إن الحديبية بوقفاتها وفقهها تُعلمنا أن النصر مع الصبر، وأن العاقبة للتقوى والمتقين، وأن عروش الظالمين تتهاوى، وحمية الجاهلية تبطل وتخيب وأن المستضعفين يتقوون ـ إذا صبروا واتقوا ـ وأن الأقوياء يضعفون إذا طغوا وتجبروا.
صلح الحديبية..أعظم الفتوح
في السنة السادسة من الهجرة النبوية، خرج رسول الله ﷺ مع أصحابه قاصدين مكة المكرمة لأداء العمرة، فعزمت قريش على منع رسول الله ﷺ من ذلك، ونزل رسول الله ﷺ بالحديبية، وجرت بينه وبين قريش مراسلات ومفاوضات، انتهت بتوقيع صلح الحديبية، الذي يضع الحرب بين الفريقين عشر سنين، في بنود اتفق عليها رسول الله ﷺ مع سهيل بن عمرو ممثل قريش في الصلح.
وكان من بين البنود ثقيلة الوقع على صحابة رسول الله ﷺ البند الذي ينص على أنه “من أتى محمداً من قريش من غير إذن وليه -أي هارباً منهم- رده عليهم، ومن جاء قريشاً ممن مع محمد -أي هارباً منه- لم يُرد عليه”، ولم يكن الإشكال في عدم المماثلة، لأنه من جاء قريشاً ممن مع محمد تاركاً دينه وناكصاً على عقبيه، فأبعده الله، ولا حاجة للمسلمين به، بل خروجه من صف المجتمع المسلم خير للمسلمين من بقائه، لكن الذي ثقل على المسلمين هو كيف يردون من جاءهم مسلماً من مكة فاراً بدينه من فتنة قريش وتعذيهم؟!
يا أبا جندل اصبر واحتسب
ومما زاد من ثقل الأمر على الصحابة رضوان الله عليهم، أنه بينما الكتاب يكتب إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يوسف في قيوده، قد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين ظهور المسلمين، فقال سهيل – والده الذي يعقد الصلح مع رسول الله ﷺ – : هذا أول ما أقاضيك عليه على أن ترده، فقال النبي ﷺ إنا لم نقض الكتاب بعد، فقال: فو الله إذن لا أقاضيك على شيء أبداً -يعني لا يتم الصلح-، فقال النبي ﷺ: فأجزه لي – يعني استئنه من هذا البند-، قال: ما أنا بمجيزه لك، قال: بلى فافعل، قال: ما أنا بفاعل، وقد ضرب سهيل أبا جندل في وجهه، وأخذ بتلابيبه وجره، ليرده إلى المشركين، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أأرد إلى المشركين يفتنوني في ديني؟ فقال رسول الله ﷺ يا أبا جندل اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً».
فكيف كان هذا الفرج والمخرج؟
لما قدم رسول الله ﷺ المدينة من الحديبية أتاه أبو بصير عتبة بن أسيد الثقفي، مسلماً فاراً بدينه من قريش، قد أفلت منهم، فأرسلت قريش رجلاً من بني عامر بن لؤي إلى رسول الله ﷺ ، فقدم المدينة مع مولى له بعد أبي بصير بثلاثة أيام ومعه كتاب من قريش يطلبون إرجاع أبي بصير إليهم بموجب العهد الذي بينهم وبين رسول الله ﷺ ، فأمر رسول الله ﷺ أبا بصير أن يرجع معهما، ودفعه إليهما، فقال أبو بصير : يا رسول الله تردني إلى المشركين يفتنونني في ديني؟ فقال: «يا أبا بصير إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، ولا يصلح لنا في ديننا الغدر، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المسلمين فرجاً ومخرجاً».
فخرج معهما، فانتهيا به عند صلاة الظهر بذي الحليفة، فصلى أبو بصير عندها صلاة المسافر، ومعه زاد له من تمر يحمله يأكل منه، وجلس يحادث الرجلين، فسل العامري سيفه ثم هزه فقال: لأضربن بسيفي هذا في الأوس والخزرج يوماً إلى الليل، فقال له أبو بصير : أصارم سيفك هذا؟ قال: نعم، قال: ناولنيه أنظر إليه إن شئت، فناوله إياه، فلما استمكن أبو بصير من مقبض السيف في يده ضرب به آسره العامري فقتله، وفي رواية أن أبا بصير كان مقيداً، فاستل السيف بفيه والعامري نائم، فقطع القيود ثم ضرب العامري فقتله، وهرب الآخر نحو المدينة، وأبو بصير في أثره، حتى وصل الرجل إلى المدينة، فأتى رسول الله ﷺ وهو جالس في أصحابه بعد العصر، فقال: قتل والله صاحبكم صاحبي وإني لمقتول، واستغاث برسول الله ﷺ فأمنه، وأقبل أبو بصير فأناخ بعير العامري، ودخل متوشحاً سيفه، فقال: يا رسول الله قد وفت ذمتك وأدى الله عنك، وقد أسلمتني بيد العدو، وقد امتنعت بديني من أن أفتن، فقال رسول الله ﷺ: «ويل أمه مسعر حرب لو كان معه رجال.. انطلق حيث شئت».
فخرج أبو بصير حتى قدم سيف البحر، وليس معه إلا كف تمر فأكله ثلاثة أيام، وأصاب حيتاناً قد ألقاها البحر بالساحل فأكلها، وبلغ المسلمين الذين قد حبسوا بمكة خبر أبي بصير، فتسللوا إليه.
المستضعفون الأقوياء
وانفلت أبو جندل بن سهيل بن عمرو الذي رده رسول الله ﷺ إلى المشركين بالحديبية، فخرج هو وسبعون راكباً ممن أسلموا فلحقوا بأبي بصير، واجتمع إليهم ناس من بني غفار وأسلم وجهينة، وطوائف من الناس حتى بلغوا ثلاثمائة مقاتل، لا تمر بهم عير لقريش إلا أخذوها وقتلوا من فيها، وضيقوا على قريش، فلا يظفرون بأحد منهم إلا قتلوه.
قريش تعيد حساباتها تحت وقع ضربات أبي بصير وأبي جندل
فأرسلت قريش إلى رسول الله ﷺ أبا سفيان بن حرب يسألونه ويتضرعون إليه أن يبعث إلى أبي بصير وأبي جندل ومن معهم، وقالوا من خرج منا إليك فأمسكه فهو لك حلال لا حرج عليك فيه، وقال أبو سفيان: فإن هؤلاء الركب قد فتحوا علينا باباً لا يصلح إقراره، فكتب رسول الله ﷺ إلى أبي بصير وأبي جندل يأمرهما أن يقدما عليه المدينة، فقدم كتاب رسول الله ﷺ على أبي بصير وهو يموت، فجعل يقرؤه مسروراً به، ومات وهو في يديه رضي الله عنه، فدفنه أبو جندل مكانه، وانطلق إلى رسول الله ﷺ1(1) القصة رواها عبد الرزاق والإمام أحمد وعبد بن حميد والبخاري وأبو داود والنسائي عن المسور بن مخرمة، والبيهقي عن ابن شهاب الزهري..
أهمية طاعة الله ورسوله والانقياد للشرع وإن خالف الهوى
والشاهد من هذه القصة المثيرة، هو سلوك أبي بصير رضي الله عنه، فحين وعده رسول الله ﷺ بأن الله سيجعل له ولمن معه من المسلمين المستضعفين فرجاً ومخرجاً، لم يجلس ينتظر الفرج، بل فكر ودبر، وسعى وبادر وتحرك، يفعل ذلك وهو أسير مقيد، على عنقه السيف، فكان من أثر تلك الروح الإيجابية، والنفس الشجاعة الوثابة، أن كان هو الفرج والمخرج، وفي رواية أن عمر بن الخطاب سار معه حين دفعه رسول الله للعامري، وقال له: أنت رجل، ومعك السيف، ورب رجل يكون خيراً من ألف، فافعل وافعل، يقول ذلك لأبي بصير وهو مقيد!
المبادرة الواعية والتخطيط لمباغتة العدو
فعمر يعلم أن من سعى وبذل ودبر، لن تعجزه الحيلة ولا الوسيلة، ولما عاد أبو بصير بعد أن نجى من آسره وقال له رسول الله ﷺ: «ويل أمه مسعر حرب لو كان معه رجال»، كتب بها عمر إلى المستضعفين في مكة، يحثهم على اللحاق بأبي بصير.
انطلق أبو بصير إلى سيف البحر، وليس معه إلا ملىء كفه من التمر، اقتات عليه ثلاثة أيام حتى نفد، ثم كان رزقه من سمك البحر، حتى وفد إليه أبو جندل وإخوانه، ليس في أيديهم إلا القليل، لكن هممهم عالية، وعقولهم لامعة، وسواعدهم قوية.
لم يكن اختيار أبي بصير لمنطقة سيف البحر عبثاً أو ضربة حظ، بل كان مقصوداً مخططاً، فهو يعلم أنه طريق قوافل قريش إلى الشام، فأراد أبو بصير أن يضرب المصالح الاقتصادية لقريش ويقطع عنها شريان الحياة، -يسير في ذلك على خطى رسول الله في بدر- وهو ما كان، حتى استغاثت قريش برسول الله ﷺ وتضرعت إليه أن يضم إليه أولئك الأفراد القلائل الذين خنقوها، وقطعوا عنها أسباب الحياة!
استثمار الفرص وتحييد الأعداء
إن من أكثر ما تحتاجه الأمة المسلمة اليوم في صراعها مع عدوها هو هذه الروح المبادرة، والنفس الوثابة، التي لا تستسلم للقيود، ولا تخضع للحواجز، بل تقاوم وتثابر، تعرف نقاط قوتها، ومواطن ضعف عدوها، تستثمر أقل الإمكانات، لتحقيق أكبر النتائج.
إن هذه الروح الإيجابية المبادرة كانت شائعة بين أفراد الجيل الأول من صحابة رسول الله ﷺ الذين حملوا الدين، وأسسوا الدولة مع رسول الله ﷺ ، وغرس الله بهم لدينه ما كان سبباً لانتشار الإسلام في ربوع الدنيا، ظهرت هذه الروح عند أبي بصير وحركته، وظهرت في الحباب بن المنذر وهو يشير على رسول الله ﷺ بتغيير موقع معسكر المسلمين في غزوتي بدر وخيبر، وهذه الروح هي التي دفعت سعد بن معاذ ليشير على رسول الله ﷺ ببناء عريش خاص به في بدر، ثم حملت سلمان الفارسي ليقترح على المسلمين حفر الخندق في الأحزاب، رأيناها في البراء بن مالك وهو يفتح حديقة الموت للصحابة في حرب مسيلمة الكذاب، ورأينا أثرها في الزبير وهو يعتلي أسوار حصن بابليون في فتح مصر.
الروح الإيجابية المبادرة في طوفان الأقصى
ولماذا نذهب بعيداً؟ أليست المقاومة اليوم هي من أثر هذه الروح التي حملها رجل قعيد على كرسي متحرك، وبثها في نفوس جيل من الشباب فصنعوا المعجزات؟ ولم تكن الأنفاق إلا من أثر المبادرة، ولا تصنيع الصواريخ إلا نتيجة الإيجابية، ألم يكن محمد الزواري يحمل نفس الروح وهو يضع مخططات الطائرة المسيرة، والطوربيد البحري المسير، ثم يثابر في صنع الأولى بيديه، ويكمل تلاميذه طريق إطلاق الطوربيد بعد استشهاده؟!
لقد رأينا هذه الروح تسري كثيراً عبر التاريخ الإسلامي الطويل، فكم من أحداث فارقة، وبطولات ناصعة، حملت توقيع فرد، أو مجموعة أفراد، كتبوا صفحاتهم الخالدة في كتاب تاريخ الأمة المجيد، ومهروها بدمائهم، ليظل الخط ممدوداً عبر التاريخ، من أبي بصير صاحب رسول الله، إلى كل أبي بصير ظهر في اللحظات الفارقة، ليصنع الأحداث الفارقة، وهو يسمع صدی كلمات عمر بن الخطاب لأبي بصير: أنت رجل، ومعك السيف، ورب رجل يكون خيراً من ألف»!
فتى يرى أهل غزة المستضعفين الفرج والمخرج في أبي بصير جديد؟
الهوامش
(1) القصة رواها عبد الرزاق والإمام أحمد وعبد بن حميد والبخاري وأبو داود والنسائي عن المسور بن مخرمة، والبيهقي عن ابن شهاب الزهري.
المصدر
الدكتور/ سميح عبدالرحمن (مدير أكاديمية أنصار النبي ﷺ)، ضمن العدد الثاني وعشرون من مجلة أنصار النبي.
اقرأ أيضا
فقه الحديبية.. العزة والثقة بنصر الله
فقه الحديبية .. المبادرة والتخطيط والتحوط
فقه الحديبية.. فقه تنازلات أم موازنات..؟