وتعالى ويعلم أنه تكييف.
أما إذا اختل هذا عنده صار مسكيناً قلبه يتحسر، ينظر إلى هذا الرجل الغني فيتحسر حسداً له يود لو تلف ماله هذه اللحظة، وتحسره هذا كما قال الشاعر: اصبر على كيد الحسود فإن صبرك قاتله فالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله تحسر الحسود لا يضر به إلا نفسه؛ لأن ذلك الذي أعطي هذا المال لن يزول عنه بحسده، ولأنك أيضاً لن تبلغ درجته، ولن يأتيك هذا المال بحسدك، فما الفائدة؟ لا فائدة.
إذاً الإيمان بالقضاء والقدر يقضي على هذا الداء العضال.
تربية المؤمن على الشجاعة
سادساً: الشجاعة، فللمؤمن بالقضاء والقدر شجاعة في ساحات الجهاد وعند كلمة الحق، ولقد كانت هذه سمة المسلمين على مدار تاريخهم الطويل، كانوا أهل جهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى يخوضون المعارك لا يخافون؛ لأنهم يوقنون أن الأمر مقدر وأن الأجل لا يتقدم ولا يتأخر، دخلت المعركة أو لم تدخلها، جاهدت في سبيل الله أو لم تجاهد، فأجلك محدد، فإذا جاء يأتيك سواءٌ أكنت في معركة، أم على فراشك، أم بين يدي الأطباء، أم بين يدي أحب الناس إليك (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [الأعراف:34].
فإذا تكرر هذا عند المؤمن تحول إلى إنسان مقدام لا يخاف؛ لأنه يعلم أن الأجل مقدر، ولأنه يوقن أن الرزق مكتوب، ولأنه أيضاً يؤمن إيماناً تاماً أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوه بشيء لم ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، ولو اجتمعوا على أن يضروه بشيء لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه، رفعت الأقلام وجفت الصحف، كما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوصي عبد الله بن عباس.
ولهذا تجد مواقف المؤمنين أمام الطغاة وأمام الظلمة يواجهونهم بالحق لا يخافون في الله لومة لائم؛ لأنهم يعلمون أن هؤلاء لا يملكون من أنفسهم شيئاً فضلاً عن أن يملكوا من غيرهم شيئاً.
فهذا موسى عليه الصلاة والسلام واجه فرعون الطاغية الذي كان يقول: (أنا ربكم الأعلى).
وكان معه الجنود المجندة بالألوف المؤلفة، ومع ذلك نصره الله سبحانه وتعالى ونجاه، وأغرق الله فرعون وقومه وهو ينظر.
ففي ميزان الماديات موسى ضعيف وفرعون ذو سلطان قاهر، لكن في ميزان الله سبحانه وتعالى نصر الله موسى وقومه وأذل فرعون وقومه.
وهذا خالد بن الوليد البطل الشجاع الذي خاض المعارك كلها كيف كانت وفاته؟ كانت وفاته على فراشه، وقال كلمته المشهورة: خضت أكثر من مائة معركة، وما في جسمي موضع أربعة أصابع إلا وفيه ضربة بسيف أو رمية بسهم أو طعنة برمح، وهاأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء.
هذا هو الإيمان بالقضاء والقدر، يؤتي الإنسان شجاعة في الحق، ويجعله لا يخاف.
تعليق رجاء العبد وخوفه بالله تعالى وحده
والإيمان بالقضاء والقدر -وهذا هو الأثر السابع- يجعل العبد لا يخاف إلا الله ولا يرجو سواه، كيف هذا؟ لو تأملت في حياة الناس اليوم -مثلاً- لوجدت أن الأم تخاف على ولدها، والأب يخاف، والإنسان يخاف، وكذلك أيضاً يرجو غيره.
لكن الإيمان بالقضاء والقدر يجعل خوفه ورجاءه لله سبحانه وتعالى، وهذا هو الاعتدال الصحيح في حياة المؤمن، فلا يخاف الإنسان -مثلاً- من شيطان أو جني أو ساحر أو ولي يزعم أن له كرامات أو غير ذلك؛ لأنه يعلم أن هؤلاء لا يملكون شيئاً إلا بأمر الله سبحانه وتعالى، وكذلك أيضاً لا يرجو المخلوقين في رزق ولا في غيره، وإنما يرجو ربه سبحانه وتعالى، وهذا أثر عظيم في حياة الإنسان.
الشكر على النعمة والصبر على البلية وعدم التحسر على الفائت
الثامن: أن المؤمن إذا أصابته سراء شكر وإذا أصابته ضراء صبر، وهذا لا يكون إلا للمؤمن بقضاء الله وقدره.
التاسع: عدم التحسر على ما مضى، بل ينظر الإنسان دائماً إلى أمامه فيعمل، وهذه حياة المؤمن بالقضاء والقدر، فالإنسان قد يفكر أحياناً فيما مضى، يقول: لو أنني فعلت كذا، لو أنني اشتريت الأرض الفلانية إلى آخره، فلا يتحسر على ذلك؛ لأنه يعلم أنَّ هذا أمر مقدر، وإنما ينظر إلى ما هو أمامه فيفعل.
ومن ثم فإن الإنسان يعلم أن الله سبحانه وتعالى هو الذي استأثر بعلم الغيب، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو رسول الله- يأمره الله تعالى أن يقول: (وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ) [الأعراف:188].
المؤمن بالقضاء والقدر مستريح وحياته تتحول إلى عمل وطاعة
العاشر: أن الإنسان قد يبتلى في هذه الحياة بمرض أو بولد معاق، أو يكون ممن لا يولد له إلا بنات، أو يكون عقيماً ممن لا يولد له، أو غير ذلك من أمور الحياة التي قد تبقى مع الإنسان طول حياته، فهذا كله بقضاء الله وقدره، لكن من هو الذي يستريح؟ لا يستريح إلا من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا ورضي بقضاء الله سبحانه وتعالى وقدره فسلم؛ لأن هذه الأشياء تعيش مع الإنسان ليل نهار، فهل تحسره واعتراضه على قدر الله يغير من واقع الأمر شيئاً؟ لا يغير.
لكن المؤمن هوالذي يرضى بقضاء الله وقدره، يقول: آمنا بقضاء الله وقدره، الحمد لله، اللهم! اؤجرني على مصيبتي.
فإذا آمن بذلك استراح وتحولت حياته إلى حياة عمل وطاعة وبذل للخير بأي شيء ابتغاء مرضات الله سبحانه وتعالى، حتى يجد ذلك يوم السعادة العظمى يوم القيامة.
إذاً فنظام الدنيا عنده ليس كل شيء، وإنما ينظر إلى ميزان العقيدة، فمتى نظر ذلك الإنسان الذي لا يولد له لا يعترض حينما يرى الناس لهم أولاد، وإنما يعلم أن الدنيا فانية والآجال محددة، وهذه الدنيا كلها هباء، فيعمل الطاعات ويحسن إلى الآخرين؛ لأنه يعلم أن الله سبحانه وتعالى إن رضي عنه وأدخله الجنة فإنه سيجد هناك من النعيم والحبور ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
إذاً فالإيمان بالقضاء والقدر هو عماد الحياة المستقرة.
أسال الله سبحانه وتعالى أن يوفقني وإياكم للإيمان بقضائه وقدره على الوجه الصحيح، وأن يعيذني وإياكم من الفتن ومن المخالفات جميعاً.
المصدر
محاضرة بعنوان: “معالم الإيمان بالقضاء والقدر وأثره في حياة المسلم” للشيخ عبد الرحمن صالح المحمود رحمه الله.