إن منهج أهل السنة والجماعة في دراسة أسماء الله عز وجل الحسنى وصفاته العلا هو المنهج العدل والخيار، وهو وسط بين المعطلة الجهمية ومن شايعهم في نفي الصفات وتعطيلها، وبين المشبهة الذين أفرطوا في الإثبات حتى شبهوا صفات الخالق عز وجل بصفات المخلوق العاجز، القاصر المحدود.

أسس منهج دراسة الأسماء والصفات

وقد بني هذا المنهج على أسس ثابتة من أخذ بها نجا -بإذن الله تعالى- من ضلالات هذا الطرف أو ذاك، وقد لخصها الشيخ الشنقيطي -رحمه الله تعالى- في رسالته القيمة «منهج دراسة الأسماء والصفات»؛ وذلك بقوله: (اعلموا أن كثرة الخوض والتعمق في البحث في آيات الصفات، وكثرة الأسئلة في ذلك الموضوع من البدع التي يكرهها السلف.

واعلموا أن مبحث آیات الصفات دل القرآن العظيم أنه يتركز على ثلاثة أسس من جاء بها كلها فقد وافق الصواب وكان على الاعتقاد الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه ، والسلف الصالح، ومن أخل بواحد من تلك الأسس الثلاثة فقد ضل.

وكل هذه الأسس الثلاثة يدل عليها قرآن عظیم.

أحد هذه الأسس الثلاثة: هو تنزيه الله -جل وعلا- عن أن يشبه شيء من صفاته شيئا من صفات المخلوقين، وهذا الأصل يدل عليه قوله تعالى:

﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ ﴿وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ ﴿فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأمْثَالَ﴾.

الثاني : من هذه الأسس: هو الإيمان بما وصف الله به نفسه؛ لأنه لا يصف الله أعلم بالله من الله ﴿ءأنْتُمْ أعْلَمُ أمِ اللَّهُ﴾.

والإيمان بما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يصف الله بعد الله أعلم بالله من رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي قال في حقه: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: 3، 4]؛ فيلزم كل مكلف أن يؤمن بما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم وينزه الله -جل وعلا- عن أن تشبه صفته صفة الخلق، وحيث أخل بأحد هذين الأصلين وقع في هوة ضلال؛ لأن من تنطع بين يدي رب السماوات والأرض، وتجرأ على الله بهذه الجرأة العظيمة ونفى عن ربه وصفا أثبته لنفسه فهذا مجنون فالله -جل وعلا- يثبت لنفسه صفات کمال وجلال فكيف يليق لمسكين جاهل أن يتقدم بين يدي رب السماوات والأرض ويقول: هذا الذي وصفت به نفسك لا يليق بك ويلزمه من النقص كذا وكذا، فأنا أؤوله وألغيه وآتی ببدله من تلقاء نفسي من غير استناد إلى كتاب أو سنة -سبحانك هذا بهتان عظيم! – ومن ظن أن صفة خالق السماوات والأرض تشبه شيئا من صفات الخلق فهذا مجنون جاهل، ملحد ضال، ومن آمن بصفات ربه -جل وعلا- منزها ربه عن تشبيه صفاته بصفات الخلق فهو مؤمن منزه سالم من ورطة التشبيه والتعطيل، وهذا التحقيق هو مضمون: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11-10]، فهذه الآية فيها تعليم عظيم يحل جميع الإشكالات، ويجيب عن جميع الأسئلة حول الموضوع؛ ذلك لأن الله قال: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾  بعد قوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ .

ومعلوم أن السمع والبصر من حيث هما سمع وبصر يتصف بهما جميع الحيوانات، فكأن الله يشير للخلق ألا ينفوا عنه صفة سمعه وبصره بادعاء أن الحوادث تسمع وتبصر وأن ذلك تشبيه، بل عليهم أن يثبتوا له صفة سمعه وبصره على أساس ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ ؛ فالله -جل وعلا- له صفات لائقة بكماله وجلاله، والمخلوقات لهم صفات مناسبة لحالهم وكل هذا حق ثابت لا شك فيه ….

الثالث: أن تقطعوا أطماعكم عن إدراك حقيقة الكيفية؛ لأن إدراك حقيقة الكيفية مستحيل، وهذا نص الله عليه في سورة «طه» حيث قال: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ [طه: 110]1(1) « منهج دراسة الأسماء والصفات باختصار..

بيان مفصل للقواعد الثلاث

القاعدة الأولى: التنزيه

ويفصل الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالی – هذه القواعد الثلاث فيقول في تفصيل القاعدة الأولى – وهي «التنزيه» -: (من أسباب عبادة الأصنام: الغلو في المخلوق؛ وإعطاؤه فوق منزلته؛ حتى جعل فيه حظ من الإلهية، وشبهوه بالله سبحانه.

وهذا هو التشبيه الواقع في الأمم الذي أبطله الله سبحانه، وبعث رسله، وأنزل كتبه بإنکاره؛ والرد على أهله.

فهو سبحانه ينفي وينهى أن يجعل غيره مثلا له، وندا له، وشبها له؛ لا أن يشبه هو بغيره، إذ ليس في الأمم المعروفة أمة جعلته سبحانه مثلا لشيء من مخلوقاته، فجعلت المخلوق أصلا، وشبهت به الخالق، فهذا لا يعرف في طائفة من طوائف بني آدم، وإنما الأول: هو المعروف في طوائف أهل الشرك؛ غلوا فيمن يعظمونه ويحبونه، حتى شبهوه بالخالق، وأعطوه خصائص الإلهية؛ بل صرحوا أنه إله، وأنكروا جعل الآلهة إلها واحدا، وقالوا: ﴿وَاصْبِرُوا عَلَىٰ آلِهَتِكُمْ﴾ [ص: 6]، وصرحوا بأنه إله معبود، يرجى ويخاف، ويعظم ويسجد له، ويحلف باسمه، وتقرب له القرابين، إلى غير ذلك من خصائص العبادة التي لا تنبغي إلا لله تعالی.

فكل مشرك: فهو مشبه لإلهه ومعبوده بالله سبحانه؛ وإن لم يشبهه به من كل وجه، حتى إن الذين كفروا وصفوه سبحانه بالنقائص، والعيوب، كقولهم: ﴿إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ﴾ [آل عمران: 181]، وإن: ﴿يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ [المائدة: 64]. وإنه استراح لما فرغ من خلق العالم …)2(2) «إغاثة اللهفان» (2/ 323- 322)..

أعظم الضلال وأبينه؛ أن تجعل لله شبها وعدلا من خلقه

ويقول في موطن آخر: (والقرآن مملوء من إبطال أن يكون في المخلوقات ما يشبه الرب تعالى أو يماثله، فهذا هو الذي قصد بالقرآن؛ إبطالا لما عليه المشركون والمشبهون العادلون بالله تعالی غيره، قال تعالى: ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 22]، وقال: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ﴾ [البقرة:165]، فهؤلاء جعلوا المخلوق مثلا للخالق، فالند: الشبه، يقال: فلان ند فلان؛ وندیده: أي مثله وشبهه.

ومنه قول حسان بن ثابت: أتهجوه ولست له بند        فشركما لخير كما النداء

ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن قال له: ما شاء الله وشئت: «أجعلتني لله ندا3(3) البخاري في الأدب المفرد» (804) وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد» (ص 292)..

وقال جرير: أتيما تجعلون إلي ندا       وما تيم لذي حب ندید

… ومثله قوله تعالى عن هؤلاء المشبهين أنهم يقولون في النار لآلهتهم: ﴿تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الشعراء: 98-97].

فاعترفوا أنهم كانوا في أعظم الضلال وأبينه؛ إذ جعلوا لله شبها وعدلا من خلقه؛ سووهم به في العبادة والتعظيم، وقال تعالى: ﴿رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ ۚ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [مريم: 65]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: «شبها و مثلا». وهو – من يساميه، وذلك نفي عن المخلوق أن يكون مشابها للخالق ومماثلا له؛ بحيث يستحق العبادة والتعظيم، ولم يقل سبحانه هل تعلمه سميا أو مشبها لغيره، فإن هذا لم يقله أحد، بل المشركون المشبهون جعلوا بعض المخلوقات مشابها به مساميا، وندا، وعدلا، فأنكر عليهم هذا التشبيه، و التمثيل……..

ومن هنا يعلم أن إثبات صفات الكمال له لا يتضمن التشبه والتمثيل؛ لا بالكاملين ولا بالناقصين، وأن نفي تلك الصفات يستلزم تشبيهه بأنقص الناقصين.

فانظر إلى الجهمية وأتباعهم جاءوا إلى التشبيه المذموم فأعرضوا عنه صفحا، وجاءوا إلى الكمال والمدح؛ فجعلوه تشبيها وتمثيلا، عكس ما يثبته القرآن وجاء به من كل وجه)4(4) «إغاثة اللهفان» (2/ 338-322) باختصار..

تنزيه الرسل وتنزيه المعطلة

ويقول في موطن آخر: (الفرق بين تنزيه الرسل وتنزيه المعطلة: أن الرسل نزهوه سبحانه عن النقائص والعيوب التي نزه نفسه عنها وهي المنافية لكماله وكمال ربوبيته وعظمته كالسنة، والنوم، والغفلة، والموت، واللغوب والظلم وإرادته، والتسمي به، والشريك، والصاحبة والظهير ، والولد والشفيع بدون إذنه وأن يترك عباده سدی هملا وأن يكون خلقهم عبثا، وأن يكون خلق السماوات والأرض وما بينهما باطلا لا لثواب ولا عقاب، ولا أمر ولا نهي، وأن يسوي بين أوليائه وأعدائه، وبين الأبرار والفجار، وبين الكفار والمؤمنين، وأن يكون في ملكه ما لا يشاء أن يحتاج إلى غيره بوجه من الوجوه، وأن يكون لغيره معه من الأمر شيء؛ وأن يعرض له غفلة أو سهو أو نسيان، وأن يخلف وعده أو يبدل كلماته، أو يضاف إليه الشر اسما أو وصفا أو فعلا، بل أسماؤه كلها حسنی، وصفاته كلها كمال، وأفعاله كلها خير وحكمة ومصلحة، فهذا تنزيه الرسل لربهم.

وأما المعطلون فنزهوه عما وصف به نفسه من الكمال، فترهوه عن أن يتكلم أو يكلم أحدا، ونزهوه عن استوائه على عرشه، وأن ترفع إليه الأيدي، وأن يصعد إليه الكلم الطيب، وأن ينزل من عنده شيء، أو تعرج إليه الملائكة والروح، وأن يكون فوق عباده وفوق جميع مخلوقاته عاليا عليها، ونهوه أن يقبض السماوات بيده والأرض باليد الأخرى، وأن يمسك السماوات على أصبع والأرض على أصبع والجبال على أصبع والشجر على أصبع، ونزهوه أن يكون له وجه، وأن يراه المؤمنون بأبصارهم في الجنة، وأن يكلمهم ويسلم عليهم ويتجلى لهم ضاحكا، وأن ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول: «من يستغفرني فأغفر له؛ من يسألني فأعطيه». فلا نزول عندهم ولا قول.

ونزهوه أن يفعل شيئا لشيء؛ بل أفعاله لا لحكمة ولا لغرض مقصود، ونزهوه أن يكون تام المشيئة نافذ الإرادة؛ بل يشاء الشيء ويشاء عباده خلافه؛ فيكون ما شاء العبد دون ما شاء الرب؛ ولا يشاء الشيء فيكون ما لا يشاء ويشاء ما لا يكون؛ وسموا هذا: عدلا؛ كما سموا ذلك التنزيه: توحيدا.

ونزهوه عن أن يحب أو يحب، ونزهوه عن الرأفة والرحمة والغضب والرضا، ونزهه آخرون عن السمع والبصر؛ وآخرون عن العلم، ونزهه آخرون عن الوجود؛ فقالوا: الذي فر إليه هؤلاء المزهون من التشبيه والتمثيل: يلزمنا في الوجود؛ فيجب علينا أن ننزهه عنه، فهذا تنزيه الملحدين، والأول تنزيه المرسلين)5(5) «الروح» (ص 579-577)، دار ابن کثیر، ت: يوسف بديوي..

القاعدة الثانية: الإثبات

كما يفصل ابن القيم – رحمه الله تعالى – في القاعدة الثانية وهي «الإثبات» فيقول:

(رؤوس المثبتة: آدم، ونوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب، وإبراهيم الخليل، وسائر الأنبياء من ذريته، وموسى الكليم، وعيسى.

وجاء خاتمهم وآخرهم وأعلمهم بالله سيد ولد آدم: محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله، فجاء بالإثبات المفصل الذي لم يأت رسول بمثله، فصرح من إثبات الصفات والأفعال بما لم يصرح به نبي قبله؛ وذلك لكمال عقول أمته؛ وكمال تصديقهم؛ وصحة أذهانهم.

فرسول الله صلى الله عليه وسلم حامل لواء الإثبات، وتحت ذلك اللواء: آدم وجميع الأنبياء وأتباعهم، ثم المهاجرون، والأنصار، وأهل بدر، وأهل بيعة الرضوان وسائر الصحابة، ثم التابعون لهم بإحسان ممن لا يحصيهم إلا الله، ثم أتباع التابعين، ثم أئمة الفقه في الأعصار والأمصار – منهم الأئمة الأربعة – ثم أهل الحديث قاطبة، وأئمة التفسير ، والتصوف، والزهد، والعبادة المقبولون عند الأمة ممن لا يحصي عددهم إلا الله.

فهل سمع في الأولين والآخرين بمثل أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والعشرة المشهود لهم بالجنة، وسائر المهاجرين والأنصار؟.

وهل سمع بقوم أتم عقولا، وأصح أذهانا، وأكمل علما، ومعرفة، وأزكى قلوبا من هؤلاء الذين قال الله فيهم: ﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى﴾ [النمل: 59] قال غير واحد من السلف: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.

قال فيهم عبد الله بن مسعود: «من كان منكم مستتا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد، أبر هذه الأمة قلوبنا؛ وأعمقها علما وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الهدي المستقيم» . فهؤلاء أمراء هذا الشأن.

ومنهم التابعون كلهم، ثم الذين يلونهم، مثل: مالك بن أنس، وسفيان بن عيينة، وسفيان الثوري، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وعبد الله بن المبارك، وأبي زرعة الرازيين وأمثالهم.

وأما عامتهم: فأهل الدين، والصدق، والورع، والزهد، والعبادة والإخلاص، واجتناب المحارم، وتوقي المآثم.

وأما رؤوس النفاة والمعطلين: ففرعون؛ إذ يقول: ﴿يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا﴾ [غافر: 37-36] وجنوده کلهم، ونمرود بن کنعان، هذا خصم إبراهيم الخليل؛ وذاك خصم موسی الكليم. وأرسطاطاليس وبقراطيس، وأضرابهما.

فليعتبر العاقل خواص هؤلاء وهؤلاء، وعوام هؤلاء وهؤلاء، وليقابل بین الطائفتين، وحينئذ يتبين له أنه ما كان ولا يكون ولي لله إلا من أهل الإثبات، وما كان ولا يكون ولي للشيطان إلا من أهل النفي والتعطيل)6(6) «الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة» (3/ 1121-1117) باختصار ..

الفرق بين توحید الرسل وتوحيد المعطلين

ويقول في موطن آخر: (الفرق بين توحيد المرسلين وتوحيد المعطلين:

أن توحید الرسل: إثبات صفات الكمال لله على وجه التفصيل، وعبادته وحده لا شريك له، فلا يجعل له ندا في قصد ولا حب ولا خوف ولا رجاء ولا لفظ ولا حلف ولا نذر، بل يرفع العبد الأنداد له من قلبه وقصده ولسانه وعبادته، كما أنها معدومة في نفس الأمر لا وجود لها البتة، فلا يجعل لها وجودا في لبه ولسانه.

وأما توحيد المعطلين: فنفي حقائق أسمائه وصفاته وتعطيلها، ومن أمكنه منهم تعطيلها من لسانه عطلها؛ فلا يذكرها ولا يذكر آية تتضمنها ولا حديثا يصرح بشيء منها، ومن لم يمكنه تعطیل ذکرها سطا عليها بالتحريف ونفي حقيقتها، وجعلها اسما فارغا لا معنى له أو معناه من جنس الألغاز والأحاجي)7(7) «الروح» (ص 577-576) ..

ويقول أيضا: (ندين بإثبات الصفات وحقائق الأسماء؛ وإن سمي تجسيما، وندین بإثبات علو الله على عرشه فوق سماواته؛ وإن سمي تحيزا أو جهة، وندين بإثبات وجهه الأعلى ويديه المبسوطتين؛ وإن سمي ترکيبا، وندين بحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن سمي نصبا، وندين بأنه مكلم متكلم حقيقة كلاما يسمعه من خاطبه وأنه يرى بالأبصار عيانا حقيقة يوم لقائه؛ وإن سمي ذلك تشبيها)8(8) مدارج السالكين» (3/ 420) ..

القاعدة الثالثة: قطع الطمع من إدراك الكيفية

– وعن الأساس الثالث من أسس منهج دراسة الأسماء والصفات وهو «قطع الطمع من إدراك الكيفية»

يقول ابن القيم – رحمه الله تعالى -: (إن من أثبت له سبحانه السمع والبصر أثبتهما حقيقة وفهم معناهما، فهكذا سائر صفاته المقدسة يجب أن تجري هذا المجري، وإن كان لا سبيل لنا إلى معرفة كنهها وكيفيتها، فإن الله سبحانه لم يكلف عباده بذلك، ولا أراده منهم، ولم يجعل لهم إليه سبيلا)9(9) المصدر السابق (3/ 420)..

ويقول في موطن آخر وهو يشرح کلام الهروي في منازل السائرين وذلك في قوله: («والإياس من إدراك كنهها وابتغاء تأويلها».

قال -رحمه الله تعالى -: (يعني أن العقل قد يئس من تعرف كنه الصفة وكيفيتها فإنه لا يعلم كيف الله إلا الله، وهذا معنى قول السلف «بلا كيف»؛ أي: بلا كيف يعقله البشر.

فإن من لا تعلم حقيقة ذاته وماهيته، كيف تعرف كيفية نعوته وصفاته؟ ولا يقدح ذلك في الإيمان بها، ومعرفة معانيها، فالكيفية وراء ذلك، كما أنا نعرف معاني ما أخبر الله به من حقائق ما في اليوم الآخر، ولا نعرف حقيقة كيفيته، مع قرب ما بين المخلوق والمخلوق، فعجزنا عن معرفة كيفية الخالق وصفاته أعظم وأعظم.

فكيف يطمع العقل المخلوق المحصور المحدود في معرفة كيفية من له الكمال كله، والجمال كله، والعلم كله، والقدرة كلها، والعظمة كلها، والكبرياء كله؟ من لو كشف الحجاب عن وجهه لأحرقت سبحاته السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما، وما وراء ذلك؟ الذي يقبض سماواته بيده فتغيب كما تغيب الخردلة في كف أحدنا، الذي نسبة علوم الخلائق كلها إلى علمه أقل من نسبة نقرة عصفور من بحار العلم الذي لو أن البحر يمده من بعده سبعة أبحر مداد، وأشجار الأرض من حين خلقت إلى قيام الساعة أقلام لفني المداد، وفنيت الأقلام، ولم تنفذ كلماته، الذي لو أن الخلق من أول الدنيا إلى آخرها – إنسهم وجنهم، وناطقهم وأعجمهم – جعلوا صفا واحدا: ما أحاطوا به سبحانه، الذي يضع السماوات على إصبع من أصابعه، والأرض على إصبع، والجبال على إصبع، والأشجار على إصبع، ثم يهزهن، ثم يقول: أنا الملك.

فقاتل الله الجهمية والمعطلة! أين التشبيه ههنا؟! وأين التمثيل؟! لقد اضمحل ههنا کل موجود سواه، فضلا عن أن يكون له ما يماثله في ذلك الكمال، ويشابهه فيه، فسبحان من حجب عقول هؤلاء عن معرفته، وولاها ما تولت من وقوفها مع الألفاظ التي لا حرمة لها، والمعاني التي لا حقائق لها)10(10) مدارج السالكين (3/360-359)..

وقول السلف: «بلا كيف» نفي للتأويل الفاسد في أسماء الله تعالى وصفاته، وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى -: (ومراد السلف بقولهم: «بلا کیف» هو نفي التأويل فإنه التكييف الذي يزعمه أهل التأويل، فإنهم هم الذين يثبتون كيفية تخالف الحقيقة فيتبعونه في ثلاثة محاذير: نفي الحقيقة، وإثبات التكييف، وتعطيل الرب تعالی عن صفته التي أثبتها لنفسه)11(11) اجتماع الجيوش الإسلامية (199)..

وأهل السنة عندما ينفون الكيفية لا ينفونها مطلقا – فإن كل شيء لا بد أن يكون على كيفية ما- وإنما أرادوا نفي علمهم بالكيفية، إذ لا يعلم كيفية ذاته وصفاته إلا هو سبحانه وتعالى12(12) انظر: شرح العقيدة  الواسطية للدكتور محمد خليل هراس رحمه الله (69)..

الهوامش

(1) « منهج دراسة الأسماء والصفات باختصار.

(2) «إغاثة اللهفان» (2/ 323- 322).

(3) البخاري في الأدب المفرد» (804) وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد» (ص 292).

(4) «إغاثة اللهفان» (2/ 338-322) باختصار.

(5) «الروح» (ص 579-577)، دار ابن کثیر، ت: يوسف بديوي.

(6) «الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة» (3/ 1121-1117) باختصار .

(7) «الروح» (ص 577-576) .

(8) مدارج السالكين» (3/ 420) .

(9) المصدر السابق (3/ 420).

(10) مدارج السالكين (3/360-359).

(11) اجتماع الجيوش الإسلامية (199).

(12) انظر: شرح العقيدة  الواسطية للدكتور محمد خليل هراس رحمه الله (69).

اقرأ أيضا

كيف يكون الإيمان بالأسماء والصفات

فقه النوازل في ضوء الكتاب والسنة (1-7) علوم ضرورية، العلم بالأسماء والصفات

قواعد وتنبيهات على أسماء الله الحسنى

 

التعليقات غير متاحة