ماذا على دعاة السفور لو قام كلُّ فردٍ منهم مع نفسه أو مع صاحبه، ثم فكّر فيما هم عليه من إفسادٍ وصدٍ عن سبيل الله عز وجل؛ هل أنتم مقتنعون بما تفعلون وبما تتسببون به إلى أمتكم من الفتن؟

مقدمة

بعد توضيح الحملة المسمومة ضد المرأة المسلمة، وبيان مأخذ التلبيس والتضليل في الاستدلال، وبيان الارتباط العقدي بقضية الحجاب والسفور في زماننا هذا، وبيان الأسوة من السلف فيما سطروه من العقائد.. في الجزء الأول

يوضح في هذا الجزء الواقع الاجتماعي للمسلمين عبر التاريخ الاسلامي، ويوجه مواعظ ناصح مشفق وقول موجه الى نفوس القوم، معذرة الى الله ولعلهم يتقون.

الوقفة الرابعة مع المطالبين بسفور المرأة واختلاطها:

الواقع الاجتماعي عبر التاريخ الاسلامي

ليس المقصود في هذه الوقفات حشدَ الأدلةِ الموجبة لستر وجه المرأة وكفيها عن الرجال الأجانب، ووجوب الابتعاد عنهم؛ فهي كثيرة وصحيحة وصريحة والحمد لله.

ويمكن الرجوع إليها في فتاوى ورسائل أهل العلم الراسخين، كرسالة “الحجاب” للشيخ ابن عثيمين- رحمه الله تعالى، وكتاب “عودة الحجاب” القسم الثالث للدكتور محمد بن إسماعيل المقدم- حفظه الله- الذي توسع في هذا الموضوع، وردَّ على شبهات المخالفين، وإنَّما المقصود في هذه المقالة ما ذُكر سابقًا في الوقفات الثلاث، من فضح نوايا المنادين بكشفِ الوجهِ والاختلاط بالرجال، وأنَّ وراءَ ذلك خطوات وخطوات من الفساد والإفساد.

ومع ذلك يحسنُ بنا في هذه الوقفة، أن نشيرَ إلى أن علماءَ الأمة في القديم والحديث ـ من أجاز منهم كشف الوجه ومن لم يجزه ـ كلهم متفقون ومجمعون على وجوب ستر وجه المرأة وكفيها، إذا وجدت الفتنة وقامت أسبابها.

فبربكم أيُّ فتنة هي أشدُّ من فتنة النساء في هذا الزمان، حيث بلغت وسائل الفتنةِ والإغراء بهن، مبلغًا لم يشهده تاريخ البشرية من قبل، وحيث تفنن شياطين الإنس في عرضِ المرأة بصورها المثيرة في كلِّ شيء، في وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، وأخرَجوها من بيتها بوسائل الدعاية والمكر والخداع.

فمن قال بعد ذلك إنَّ كشف المرأة عن وجهها أو شيء من جسدها لا يثير الفتنة، فهو والله مغالطٌ مكابر، لا يوافقهُ في ذلك من له مسكةٌ من دينٍ أو عقل أو مروءة.

وبعد التأكيد على أنَّ أهل العلم قاطبةً متفقون على وجوب تغطية الوجه إذا وجدت الفتنة، يتبين لنا أنَّ خلافهم في ذلك كان محصورًا فيما إذا أمنت الفتنة.

ومع ذلك فتجدر الإشارة أيضًا إلى أنَّ هذا القدر من الخلاف بقي خلافًا نظريًّا إلى حَدٍّ بعيد؛ حيثُ ظل احتجاب النساء هو الأصل في الهيئة الاجتماعية، خلال مراحل التاريخ الإسلامي، وفيما يلي نُقولٌ عن بعض الأئمة تؤكد أنَّ التزام الحجاب كان أحد معالم “سبيل المؤمنين” في شتى العصور:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله تعالى:

“كانت سنة المؤمنين في زمن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّ الحرة تحتجب، والأمة تبرز”. (1تفسير سورة النور: ص 65) أهـ

وقال الإمام أبو حامد الغزالي، رحمه الله تعالى، لم يزل الرجال على مرِّ الزمان مكشوفي الوجوه، والنساء يخرجنَّ متنقبات». (2إحياء علوم الدين 4 / 729)

وقد يتعلق دعاة السفور أيضًا ببعض الحالات التي أذن الشارع للمرأة فيها بكشف وجهها لغير محارمها، كرؤيةِ الخاطب لمخطوبته، وعند التداوي إذا عدمت الطبيبة بشرط عدم الخلوة، وعند الشهادة أمام القاضي ونحوها.

وهذا كله من يُسر الشريعة، وسماحة الإسلام، حيث رُخِّص للمرأة إذا اقتضت المصلحة الراجحة والحاجة الماسة، أن تكشف عن وجهها في مثل هذه الأحوال. وليس في هذا أدنى متعلقٌ لدعاة السفور، لأنَّ الأصل هو الحجاب الكامل، وهذه رخصٌ تزول إذا زالت الحاجة إليها.

الوقفـة الخامسة:

نصائح مشفق

ومن منطلقِ النصحِ والشفقة وإقامةِ الحجة، أتوجَّهُ بالكلمات التالية إلى أولئك القوم الذين ظلموا أنفسهم، وأساءوا إلى مجتمعهم وأمتهم، وخانوا أماناتهم، وحملوا بذلك أوزارهم وأوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون.

فأرجو أن تجد هذه الكلمات آذانًا صاغية، وقلوبًا واعية، قبل مباغتة الأجل وهجوم الموت، حيث لا تقبلُ التوبة ولا ينفع الندم.

 موعظة الله

أذكّركم بموعظةِ الله تعالى؛ إذ يقول: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا﴾ (سـبأ: 46).

فماذا عليكم لو قام كلُّ فردٍ منكم مع نفسه أو مع صاحبه، ثم فكّرتم فيما أنتم عليه من إفسادٍ وصدٍ عن سبيل الله عز وجل؛ هل أنتم مقتنعون بما تفعلون وبما تتسببون به إلى أمتكم من الفتن؟

وهل هذا يُرضي الله تعالى ويجلب النعيم لكم في الآخرة؟

إنَّكم إن قُمتم لله عز وجل متجردين مثنى أو فرادى، وفكـرتم في ذلك؛ فإنَّ الجوابَ البدهي هو أنَّ الفساد والإفساد لا يحبهُ الله عز وجل، بل يمقتهُ، ويمقتُ أهله، وسيأتي اليوم الذي يَمقت فيه أهلُ الفساد أنفسهم، ويتحسرون على ما فرَّطـوا وضيعوا وأفسدوا، وذلك في يومِ الحسرة؛ حيث لا ينفعُ التحسرُ ولا التندم، فعليكم بالتوبةِ  قبل أن يُحال بينكم وبينها.

يوم الحسرة والندامة

أُذكّركم بيوم الحسرةِ والندامة، يوم يتبرأُ منكم الأتباع، وتتبرءون من الأتباع، ولكن حين لا ينفعُ الاستعتاب ولا التنصّل ولا التبرؤ، بل كما قال تعالى: ﴿وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (سـبأ:33).

الأثقال العظيمة

أذكركم بالأثقالِ العظيمةِ، التي ستحملونها يوم القيامة من أوزاركم وأوزار الذين تضلونهم بغير علمٍ إن لم تتوبوا، قال تعالى: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ (العنكبوت:13).

وقال عز وجل: ﴿لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾ (النحل:25).

وإنَّ الظالمين جميعهم، رئيسهم ومرءوسيهم، تابعهم ومتبوعيهم، لهم يومٌ مشهود، ويومٌ عصيب، يومَ يكفرُ بعضهم ببعض، ويلعنُ بعضهم بعضًا، ويحيلُ التبعةَ بعضُهم على بعض، ولكن حين لا يجدي لهم ذلك إلاَّ الخزي والبوار.

بقية مروءة وحياء

إن لم يوجد واعظ الله سبحانه والدار الآخرة فيكم، فلا أقل من أن يوجد عندكم بقيةُ مروءةٍ وحياء، تمنعكم من إفسادِ المرأةِ وإفساد المجتمع بأسره .

إنَّ المتأملَ في حال المتبعين للشهوات اليوم، ليأخذه العجب والحيرة من أمرهم..! فما لهم وللمرأة المسلمة التي تقرُّ في منزلها..؟! توفرُ السكن لزوجها وترعى أولادها، ماذا عليهم لو تركوها في هذا الحصن الحصين تؤدي دورها الذي يُناسبُ أنوثتها وطبيعتها؟! ماذا يريدون من عملهم هذا..؟!

ثم ماذا عليهم لو تركوا أولاد المسلمين يتربون على الخيرِ والدينِ والخصال الكريمة..؟ ماذا يريدونَ من إفسادهم وتسليطِ برامج الإفساد المختلفة عليهم..؟

هل يريدون جيلاً منحلاً، يكونُ وبالاً على مجتمعه، ذليلاً لأعدائه، عبدًا لشهواته..؟

إنَّ هذه هي النتيجة، وإنَّ من يسعى لهذه النتيجةِ الوخيمةِ التي تتجهُ إليها الأسرُ المسلمة اليوم؛ لهو من أشدِّ الناسِ خيانةً لمجتمعه وأُمته وتاريخه.

إنَّ من عنده أدنى مروءةٍ ونخوة ـ فضلاً عن الدين والإيمان ـ لا يسمحُ لنفسهِ أن يكون من هؤلاءِ الظالمين المفسدين، وما ذُكر من إفسادِ الأسرةِ إنما هو على سبيل المثال لا الحصر.

فيا من وصلوا إلى هذا المستوى من الهبوطِ والجناية، توبوا إلى ربكم، وفكّروا في غايتكم ومصيركم، واعلموا أنَّ وراءكم أنباءً عظيمة، وأهوالاً جسيمة، تشيبُ لها الولدان، وتشخصُ فيها الأبصار، فإن كنتم تُؤمنون بهذا فاستيقظوا من غفلتكم، وراجعوا أنفسكم، والله جلَّ وعلا يغفرُ الذنوب جميعًا، وإن كنتم لا تؤمنون بذلك فراجعوا دينكم، وادخلوا في السلم كافة قبل أن يُحال بينكم وبين ما تشتهون.

جواب لسؤال محتوم

يا قومنا أعدوا للسؤالِ جوابًا، وذلك حين يسألُكم عالم الغيب والشهادة عن مقاصدكم في حملتكم، واجترائكم على المرأةِ وحجابها، وقرارهـا في بيتها، فماذا أنتم قائلون لربكم سُبحانه؟

إنَّكم تستطيعون أن تفرّوا من المخلوق فتُدلسون وتلبسون، وقد يظهرُ تدليسكم هذا في لحنِ القول وقد لا يظهر، لكن كيف الفرارُ ممن يعلمُ ما تخفون وما تعلنون؟ ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ﴾ (الحاقة:18).

فتوبوا إلى علاَّم الغيوب ما دمتم في زمن التوبة، وصححوا بواطنكم قبل أن يُبعثرَ ما في القبور، ويحصلَ ما في الصدور.

 وختامًا

أوصي نفسي وإخواني المسلمين الحريصين على دينهم وأعراضهم، وسلامة مجتمعاتهم من الفساد، أن يكونوا يقظين لما يطرحهُ الظالمون لأنفسهم وأمتهم، من كتاباتٍ وحواراتٍ مؤداها إلى سفور المرأة واختلاطها بالرجال الأجانب.

فما دامت المدافعة بين المصلحين والمفسدين، فإنَّ الله عز وجل يقذفُ بالحق على الباطل فإذا هو زاهق.

وينبغي أن لا ننسى في خضمِّ الردود على ما يكتبهُ المفسدون من الشبهات والشهوات، ذلكُ السيل الهادر الذي يتدفقُ من وسائلِ الإعلامِ المسموعةِ والمرئيةِ في بلاد المسلمين، وذلك بما تبثهُ الإذاعات والتلفاز والقنوات الفضائية، من دعوةٍ للمرأة إلى السفور ومزاحمة الرجال في الأعمال والطرقات، والتمردِ على الرجل، سواءً كان أبًا أو زوجًا أو أخًا.

ولقد ضربت هذه الوسائل بأطنابها في بلاد المسلمين، فكان لزامًا على المصلحين محاربتها وإبعادها عن بيوت المسلمين قدر الاستطاعة، فإن لم يكن إلى ذلك سبيل فلا أقلَّ من تكثيفِ الدعاية ضدَّها والتحذير من شرها، ووقاية المسلمين من خطرها، وذلك بإصدارِ الفتاوى المتتابعة، والخطب المكثفةِ حول أضرارها وأثرها المدمرِ للدين والأخلاق، فإنَّها والله لا تقل خطرًا عما تكتبهُ الأقلام الآثمة عن المرأةِ إن لم تزد عليه .

والمقصودُ أن لا يكتفي المصلحون بمحاربةِ ما يكتبهُ المفسدون في الصحف والمجلات عن المرأة، فإن هُم سكتوا سكت المصلحون وظنُّوا أنَّ الخطر قد انتهى، كلا، إنَّ الخطر لم ينته، وإنَّ المعركة مستمرة، لأنَّ الخطر الأكبر لا يزالُ قائمًا ما دامت الوسائلُ المسموعة والمرئية لا تكفُّ عن المرأة، والاستهزاءِ بحجابها وقرارها في بيتها، وقوامة الرجل عليها، وإثارة الشبهات في ذلك.

أسأل الله عز وجل أن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يعزَّ دينه، ويعلي كلمته، وأن يردَّ كيد المفسدين في نحورهم؛ وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

……………………………………………..

هوامش:

  1. تفسير سورة النور: ص 65.
  2. إحياء علوم الدين 4 / 729.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة