قد شهدتُ في حياتي هذه مواقف لا أستطيع عدَّها تثبت أن تقدير الله للمرء خير من تدبيره لنفسه.. وكم من أمر ظننته محنة فإذا هو الخير كله، وفيه ما لم يُطِقه خيالي من السرائر المكنونة.

حتى صار من أرسخ الراسخ في عقلي مقولة القائل: “الله عوَّدك الجميل.. فَقِسْ على ما مضى”.. وأسأل الله أن ترسخ هذه الكلمة في قلبي وضميري ويقيني مثلما هي في عقلي.. فلا يزال الشيطان ولا تزال النفس الأمارة بالسوء تحولان بينها وبين ذلك الرسوخ!

وأعظم ما أستطيع به الآن ضرب مثال على هذا هو ما كنا فيه أيام حسني مبارك..

لقد طال عهد هذا المجرم حتى يأس الناس من هلاكه، فكأنه فوق قانون البشر، وكان كلما جاء الخبر بمرضه تمنى الناس موته، فإذا به يعود من جديد.. كم حاك في النفوس سؤال: لماذا؟.. هذا وقد جاوز الثمانين من عمره (لما مات حسني مبارك كان في الرابعة والتسعين من عمره).

ثم انطوت الأيام حتى جاءت الثورة، وأطاحت بمبارك، فكانت الإطاحة به حدثا هائلة لا يقارن أبدا في فوائده بما لو كان قد مات في مرضه، فورثنا بعده ابنه جمال أو حتى ورثنا من بعده طنطاوي وزير الدفاع!!

لقد شاء الله لنا وله أعظم مما كان في خيالنا وتدبيرنا، شاء أن يزول بثورة تزلزلت لها أرض العرب جميعا، وانبعث الأمل في صدور الناس جميعا، وأشهدنا الله على زوال الجبارين، وبزواله تدافعت ثورة الناس في ليبيا واليمن والشام.. ولا يزال الطغاة حتى هذا اليوم يحاولون درء الأمور وإعادتها إلى ما كانت عليه، ولم يستطيعوا بعد!

حتى لو أن مبارك لم يذق عاقبة إجرامه، فعاش سجنه بالمستشفى، ثم عاد إلى بعض قصوره آخر أيامه.. ولكن مشهده وهو في المحاكمة، يُسأل فيجيب “أفندم!”، ومشهده وهو مطروح يتمارض على سرير طبي.. بل حتى حياته في قصره بعد زوال ملكه.. فكما يقال حقا: ما من لذة تبقى بعد زوال الملك!

ولكن، بعيدا عن مبارك الآن.. القصد:

أن هذا المصير الضخم الذي صارت إليه الأمة، ما كان يدور في خيال أوسع الناس تفاؤلا في أعوام 2004 أو 2005 أو 2009 أو 2010..

فإذا ثبت هذا، وأيقنا أن الله يدبر لهذا الدين، وأنه يمكر بالمجرمين.. فإن هذا يخفف ذلك الألم الذي نجده في واقعنا.. إن كان ذلك في حرب غزة أو في غيرها من آلام المسلمين!

وكما قيل بحق: لن تفهم حكمته إلا لو كان عندك علمه!! ولن تفهم رحمته إلا لو تصوَّرت قدرته!!

وهذا المعنى مكنوز متفجر في قوله تعالى: {وهو القاهر فوق عباده، وهو الحكيم الخبير}..

فما أعظم أن يكون القاهر القوي حكيما وخبيرا.. وما أرحم أن يكون الحكيم الخبير قاهرا قويا..

وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- “إن الله يغرس لهذا الدين بكلتا يديه”.

ومن حكمته وقدرته أنه أجرى في هذا الكون سُنَنَه، وعاقب من قصَّر في حمل رسالته بأن يصيبه العنت والمشقة حتى يعود فيتوب ويعمل.. وذلك اختبار الإيمان!

فلو كان المسلم منصورا أبدا، لفرط المسلمون، ولهرع إليهم ودخل معهم كل الناس طمعا في الدنيا.. ولكن الله يمحص الذين آمنوا، فلا يعطي جنته إلا لمن استحقها، فيهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حيى عن بينة، وإن الله لسميع عليم.

قصة غزة العظيمة

هذه الحرب في غزة يُصِرُّ العدو على إكمالها بهذه الطريقة الوحشية، رافضا سماع أي منطق عاقل حتى لو كان القائل به صهيونيا عتيدا لا يُتَّهم في علمه ولا في إخلاصه!

بل قد سمعت من بعض المقربين من المقاومة أمورا استغربوا معها وتعجبوا، لماذا لم يفعلها الصهاينة مع أنها واضحة، وتجعل خسائرهم أقل بكثير، ثم تجعل موقفهم السياسي أحسن بكثير.. ثم ما يجدون لذلك تفسيرا إلا أن الله أضلهم.

ولو حاولت أن أقيس على التاريخ، فهذا الذي يحدث الآن هو مصداق هذا الواقع..

لقد حاول شارون أن يحسم بالقوة مسألة القدس، فاقتحم الأقصى، فاشتعلت انتقاضة الأقصى عام 2000م!!

وإذا بالشعب الذي كادت السلطة الفلسطينية أن تقهره ينفلت من عقالها وعقال الصهاينة ويثير زلزلة في العالم العربي الذي كان سائرا إلى التطبيع!!

ثم يأتي شارون نفسه على رأس الحكومة، وبكل وحشيته في نفسه، ثم الوحشية الأمريكية الداعمة له بعد أن صارت مسعورة جراء أحداث سبتمبر.. بكل هذا، أخفق في إخماد الانتفاضة، فلم يجد إلا أن يفعل شيئين خطيرين:

  1. أقام سورا عازلا في الضفة ليكون هذا أهم مسمار نعش في حلم “من النيل إلى الفرات”.
  2. الانسحاب من غزة .

كلا الخطوتين الحاسمتين قام بهما شارون، أعتى قائد صهيوني في تاريخ الصهاينة بعد جيل المؤسسين!! ولم يكن ليجرؤ على ذلك غيره، بكل ما فيه من بأس وبكل ما له من تاريخ!!

فكان ماذا؟!

تحررت غزة.. وما كان أحد يدري في ذلك الوقت أنها ستكون الصداع الأعظم في قلب الدولة الصهيونية!

ولكن شارون أراد أن يسلمها من جديد إلى السلطة الفلسطينية، وإلى عميلهم الوفي: محمد دحلان.. وهيأ له الفرصة باغتيال عرفات، وقد كان وفيا أيضا لكنه شاخ واستنفد طاقته وحدَّه في التنازلات!

واجتمعت كلمة بوش وشارون على إجراء انتخابات بعد عرفات، وقد أرادوا منها أن تأتي الانتخابات بعباس، فيتنازل لهم عما لم يستطع عرفات أن يفعل، وتنتهي القضية..

فإذا بالانتخابات التي أرادوها جاءتهم بحماس، التي لم تكن تفكر أصلا في أن تخوض الانتخابات!!

ومع أن الغرب هم الذين ابتكروا نظريات الإسلام المعتدل وتدجين المتطرفين والتلويح بالجزرة… إلخ! إلا أنهم أرادوا كسر حماس، واستفزوها فلم يتركوا أمامها إلا أن تحسم الوضع عسكريا وتنفرد بحكم غزة، لتبدأ قصة غزة العظيمة في التحول إلى قلعة مقاومة عنيدة جبارة لا مثيل لها!!

كل هذه السلسلة من الخطوات هي التي قادتنا وقادتهم إلى هذه اللحظة.. خطوات هم الذين بدؤوها وابتكروها وفكروا فيها.. أرادوا منها أمورا، وأضلهم الله عما أرادوا، وجعل تدبيرهم تدميرهم.

الله عودك الجميل.. فَقِس على ما تعودت!

اللهم ارزقنا اليقين بما عندك، وأقمنا فيما يرضيك.

المصدر

صفحة الأستاذ محمد إلهامي.

اقرأ أيضا

ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض

أثر الإيمان والأمان في مواجهة العدوان

لمن يسأل: أينَ الله؟ ولماذا لا ينتقمُ لغزَّة؟!

التعليقات غير متاحة