برزت ثورة الجزائر (2019) بنفس شعار ثورات الربيع العربي بعدما ظن الناس موتها؛ وقد نجحت جزئيا. وثمة خبرات متراكمة من السنوات التسع الماضية، يجب استيعابها للقيام بالواجب.

مقدمة

تقدم الرئيس الجزائري “عبد العزيز بو تفليقة” باستقالته يوم الثلاثاء (26) رجب (1440) من الهجرة، الموافق (2) إبريل (2019). وذلك بعد مظاهرات شعبية مليونية دامت لستة أسابيع؛ أثبت فيها الشعب الجزئري قدرته على اتخاذ موقف يمنعه بعض الإهانة التي أوصلته أن يحكمه رجل شبه ميت ليكون ستارا لجنرالات تحكم من خلفه ولشبكةٍ من أرباب المصالح والمنتفعين الفاسدين من حوله؛ شأن العسكر والملوك في بلاد المسلمين.

لقد مَنع المسلمون في الجزائر بعض الإهانة التي يلاقونها، ويلاقها إخوانهم في مصر وفي باقي البلاد العربية والإسلامية.

ملامح توزيع القوى في الدولة الحديثة

تفرح شعوبنا باللحظة التي يتقدم فيها من ثاروا عليه، بالاستقالة؛ فيشعرون أنهم أنجزوا ما أرادوا. وهذه نقطة خطأ خطيرة؛ فالدولة الحديثة بها ملامح لا بد من معرفتها، ومنها أن قوة السلطة فيها موزعة بين:

1) الحاكم الظاهر.

2) عدة قوى داخلية:

  1. العسكر والأجهزة الأمنية.
  2. المنتفعون المتسلقون من رجال الأعمال الرأسماليين.
  3. الأقليات المناقضة للهوية الإسلامية. والمتحالفة مع قوى الاستبداد في الخارج، ومع القوى الخارجية المعادية للأمة.

3) والخارج من قوى الاستعمار القديم وأصحاب النفوذ والهيمنة وممتلكي التبعية. وهذه القوة لها النصيب الأكبر من التحكم في بلاد المسلمين واتخاذ القرار ورسم السياسات ووضع الحواجز والحدود، وتحديد الخطوط الحمراء الممنوعة على الأمة.

هناك توزيع في القوى بين هؤلاء الثلاثة.

قد تختلف “نسب” توزيع هذه القوى بين الأنظمة الملكية والجمهورية؛ لكن الجميع يشترك في التوزيع بين هذه القوى.

ومن ثم فرحيل شخص لا يعني الكثير بالنسبة لهذه الأنظمة فبإمكانها “إنتاج شخص آخر” يفهم الدور ويتقاسم السلطة ويعرف الحدود المطلوبة.

تحديد ملامح الدولة العلمانية

والأمر المهم أيضا أن هذه القوى تشترك في فكر متجانس وعقيدة متشابهة وموقف متقارب في تحديد الموقف من الإسلام كشريعة وهوية ـ وهو موقف الرفض والتنحية والحصار له وتضييق الخناق عليه وإخراجه من المعادلة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

كما يشتركون ويتشابهون في تصور الدولة المطلوب تحقيقها، والحفاظ عليها كدولة “قومية” يُخرج فيها الدين من المعادلة، وتتنكر للتاريخ الإسلامي وتُحل الانتماء والتاريخ القومي بديلا، وتعتمد دراسة التاريخ القديم وما قبل الإسلام بديلا عن تاريخ “الأمة الإسلامية”؛ ليصبح الإسلام أحد مراحل هذه “الدولة” وأنها تجاوزته الى المرحلة “الحديثة” التي لا مكان فيها لامتداد هذا التاريخ..

وهنا يتفكه المصريون بكلمة سيئة يرددونها في أعمالهم الفنية الهابطة فحواها “أن الكفار انتهوا منذ زمن، وحروبهم انتهت كذلك” فيرددونها بمزحة سمجة؛ لكنها ليست كذلك بل هي موقف يراد منهم اتخاذه؛ مع أن الكفار يتحكمون فيهم من الخارج ويُذبح المسلمون على أيدي الكفار صباح مساء في بقاع الدنيا، وحرب العقيدة وصراعها على أوجّه لكننا فقط الغافلون.

كما تتفق هذه القوى على تحقيق “التغريب” المطلوب للأمة خاصة في المجال الثقافي والإعلامي ومن ثم المجال الاجتماعي ومظاهره التي تتبدى في الأزياء والعلاقات بين الجنسين والتعري واستباحة المحرمات وفلسفة الحياة وموقف المرأة في المجتمع والموقف من “الأسرة” وغيرها.

ما بعد “بو تفليقة”

ما يجب معرفته الآن أن ما بعد استقالة “بو تفليقة” أهم مما قبله، ولا بد من نصائح عامة وتحديد لنقاط محورية:

من هو المحتل

أولا: بلادنا يحتلها غيرها من باب التبعية، ويحتلها مندوبوهم من النخبة المتغربة: المتأمركة في مصر وشق من بلاد المسلمين، أو “الفرانكوفونية” في الجزائر وشمال إفريقيا كشق آخر من بلاد المسلمين.

الاحتلال لم ينته. واستمراره على يد العلمانيين الذين ينوبون عن العدو؛ ينوبون عنه عقيدة وثقافة، وينوبون عنه تنفيذا للتغريب ولسياسات العدو، وعونه في إحكام السيطرة على ثروات المسلمين ومقدرات الأمة. والعدو يتدخل بنفسه في لحظات متأخرة أو مفصلية لإعادة الأمور الى “نخبته” التي صنعها لاستمرار أداء الدور المطلوب.

[للمزيد:  من هو المحتل]

والواجب الذي ينبغي للأمة في كل جزء منها تحقيقه هو التخلص من التبعية، ولتحقيق ذلك يجب تحديد “العدو” و”المحتل”.

امتلاك القرار وتحرير الإرادة

ثانيا: كل ما تريد الأمة تحقيقه، وإقامتها لدينها وتحقيقها للقوة .. كل هذا لا يتحقق إلا بعد النقطة المفصلية التي تحوم حولها منذ ثورات “الربيع العربي”، ويُحال بينها وبينه إما بالاحتيال والقتل كما في مصر، أو بالمذابح كما في سوريا، أو بالنهش في جسدها كما في اليمن وليبيا.

تلك النقطة المحورية هي “امتلاك القرار بالإذعان لشرع الله ورفض ما سواه والتخلص من الاستبداد الذي يحول بين الأمة وبين قرارها”.

والحيلولة في كل مرة تأتي من “العسكر”. والعسكر له خصائص:

  1. الدموية والقسوة.
  2. شبق الشهوة للسلطة لدرجة التدني في الخصومة والإجراءات.
  3. التلون والخداع والنفاق المقزز.
  4. الاعتماد على الدعاية والحماسة الكاذبة للوطن والتغني بالأناشيد والأعلام، ليلِج منها الى امتصاص الثروات والمنافسة في المشاريع المدنية..!
  5. الانتماء العلماني العميق ورؤية أن مصلحة “الوطن” يكمن فيها..! وأن “الإسلام” خطر على البلاد.
  6. التهاون مع العدو الخارجي والشدة على أهل البلاد، وقبول مؤامرات الخارج والتماهي معها وخداع الشعب لا العدو.

ومن هنا فالثقة فيهم غباء وضياع. والتخلص من تحكمهم في البلاد أمر محوري لأنه يمثل كسرا لحلقة الاستبداد.

والتخلص من الاستبداد نقطة أولى لامتلاك الحرية والقرار؛ لتستطيع الأمة أن تقول كلمتها وتقرر طريقة حياتها، وتتفرغ قواها للتحدي الخارجي؛ فتنمي قدراتها وتعوض ما فاتها.

الحذر من النخبة المزيفة

ثالثا: يجب الحذر من النخبة المزيفة، تلك النخبة العلمانية التي تبدل عقائدها ومواقفها كما تبدل ملابسها..! لا قوة فيهم ولا شرف في المواقف، ويدعون الى الأمر وعكسه، يقاومون الاستبداد ـ لخصومة عارضة ـ ثم يتكاتفون معه ويساندونه لينهض مرة ثانية ويعطيهم فُتاتا من الحياة وفُتاتا من السلطة..!

إن الثقة في النخبة العلمانية التي رُبيت في أحضان الغرب “أوروبا أو أمريكا” والتي رعتها الأنظمة العلمانية هي نخبة خبيثة المنشأ، هشة الخامة لا يوثق لها بموقف ولا عقيدة ولا شعار.. هذه النخبة ليست محلا لثقة الأمة، بل يجب لفظها والحذر منها.

ومن واجبات الأمة استبدال هذه النخبة، وإخراج نخبة حقيقية تنتمي للأمة منشأً وتربيةً وخامة، تنبُت من معدنها وتنتمي لعقديتها وهويتها.

ومن سلّم نفسه لهذه النخبة فالخسارة فادحة، كما حدث في مصر وغيرها.

ضرورة امتلاك القوة

رابعا: امتلاك القوة الحديثة أمر محوري للأمة لتستطيع أن تحجز مكانها بين الأمم وتمتلك قوة الدفاع عن نفسها وحماية حرماتها وحماية اختيارها في إقامة دين الله تعالى ونشره.

ومن هنا فالتحديث وامتلاك الكنولوجيا والعلوم أمر أساسي، وعبودية جماعية كفائية عظيمة، وشرط للتواجد والظهور بين الأمم وفرض هيبة المسلمين.

التزام هوية الأمة

خامسا: ليس هناك إمكانية للتقدم إلا بتحديد و”تفعيل” هوية الأمة، وكل عمل لا يصب في الهوية الحقيقة للأمة يأخذ وقته ثم يُهدر ويبطل. فالهوية سبب للتماسك الاجتماعي والسياسي ولاستقرار القيم في الأمة والأخلاق.

فالهوية هي محور التجمع والاستقطاب. والإسلام هو الهوية ومحور الاستقطاب وبه يجد المرء نفسه عاملا لنفسه من خلال عمله لأمته، وبه يحافظ على العمل العام، ويغار على الشأن العام، ويرى في حماية أمته وبلاده والأمور العامة والشأن العام حفاظا على نفسه وذريته ومستقبله.

قيم الإسلام هي القيم الربانية السامية، وهي القيم الفاعلة في الوقت نفسه والمحركة للإنسان المسلم والحاضّة على التفاعل وإخراج الإنسان المسلم الحضاري، وتفعيل وإحياء الحضارة الإسلامية مرة ثانية.

وهذا هو تعريفنا في هذه الحياة وبين هذا العالم: “الإسلام” “صبغة الله”.

المراحل وإقامة المقدور

سادسا: إن المسافة بعيدة بين واقعنا وبين ما يجب إقامته من أمر دين الله تعالى والصورة المؤسسية المأمولة للإسلام.

وعليه فالتدرج والتمرحل سمة للحياة، وسمة للنمو وامتلاك القدرات. وقد يجب في البداية ما يمكن فعله دون ما يعجز عنه المسلمون؛ فالأحكام منوطة بالقدرة. وقد يكون الآن المتاح أمام هذه الجماهير أحد الواجبات السالف ذكرها أو بعضها، وما أمكن إقامته وجب القيام به، والميسور لا يسقط بالمعسور.

خاتمة .. الثقة في وعد الله

سابعا: إن المستقبل لهذه الأمة، ولهذا الدين، وإن هي إلا مراحل يُمرحل الله تعالى بها هذه الأمة من حال الى آخر حتى تنضج مواقفها وتصح عقائدها ومأخذها. وستستقر سفينة الأمة على الإسلام إن شاء الله تعالى ويأخذ المسلمون مكانهم اللائق على هذه الأرض.

………………………………..

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة