من أراد أمرا تهيّأ له. والله تعالى شرط شروطا لمن يقبل منهم بيعة الجهاد في سبيل الله؛ فمن صدَق الطلب وفّى بالشرط قبله.

عبادة الجهاد

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه، وبعد.

فلما كان الجهاد في سبيل الله عز وجل من أعظم العبادات التي يحبها الله عز وجل.

ولما كان الجهاد فيه ما فيه من المشاق وبذْل المال والنفس في سبيل الله تعالى؛ أصبح الاستعداد له بالإيمان والإخلاص والمتابعة والصبر وقوة الصلة بالله عز وجل أمراً لا بد منه، وإلا خارت القوى وانحلت العزائم.

ومن ذلك أمر الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بقيام الليل الطويل استعداداً لتحمّل القول الثقيل وتبليغه للناس وتحمّل أعباء الرسالة؛ قال الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً﴾ (المزمل :1-4).

الإعداد الإيماني والأخلاقي

كما أن الإعداد الإيماني والأخلاقي للمجاهدين ضروري لتحقيق النصر على الأعداء عند ملاقاتهم والثبات عند قتالهم؛ قال الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ (محمد :7).

يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى:

“هذا أمر منه تعالى للمؤمنين أن ينصروا الله بالقيام بدينه والدعوة إليه وجهاد أعدائه وأن يقصدوا بذلك وجه الله ، فإنهم إذا فعلوا ذلك نصرهم وثبّت أقدامهم، أي يربط على قلوبهم بالصبر والطمأنينة والثبات ويصبّر أجسادهم على ذلك ويعينهم على أعدائهم؛ فهذا وعدٌ من كريمٍ صادقِ الوعد أن الذي ينصره بالأقوال والأفعال سينصره مولاه وييسر له أسباب النصر من الثبات وغيره”. (1تفسير السعدي 5/26)

ومن الإعداد الإيماني علماً وعملاً وحالاً المباعدة بين المجاهدين وبين المعاصي والذنوب أو الميل إلى الدنيا والتي هي من أسباب الخذلان والهزيمة؛ كما قال عمر بن الخطاب لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما في مسيره إلى غزو الفرس:

“فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو..”

إلى قوله:

“فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم؛ وإنما يُنصر المسلمون بمعصية عدوّهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة؛ لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدتنا كعدتهم، فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة”.

وذكر البخاري في كتاب الجهاد في صحيحة قال: “باب: عمل صالح قبل القتال ، وقال أبو الدرداء: إنما تقاتِلون بأعمالكم”. (2فتح الباري 6/29)

ومما يؤكد العناية بجانب التزكية والتربية والآداب للمجاهدين ما ذكره الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم من الصفات الطيبة الظاهرة والباطنة لمن اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ ( التوبة :111).

ئم عقب على هذه البيعة بصفات المؤهَّلين للجهاد الذين باعوا أنفسهم وأموالهم لله تعالى فقال سبحانه: ﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (التوبة :112). قال عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما لرجل قال له: أريد أن أبيع نفسي من الله فأجاهد حتى أقتل، فقال له ويحك وأين الشروط؟ أين قوله تعالى: ﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (التوبة :112) (3جامع الأصول 2/580).

لِمن البشارات ونيل الكرامات

وقد اشتملت هذه الآية على أصول الأعمال الباطنة والظاهرة التي يحبها الله عز وجل؛ يقول الشيخ السعدي رحمه الله في تفسير هذه الآيات:

“وإذا أردت أن تعرف قدْر الصفقة، فانظر إلى المشتري من هو؟ وهو الله جل جلاله.

وإلى العِوض، وهو أكبر الأعواض وأجلها؛ جنات النعيم.

وإلى الثمن المبذول فيها، وهو النفس، والمال، الذي هو أحب الأشياء للإنسان.

وإلى من جرى على يديه عقد هذا التبايع، وهو أشرف الرسل.

وبأي الكتب رُقِم، في كتب الله الكبار المنزلة على أفضَل الخلق.

كأنه قيل: من هم المؤمنون الذين لهم البشارة من الله بدخول الجنات ونيل الكرامات؟

فقال: هم ﴿التَّائِبُونَ﴾ أي الملازمون للتوبة في جميع الأوقات، عن جميع السيئات.

﴿الْعَابِدُونَ﴾ أي المتصفون بالعبودية لله، والاستمرار على طاعته من أداء الواجبات والمستحبات، في كل وقت؛ فبذلك يكون العبد من العابدين.

﴿الْحَامِدُونَ﴾: لله في السراء والضراء واليسر والعسر، المعترفون بما لله عليهم من النعم الظاهرة والباطنة، المُثنون على الله بذكرها وبذكره، في آناء الليل، وآناء النهار.

﴿السَّائِحُونَ﴾: فُسرت السياحة بالصيام والسياحة في طلب العلم. وفُسرت بسياحة القلب في معرفة الله ومحبته، والإنابة إليه على الدوام. والصحيح أن المراد بالسياحة: السفر في القُربات، كالحجّ، والعمرة، والجهاد، وطلب العلم، وصلة الأقارب، ونحو ذلك.

﴿الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ﴾ أي: المُكثرون من الصلاة المشتملة على الركوع والسجود.

﴿الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾: ويدخل فيه جميع الواجبات والمستحبات.

﴿وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾: وهي جميع ما نهى الله ورسوله عنه.

﴿وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ﴾: بتعلمهم حدود ما أنزل الله على رسوله، وما يدخل في الأوامر والنواهي والأحكام، وما لا يدخل، الملازمون لها فعلاً وتركاً”. (4تفسير السعدي 2/290)

ويقول صاحب الظلال رحمه الله تعالى عن هذه الآية:

“ولكن الجهاد في سبيل الله ليس مجرد اندفاعَة إلى القتال، إنما هو قمة تقوم على قاعدة من الإيمان المتمثل في مشاعر وشعائر وأخلاقٍ وأعمال.

والمؤمنون الذين عقد الله معهم البيعة، والذين تتمثل فيهم حقيقة الإيمان هم قوم تتمثل فيهم  صفات إيمانية أصيلة: ﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (التوبة :112).

هذه هي الجماعة المؤمنة التي عقد الله معها بيعته، وهذه هي صفاتها ومميزاتها:

توبة تردّ العبد إلى الله، وتكفّه عن الذنب، وتدفعه إلى العمل الصالح.

وعبادة تصله بالله وتجعل الله معبوده وغايته ووجهته.

وحمدٌ لله على السراء والضراء نتيجة الاستسلام الكامل لله والثقة المطلقة برحمته وعدله.

وسياحةٌ في ملكوت الله مع آيات الله الناطقة في الكون الدالة على الحكمة والحق في تصميم الخلق. وأمرٌ بالمعروف ونهيٌ عن المنكر يتجاوز صلاح الذات إلى إصلاح العباد والحياة. وحفظٌ لحدود الله يرد عنها العادين والمضيعين، ويصونها من التهجم والانتهاك”. (5في ظلال القرآن 3/1717)

الحاجة للتوفيق

إن الله تعالى يوفّق عبده للقيام في مواقف الخير. والجهاد من أشرف تلك المواقف. والله تعالى يهيّء العبد ليقيمه هذه المواقف الشريفة.

ولا بد من عزمة من العبد، وأن يُري الله تعالى منه خيرا، وأن يتهيّأ لمواقف الشرف ليسلك في عداد “المجاهدين”؛ فهذا شرف مروم.

……………………………………….

الهوامش:

  1. تفسير السعدي 5/26.
  2. فتح الباري 6/29.
  3. جامع الأصول 2/580.
  4. تفسير السعدي 2/290.
  5. في ظلال القرآن 3/1717.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة