يلبّس المغرضون الحق بالباطل فيغتابون المسلمين ويشهّرون بالمصلحين، وينالون شهوات الدنيا بغطاء الدين بل ويظهر الطغاة في ثوب الحريصين على الدين؛ وهم يدمّرونه.

 مقدمة

كم يتلبس الشر في صورة الخير وتحت غطاء من المراوغة؛ يخدع الإنسان نفسه أنه يريد الله والدار الآخرة ويريد الخير ويسعى اليه ولكنه يكتم نهمة للدنيا ورغبة في الإيغال فيها، بدون تأنيب للضمير أو جلب اللوم  والمعاتبة. أو يريد التفلت من ربقة العبودية، أو التشهير بالمصلحين أو تبديل الشريعة الربانية.

من مخادعات طلاب الدنيا

ومن أمثلة هذا الخداع..

الانفتاح على الدنيا بحجة التعفف عن الناس والإنفاق في الخير

وفي هذه الصورة ـ الانفتاح على الدنيا والركون إليها، بحجة التعفف عن الناس وإنفاق المال في وجوه الخير ـ مدخل خفي للشيطان يتسرب منه إلى نفس الإنسان، يبلغ اللبس في هذا الأمر من الخفاء بحيث لا يفطن له إلا المجاهد لنفسه، المفتش لقلبه، الحذِر الخائف من الدنيا وغرورها.

ومكمن اللَبْس هنا في أن التعفف عن الناس أمر مطلوب، ويحث عليه الشرع في أكثر من آية وحديث، وكذلك الإنفاق في سبيل الله وبذل المال في أوجه البر المختلفة، كل هذا حق لا ريب فيه، لكن الشيطان لا يألو جهداً في إغواء بني آدم وجرِّهم إلى حزبه خطوة خطوة، ولهذا فهو يبدأ مع الإنسان ليجره إلى الدنيا وغرورها من باب التعفف عن الناس، ومساعدة المحتاج، وإغاثة الملهوف.. إلخ، ثم بعد ذلك، وبعد إشغاله بالمال وطُرق جمعه ومشاكله وشبهاته نبحث عن صاحبنا الذي كنا نراه في لقاءات الخير والدعوة إلى الله سبحانه فلا نراه إلا قليلاً، وهكذا، حتى ينفتح على الدنيا، ويركن إليها، ويضع له الشيطان في كل وادٍ من أوديتها شغلاً وهَمّاً يتشعب فيهما الفكر، ويتشتت فيهما الذهن ويتحول المال المكتسَب إلى استثمارات جديدة وتوسع في المباحات وإسراف في المآكل والمراكب والمساكن، وقد كان الهدف في البداية هو التعفف والإسهام في وجوه الخير والبر.

والغريب في الأمر أن هذا المغالط عندما يذكَّر بالآيات التي تحذِّر من الدنيا، وسرعة زوالها، وخطر الركون إليها، فإنه بدلاً من أن يشعر بالخطر ويسعى لتدارك الأمر؛ فإنا نجده يصرّ على المغالطة واللبس، ويقول: إن التعفف عن الناس مطلوب، ولابد للداعية أن يكون له مصدر يستغني به عن الناس وينفع به دعوته، ويساهم في الخير، وهو يعلم أن هذا ليس قصده، وإنما أراد تغطية حبه للدنيا والركون إليها بهذا الغطاء الشرعي الذي لم يراع الضوابط الشرعية فيه.

وقد يقول قائل: إذن، ما العمل في مثل هذه الحالة وبخاصة لمن أراد صادقاً أن يتعفف عن الناس وأن ينفع دعوته بالمال..؟

والجواب لا أملكه، لأنها معادلة صعبة يختلف حلها من شخص لآخر، ويكفي في حلها أن يعلم الله سبحانه من أنفسنا أننا نريد التعفف والبذل بصدق في سبيل الله سبحانه ، فعندئذ يحمينا برحمته من الدنيا وزخرفها، ويخرجها من قلوبنا لتبقى في أيدينا، وكل إنسان على نفسه بصيرة.

الاحتجاج بيسر الشريعة وضغط الواقع للتفلت

إن القول بيسر الشريعة وسماحتها حق لا شك فيه، ولكن الاحتجاج بهذا التيسير للتفلت من أحكام الشريعة والتحايل عليها، واتباع الهوى في الأخذ بالرخص والشذوذات الفقهية، كل هذا باطل وتلبيس وتضليل، يتبنى ذلك أهل الأهواء الذين يتبعون الشهوات، يريدون بذلك تحلل المجتمع المسلم من أحكام الشريعة باسم التيسير وترك التشديد، وصدق الله العظيم: ﴿وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلا عَظِيمًا﴾ [النساء: 27].

ومن رحمة الله عز وجل أنه لم يكِل مصالح العباد إلى أهواء البشر وشهواتهم، بل وضع سبحانه شريعةً كاملةً مبرأة من الجهل والهوى، ومبرأة من النقص والقصور، لأن مصدرها منه سبحانه الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلا. ولو أن تقرير مصالح العباد كان في أيدي البشر لحصل من ذلك شر وفساد كبير، وذلك لِما عليه البشر من الجهل والنقص والهوى والشهوة.

وهذا مُشاهَد في الواقع؛ فالمجتمعات التي لا يحكمها شرع الله سبحانه وتحكمها أنظمة البشر وقوانينهم نرى فيها من الفساد والشرور والظلم والاستعباد والضنك والضيق ما تعجّ منه الأرض والسماوات، وتبرأ منه الوحوش في البرّيّات، وصدق الله العظيم: ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ﴾ [المؤمنون: 71].

إن الذين يتشدقون بالتيسير ويغالطون به بغير علم ولا هدى من الله سبحانه، لو كان الأمر بأهوائهم لعطلوا كثيراً من أحكام الشريعة التي قد يُظَن فيها المشقة والضيق مع أن مآلها اليسر والسعادة في الدارين، فالله سبحانه الرحيم بعباده، هو الذي يعلم ما يُصلح شؤونهم، وييسر أمورهم، ويعلم ما يشق عليهم وما لا يشق، إنه حكيم عليم.

التشهير بالدعاة والمصلحين بحجة التحذير من الأخطاء

وذلك بالتشهير بهم واغتيابهم بحجة النصيحة والتحذير من الأخطاء؛ وهو مزلق معروف وقرائنه توضحه. وهو خطر على صاحبه وإهدار لعمره وتوجيه لسهامه الى غير محلها.

عن أبي برزة الأسلمي، والبراء بن عازب رضي الله عنهما ، قالا: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه: لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عورة أخيه المسلم، تتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته». (1أخرجه أبو داود، كتاب الأدب باب الغيبة، وأحمد في المسند واللفظ له (4/ 420))

والمقصود من إيراد هذه الصورة هو الحذر من تزيين الشيطان وتلبيسه في إظهار “الغيبة” أو “النميمة” أو “التشهير” في قالب “النصيحة”، والتحذير من الأخطاء والغيْرة على دين الله وتعظيم حرمات الله عز وجل. إن هذا هو الخطير في الأمر؛ إذ لو أن الواقع في الغيبة أو النميمة أقرّ بذنبه، واعترف بتقصيره، واستغفر ذنبه لكان الأمر أهون، أما أن يكابر ويلبّس على نفسه وعلى الناس بأن قصْده النصيحة للأمة وتحذيرها من الأخطاء، وهو يعلم من نفسه غير ذلك من التشفي أو الحسد أو التهوين من شأن من وقع منه الخطأ وتنفير الناس عنه، فكل ذلك من المغالطة وتلبيس الشيطان وتزيينه؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

“ومنهم من يُخرج الغِيبة في قوالب شتى، تارة في قالب ديانة وصلاح، فيقول: ليس لي عادة أن أذكر أحداً إلا بخير ولا أحب الغيبة ولا الكذب، وإنما أخبركم بأحواله، ويقول: والله إنه مسكين، أو رجل جيد ولكن فيه كيت وكيت، وربما يقول: “دعونا منه، الله يغفر لنا وله”. وإنما قصْدُه استنقاصه، وهضماً لجنابه، ويُخرجون الغيبة في قوالب صلاح وديانة، يخادعون الله بذلك، كما يخادعون مخلوقاً. وقد رأينا فيهم ألواناً كثيرة من هذا وأشباهه”

إلى أن قال:

“وربما يذكره عند أعدائه ليتشفّوا به، وهذا وغيره من أعظم أمراض القلوب والمخادعات لله ولخلقه، ومنهم من يُظهر الغيبة في قالب غضب وإنكار منكر، فيظهر في هذا الباب أشياء من زخارف القول، وقصده غير ما أظهر، والله المستعان”. (2الفتاوى (28/ 237))

فلا مدخل لملبّس ومغالط في إظهار حقده وتشفيه وحميته لنفسه في قالب النُصح والديانة، وكل إنسان أدرى بنفسه وقصده.

ولكن يبقى هناك بعض القرائن التي تكشف هذا اللبس والخداع في نفس المدعي للنصح والديانة، منها:

  • التشهير والتعيير بالمنصوح، خاصة إذا كان من المصلحين وأهل العلم.
  • الظلم، وعدم الإنصاف مع المنصوح، وبخْسه حقه، وإخفاء خيره وحسناته.
  • عدم التثبّت، والأخذ بالشائعات، وتصيّد الأخطاء والفرح بها.
  • تغليب سوء الظن، وتفسير المقاصد بدون دليل وبرهان.
  • أن يكون قد عُرف عنه الكذب وقِلة الورع.
  • المداهنة للظالمين والركون إليهم.

التلبيس برفع لافتات إسلامية تخفي وراءها الكيد للدين وأهله

إن من أخطر ما يهدد الأمة في عقيدتها وأخلاقها أن تعيش في جو من اللبْس والتضليل والخداع، فلا ترى الحق بصورته المضيئة ولا الباطل بصورته القاتمة المظلمة، بل قد يصل بها المكر والخداع إلى أن ترى الحق باطلاً والباطل حقاً، ويلتبس سبيل المجرمين بسبيل المؤمنين.

ومن أعظم الالتباس بين السبيلين أن يقوم المجرمون من أعداء المسلمين سواء من الكفار الصرحاء أو المنافقين الدخلاء برفع لافتات، ظاهرها الإسلام ومحبة الدين والدعوة إليه، وباطنها الكيد والمكر والخداع. ويحصل من جراء ذلك أن يُخدع كثير من المسلمين بهذه اللافتات فينشغلون بها، ويُثْنون على أهلها بدلاً من فضحها وكشف عوارها وتعرية باطلها.

وعن خطورة التباس سبيل المجرمين بسبيل المؤمنين، يقول ابن القيم رحمه الله:

“فإن اللبْس إنما يقع إذا ضعف العلم بالسبيلين أو أحدهما؛ كما قال عمر بن الخطاب: إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية.

وهذا من كمال علم عمر رضي الله عنه ، فإنه إذا لم يعرف الجاهلية وحكمها، وهو كل ما خالف ما جاء به الرسول، صلى الله عليه وسلم، فإنه من الجاهلية، فإنها منسوبة إلى الجهل. وكلُ ما خالف الرسول فهو من الجهل، فمن لم يعرف سبيل المجرمين، ولم تستبِن له أوشك أن يظن في بعض سبيلهم أنها من سبيل المؤمنين، كما وقع في هذه الأمة من أمور كثيرة في باب الاعتقاد والعلم والعمل، هي من سبيل المجرمين والكفار وأعداء الرسل، أدخلها من لم يعرف أنها من سبيلهم في سبيل المؤمنين، ودعا إليها وكفّر من خالفها واستحل منه ما حرمه الله ورسوله”. (3الفوائد ص109)

وقد قص الله سبحانه علينا في كتابه الكريم قصة قوم من المنافقين أرادوا خداع الرسول، صلى الله عليه وسلم، ومن معه من المؤمنين برفع لافتة إسلامية على صرْح من صروح النفاق، لكن الله عز وجل فضحهم وفضح لافتتهم وعرّى باطلهم، ليكونوا عبرة للمسلمين في وقتهم وعبر التاريخ الطويل لمن يأتي بعدهم ممن يرفع لافتة إسلامية يخفي وراءها خبثه ومكره، ويكيد بها المسلمين في أي زمان ومكان. وهذه القصة ذكرها الله سبحانه في سورة التوبة بما يعرف بـ “مسجد الضرار”، حيث أنزل فيها قرآناً يتلى إلى قيام الساعة، قال سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ ۚ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَىٰ ۖ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ۚ لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ ۚ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا ۚ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾ [التوبة: 107-108].

مثال للافتات الكاذبة والمخادِعة

واللافتات المرفوعة اليوم كثيرة وماكرة، أقتصر منها على بعض الأمثلة:

ما يرفعه الذين بدلوا شرع الله عز وجل ورفضوا التحاكم إليه في بلادهم من لافتات يخدعون بها شعوبهم المسلمة، مثل إقامة الذكرى السنوية لإحراق المسجد الأقصى المبارك، فترى هؤلاء المجرمين الخائنين لله سبحانه ورسوله، صلى الله عليه وسلم، يخدعون المسلمين بإحياء ذكرى حرق المسجد الأقصى كأنهم يهتمون بالمسلمين ومقدساتهم، وهم قد خانوا الله سبحانه من قبل بتنحية شريعته واستحلال محرماته، وخانوا أمتهم بعد ذلك بالتذلل لليهود والنصارى، وما أصدق ما قاله الشيخ عبد الرحمن الدوسري رحمه الله في محاضرة له مسجلة:

“إن إحراق المسجد الأقصى بل إحراق مساجد الدنيا كلها ليس أعظم جرماً من الاعتداء على شرع الله وحكمه وسلطانه في الأرض من قبل الأنظمة التي تتباكى على الأقصى وإحراقه”.

خاتمة

من يخادع الله يخدعه الله تعالى ويوقعه في شره عمله، ويعامله بنقيض قصده، ويحاسَب على مخالفة الأمر وعلى التحايل والمخادعة؛ جرما مضافا الى جرم فكانت عقوبة فوق عقوبة.

كما يعاملهم ربهم تعالى بنقيض قصدهم فيظهر سوء نواياهم ويخزيهم في الدارين. فإن ربك لبالمرصاد.

……………………………

الهوامش:

  1. أخرجه أبو داود، كتاب الأدب باب الغيبة، وأحمد في المسند واللفظ له (4/ 420).
  2. الفتاوى (28/ 237).
  3. الفوائد ص109.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة