مفهوم “الاحتلال” المعاصر، ومفهوم “المستعمر” مخالف لما في كتاب الله من تقريرات عن وراثة الأرض ودور المسلمين فيها، والمشركين.

مقدمة

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه؛ أما بعد..

فإن من الجهاد في سبيل الله عز وجل جهاد البيان للناس. وذلك ببيان الحق الذي هو سبيل المؤمنين، وبيان الباطل الذي هو سبيل المجرمين، وإزالة تلبيس أهل الأهواء المبطّلين الذين يلبسون على الناس دينهم ويقدمونه لهم في قوالب مزخرفة فينطلي على الجهلة وأهل الغفلة من المسلمين؛ ولا سيما في زماننا اليوم الذي تنوعت فيه وسائل الإعلام والغواية؛ فأصبحنا نعيش “أزمة مفاهيم” و”إشكالية مصطلحات” و”حرب أفكار” لم يَسلَم منها إلا القليل ممن رحمه الله تعالى.

ومشاركة لإخواني الدعاة في بيان الحق وتحرير المصطلحات وتصحيح المفاهيم أتناول في هذه الورقات مصطلحا شائعا يتكرر على ألسنة وأقلام كثير من الساسة والمثقفين والمفكرين والدعاة والمجاهدين وأكثر شعوب الأرض؛ ألا وهو مصطلح “الاحتلال” و”المحتل”.

فما هي حقيقة هذين المصطلحين وأصلهما في اللغة والشرع وكيف يتلاعب بهما اليوم ويوظَف في خدمة أجندة سياسية ودعوات جاهلية في الوقت الذي يغض فيه الطرف عن حقيقة المحتل والاحتلال بمفهومها الصحيح في نظر الشرع والذي يفضح فيه “المحتل” الحقيقي وخطره على الدين والبلاد والعباد.

المعنى اللغوي لـ “المحتل”

قال الأزهري في تهذيب اللغة:

“قال الليث: الحِل والحلول والنزول …. يقول حل يحل حلولا، وذلك نزول  القوم بمحِلة، وهو نقيض الارتحال (1التهذيب : 1/ 437)

وقال أيضا:

“أحل فلان أهله بمكان كذا وكذا إذا أنزلهم”. (2التهذيب : 1 / 440)

من اشتقاق اللفظ في القرآن الكريم

ومما ورد في القرآن الكريم من اشتقاقات الفعل (حلل):

قول الله تعالى: ﴿وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ﴾ [إبراهيم : 28] أي أنزلوهم.

وقوله تعالى: ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ﴾ [الزمر: 40] أي ينزل عليه عذاب.

وقوله تعالى: ﴿فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي﴾ [طه: 81] أي فينزل عليكم غضبي.

بين حقيقة اللفظ وتحريفه

من المعاني اللغوية السابقة وما ورد في القرآن الكريم من ذلك نخلص إلى أن المعنى اللغوي لـ “الحلول” و”الاحتلال” و”المحتل” يدور على معنى النزول في مكان ولزومه والإقامة فيه.

ثم صار له معنى عرفي بعد الغزو الصليبي لديار المسلمين بعد سقوط الخلافة العثمانية وتقسيم ممتلكاتها؛ ألا وهو الاستيلاء على مكان ومحل، والنزول به، وذلك بالقوة ونزعه من مالكيه الأصليين.

ولكن العدو الكافر لم يناسبه أن يوصف بأنه “محتل” فأشاع مصطلح “الاستعمار” و”المستعمر”، زاعما أنه جاء لإعمار ديار المسلمين وتنميتها. وهو مصطلح زور وقلب للحقائق ومع ما فيه من تدليس وكذب وزور إلا أنه انطلى على كثير من المسلمين، ومنهم مثقفيهم، وكثير من دعاتهم؛ فصاروا يسمونه “استعمارا” وأصبح استعمال “المستعمر” أكثر من استعمال “المحتل”.

تحرير المعنى الصحيح للمحتل في نظر الشرع

يقول الله عز وجل: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ [الأنبياء: 105] وقال تعالى على لسان نبيه موسى عليه السلام : ﴿إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الأعراف: 128].

وقال سبحانه عن بني إسرائيل بعد أن صبروا وثبتوا ونجاهم وأغرق فرعون وقومه: ﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ﴾ [الأعراف: 137].

يقول ابن كثير رحمه الله عند قوله تعالى: ﴿أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُون﴾:

“عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أخبر الله سبحانه في التوراة والزبور وسابق علمه قبل أن تكون السموات والأرض أن يورث أمة محمد صلى الله عليه وسلم الأرض ويدخلهم الجنة”. (3تفسير ابن كثير : 5 / 385 ت سامي سلامة)

وقال عز وجل: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيد﴾ [إبراهيم : 13-14]

وقال سبحانه عن غاية الجهاد وفرضه على هذه الأمة: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ [الأنفال: 39]

نقل ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره لهذه الآية عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله:

“حتى يخلص التوحيد لله”

ولا يكون التوحيد خالصا لله حتى يُعبد الله عز وجل وحده، وتسود شريعة الله.

هذه بعض الآيات من كتاب الله عز وجل التي بيّن الله سبحانه فيها أن الأرض لا يستحقها ولا يرثها إلا عباده الموحدون، وأنه وإن مكّن للكفار فيها بعض الوقت للابتلاء والامتحان؛ فإنهم لا يقَرّون عليها بل يجب إزالتهم وبذل الجهد والمال والنفس لإخراجهم منها حتى يكون الدين فيها والدينونة والحكم والتحاكم لشريعة الله عز وجل.

وما دام الكفار قد احتلوا ونزلوا في بقعة من بقاع الأرض فإنهم محتلّون مغتصبون لأنهم بتمكّنهم فيها ينشرون الكفر والفساد، ويحكمون الناس فيها بغير شريعة الله؛ فلا يقَرون على ذلك ولا يُترك لهم الأمر ليُفسدوا في الأرض ويُضلوا عباد الله عز وجل.

حقائق تدل عليها الآيات ودلالاتها

ومن هذا الفهم الصحيح لهذه الآيات وما تدل عليه نستطيع أن نخرج بالحقائق التالية:

الأرض لله يعمرها عباده الصالحون

أن الأرض أرض الله عز وجل؛ خلق الله عز وجل الإنسان عليها ليعمرها بعبادته وإقامة دينه فيها، وأنه سبحانه لا يرضى إلا بأن يرثها ويحكمها عبادُه الصالحون الموحدون.

وقد أراد الله عز وجل ذلك دينا وشرعا، وأمر به وشرع الجهاد من أجله. ومع ذلك فقد أراد سبحانه كوْنا وقدَرا أن يمكّن لأعدائه الكفار في أماكن منها للابتلاء والامتحان؛ لا سيما حين يقصّر عباده المؤمنون في الأخذ بأسباب النصر والتمكين، ولكنه تمكين مؤقت ـ كما هو الحال اليوم في أكثر الدول القائمة في الأرض.

الحكم بغير شريعة الله احتلال

إن نزول الكفار في مكان ينشرون فيه الشرك والكفر ويحكمونه بغير ما أنزل الله عز وجل إنما هم بذلك محتلّون غاصبون لهذا المكان، لا يجوز إقرارَهم عليه؛ بل يجب عند القدرة إخراجهم وعدم تمكينهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله تعالى.

حكومات محتلة لا يجوز إقرارها

وبناء على الحقيقة السابقة فإن الحكومات التي تحكم اليوم في أكثر بلدان المسلمين إنما هي “حكومات محتلة” لديار المسلمين؛ خانت ربها وشعوبها حيث نبذت شرع الله عز وجل، وحكمت بغيره، ونشرت الكفر والفسوق والعصيان؛ وبناء على ذلك فلا يجوز إقرارها؛ بل يجب البراءة منها وإعداد العدة لجهادها حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.

الاحتلال السابق لا يزال مستمرا

وبناء على الحقيقة السابقة يتضح لنا مفهوم (المحتل) و (الاحتلال) وأنه ليس قاصرا على الكفار الغزاة الذين احتلوا ديار المسلمين في القرن الماضي بل إن ديار المسلمين اليوم لا زالت تحت الاحتلال بعد أن جاء أناس من بني جلدتنا خلَفوا المحتل السابق وتسلطوا على البلاد والعباد وحكموهم بحكم أشد كفرا من المحتل الغازي. وبهذا الفهم والوعي الشرعي الصحيح يتضح لنا حقيقة المحتل.

إزالة احتلال الطواغيت يسبق طرد اليهود

إذا تبيّن لنا ما ذكر في الحقائق السابقة اتضح لنا واقع أكثر الدول والأنظمة التي يحتل طواغيتها الدول الإسلامية اليوم؛ ولا سيما العربية منها، وبان لنا أنهم محتلون معتدون على بلدان المسلمين وشعوبها بل قد يكون احتلالهم هذا أشد وأنكى من احتلال اليهود الغاصبين لفلسطين التي يتباكى عليها حكام المسلمين ويُظهرون عداءهم لليهود ويصفونهم بأنهم محتلون.

والحقيقة التي ينبغي أن تُذكر هنا هو أنه لا يُطمع في سقوط دولة اليهود وتحرير مقدسات المسلمين منهم قبل أن تسقط تلك الأنظمة الطاغوتية المحتلة لبلدان المسلمين الحامية لليهود والمدافعة عنهم.

الإرث التاريخي والقبلي ليس مبررا

يرى كثير من الناس الذين تغيب عنهم الحقائق السابقة أن من له تاريخ في مكان معين قد ورثه من آبائه وأجداده وأسلافه هو أحق بهذا المكان من غيره، ولو كانوا كفارا أعداء لله ورسوله؛ كمن يقول أن لليهود حقا في فلسطين لأن أسلافهم كان لهم إرث ووجود تاريخي فيها.

وغاب عن هذا الجاهل الغافل أن الأرض لا يرثها إلا عباد الله الصالحون وأن الكافر ليس له حق في أن يحتل أرضا ليُعلي فيها كفره وفسقه مهما كان له من الإرث التاريخي أو القَبَلي أو القومي؛ بل يجب إجلاؤهم عنها أو يسلمون، ليكون الدين كله لله ويستريح البلاد والعباد من شرهم وفسادهم ﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ﴾ [الدخان: 29].

حركة الفتوح الاسلامية

وبناء على هذا الفهم المجحف المنحرف السابق ذكره يرى بعض الجهال والضلال أن المسلمين الذين فتحوا ديار الكفار في الشرق والغرب والشمال والجنوب وحكموها بالإسلام أنهم محتلون لأنها ديار ساكنيها وديار آبائهم وقومهم؛ كمن يصف الخلافة العثمانية وفتح المسلمين للأندلس وغيرها بأنه احتلال..!

وما علموا أن الإسلام والمسلمين نعمةً على البشرية لا يحلّون في أرض إلا ويُعلوا فيها التوحيد، ويتحرر الناس فيها من عبادة العباد الى عبادة رب العباد ومن ضيق الدنيا الى سعتها ومن جور الأديان الى عدل الإسلام ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [النور:55]

نحمدك اللهم على نعمة الإسلام ونسألك الثبات عليه ونسألك أن تنصر دينك وتعلى كلمتك وتمكن لعبادك الموحدين.

خاتمة

إن للإسلام مصطلحاته التابعة لمفاهيمه المتفردة والربانية، والتي أخرجت حركة على وجه الأرض تغير التاريخ، وتصحح القيم، وتقيم ما اعوج من حياة الناس.

ملكية الأرض لله تعالى، ثم مقياس الصلاح والاستقامة على منهجه، أو الانحراف عن شرعه؛ يمثل محور التصور الاسلامي.

يجب ألا يطغى ضعف المسلمين عليهم فيتسبب في نسيان دورهم  والحيف على تاريخهم؛ حتى يقول بعض المنافقين أنه ينبغي الاعتذار عن حركة الفتوح، وهي أسمى ما قدم المسلمون للبشرية..!

يجب أن نفرق بين الضعف الذي يحول بيننا وبين دورنا المنوط بنا، وبين التمييع والذوبان ومحو التارايخ والمفاهيم.

إن للمسلمين دورا يجب أن يستأنفوه، وسيكون بإذن الله، فلله تعالى سنته ولا بد أن يكون للحق تلك الجولة القادمة إن شاء الله.

………………………………….

الهوامش:

  1. التهذيب : 1/ 437.
  2. التهذيب : 1/ 440.
  3. تفسير ابن كثير : 5 / 385 ت سامي سلامة.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة