إن الشدة بعد الرخاء ، والرخاء بعد الشدة ، هما اللذان يكشفان عن معادن النفوس ، وطبائع القلوب ، ودرجة الغبش فيها والصفاء ، ودرجة الهلع فيها والصبر ، ودرجة الثقة فيها بالله أو القنوط ، ودرجة الاستسلام فيها لقدر الله أو البرم به والجموح !

حال المسلمين اليوم في ضوء هذه السنة..أخذ العظة والدروس منها

تمر بالمسلمين في السنوات الأخيرة حوادث ضخام تتسم بالسرعة والمفاجأة ، نسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل عاقبتها خيرا للإسلام والمسلمين . وهذا ما نجزم به في ضوء قوله تعالى: (لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم)، ولو ظهر ما ظهر فيها من المصائب والشرور ، فإن العاقبة للمتقين .

وفي هذا المقال سيكون التركيز على أهم الأحداث المؤلمة التي تدور رحاها اليوم في المناطق التي يقطن فيها المسلمون ، متلمسين أوجه الخير التي تنطوي عليها هذه الأحداث .

والمقصود من هذه المعرفة ليس هو مجرد العلم الذهني فقط ، وإنما المقصود الأهم هو: استثمار هذه النتائج في توعية الناس ، ومراجعة النفوس، وتوظيفها في مناهج الدعوة والتغيير ، وأخذ العظة والدروس منها، والبحث في أسباب المصائب والشرور حتى يتم تجنبها ، ومعرفة أسباب النصر والتمكين ؛ فيتوجه الجهد لطلبها وتحصيلها ، مع الثقة المطلقة في وعد الله عز وجل ورحمته وحكمته .

ابتلاء المؤمنين وتسلط الأعداء عليهم في أكثر البلدان

تشهد السنوات الأخيرة حربا شرسة من أعداء الإسلام بشتى مللهم ، على الدين وأهله تدور رحاها في أكثر بلدان المسلمين ؛ فاشتد الخطب على أمة الإسلام وصلحائها ؛ فابتلوا بشتى صنوف البلاء . نسأل الله عز وجل أن يربط على قلوبهم ويفك أسرهم ، ويحسن العاقبة لهم .

وهذه سنة الله عز وجل في تمحيص أوليائه ، وحتمية الصراع بين الحق والباطل . قال تعالى: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ۚ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) [الأنعام: ۱۱۲].

فمن هذه الآية نفهم أن هذه العداوة والصراع سنة من سنن الله عز وجل في عباده المؤمنين، وله سبحانه الحكمة البالغة في ذلك، كما سيتبين فيما بعد.

كما نفهم من هذه الآية أن كل هذا الصراع وهذه العداوة تمت بقدر الله سبحانه وبعلمه ، والكل في قبضته وتحت قهره ، ولو شاء سبحانه ما فعلوا هذا الكيد ، وما استطاعوا إليه سبيلا .

يقول سيد قطب رحمه الله تعالى عند هذه الآية: (والمشهد الذي يرسمه القرآن الكريم للمعركة بين شياطين الإنس والجن من ناحية ، وكل نبي وأتباعه من ناحية أخرى ، ومشيئة الله المهيمنة، وقدره النافذ من ناحية ثالثة .. هذا المشهد بكل جوانبه جدير بأن نقف أمامه وقفة قصيرة: إنها معركة تتجمع فيها قوى الشر في هذا الكون .. شياطين الإنس والجن .. تتجمع في تعاون وتناسق لإمضاء خطة مقررة .. هي عداء الحق الممثل في رسالات الأنبياء وحربه … خطة مقررة فيها وسائلها: (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا)  يمد بعضهم بعضا بوسائل الخداع والغواية ، وفي الوقت ذاته يغوي بعضهم بعضا! وهي ظاهرة ملحوظة في كل تجمع للشر في حرب الحق وأهله.. إن الشياطين يتعاونون فيما بينهم؛ ويعين بعضهم بعضا على الضلال أيضا ! إنهم لا يهدون بعضهم البعض إلى الحق أبدا . ولكن يزين بعضهم لبعض عداء الحق وحربه ، والمضي في المعركة معه طويلا !

ولكن هذا الكيد كله ليس طليقا .. إنه محاط به بمشيئة الله وقدره .. لا يقدر الشيطان على شيء منه إلا بالقدر الذي يشاؤه الله ، وينفذه بقدره . ومن هنا يبدو هذا الكيد. على ضخامته وتجمع قوى الشر العالمية كلها عليه – مقيدا مغلولا ! إنه لا ينطلق كما يشاء بلا قيد ولا ضابط ، ولا يصيب من يشاء بلا معقب ولا مراجع . كما يحب الطغاة أن يلقوا في روع من يعبدونهم من البشر ، وليعلقوا قلوبهم بمشيئتهم وإرادتهم.. کلا ! إن إرادتهم مقيدة بمشيئة الله ، وقدرتهم محدودة بقدر الله ، وما يضرون أولياء الله بشيء إلا بما أراده الله – في حدود الابتلاء. ومرد الأمر كله إلى الله)1(1) في ظلال القرآن : عند الآية (112) من سورة الأنعام ..

التسليم والرضا لا يتعارض مع المدافعة والتغيير

وقبل الدخول في محاولة التعرف على جوانب الخير والحكمة في الابتلاء والتسليط أود التذكير بأن الرضا والتسليم بما يقدره الله عز وجل ، واليقين برحمته في كل أحكامه ؛ لا يعني العجز والتواكل، وترك الفساد يسري في الأمة ؛ بل الواجب مدافعة أقدار الله بأقداره ، وذلك بالأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، فإذا قضى الله عز وجل أمرا وجب التسليم به ، والتفاؤل بالخير والرحمة من ورائه . كما ينبغي للمؤمن أن يسأل ربه العافية من البلاء، فإذا وقع الابتلاء لزم الرضا والتسليم ، والوثوق برحمة الله وحكمته .

يقول سید قطب رحمه الله تعالى في ذلك: (ومع هذا، فإن العبد المؤمن يرجو ألا يتعرض لبلاء الله وامتحانه، ويتطلع إلى عافيته ورحمته ، فإذا أصابه بلاء الله بعد هذا صبر له ، وهو مدرك لما وراءه من حكمة ، واستسلم لمشيئة الله واثقا من حكمته ، متطلعا إلى رحمته وعافيته بعد الابتلاء .

وقد روي عن الفضيل العابد أنه كان إذا قرأ هذه الآية: وهي قوله تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) [محمد: 31] – بکی ، وقال: اللهم لا تبلنا ، فإنك إن بلوتنا فضحتنا، وهتكت أستارنا وعذبتنا ..)2(2) في ظلال القرآن : عند الآية (31) من سورة محمد بتصرف..

من جوانب الحكمة والرحمة في الابتلاء

الانکسار والافتقار لله عز وجل

استخراج عبودية المبتلى لله عز وجل في الضراء وظهور انکساره وافتقاره إلى ربه عز وجل ، وفي هذا خير للعبد المبتلى ؛ لتنكشف له نفسه على حقيقتها ، ويكمل ما نقص فيها من العبودية لله عز وجل ، وفي هذا يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في تعداده لحكم ابتلاء المؤمنين بتسليط عدوهم عليهم: (ومنها أنه سبحانه يحب من عباده تکمیل عبوديتهم على السراء والضراء ، وفي حال العافية والبلاء ، وفي حال إدالتهم والإدالة عليهم . فلله سبحانه على العباد في كلتا الحالتين عبودية بمقتضى تلك الحال ؛ لا تحصل إلا بها ، ولا يستقيم القلب بدونها)3(3) إغاثة اللهفان (2/ 190)..

وبذلك تتهذب النفوس ، وتنتصر على ضعفها وتنقى من كل زغل وهوی؛ وفي هذا خیر کثیر .

تهيئة المبتلين لمقامات رفيعة في الدنيا والآخرة

حيث لا يمكنهم الوصول إليها إلا على جسر التعب والابتلاء، وهذا الأمر مشاهد ومعروف ؛ فكم من داعية لم ينتشر علمه ، ولم تنتشر دعوته وكتبه في الآفاق إلا بعد ابتلائه وتمحيصه ، وصبره على ذلك ، كما حدث في محنة الإمام أحمد، وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما الله تعالى ، فيقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: (وإذا تأملت حكمته سبحانه فيما ابتلى به عباده وصفوته ما ساقهم به إلى أجل الغايات ، وأكمل النهايات التي لم يكونوا يعبرون إليها إلا على جسر من الابتلاء والامتحان ، وكان ذلك الجسر لكماله كالجسر الذي لا سبيل إلى عبورهم إلى الجنة إلا عليه ، وكان ذلك الابتلاء والامتحان عين المنهج في حقهم والكرامة ، فصورته صورة ابتلاء وامتحان ، وباطنه فيه الرحمة والنعمة ، فكم لله من نعمة جسيمة ، ومنة عظيمة تجنى من قطوف الابتلاء والامتحان)4(4) مفتاح دار السعادة ص 321..

ويلحق بذلك ما يناله المبتلى الصابر من تكفير السيئات ورفعة الدرجات في الآخرة .

تمحيص الدعاة

فبالابتلاء يعرف الداعية من نفسه ما لم يكن يعرفه من قبل ، كما تنكشف مواقف الناس من حول الدعاة ، ويتم تمييز المواقف إزاء المصلحين المبتلين، فيظهر بابتلائهم من من الناس معهم ، ومن هو ضدهم ومن أعداؤهم ، وقد يكون هذا الأمر قبل الابتلاء مختلطا ملتبسا عليه ، وفي هذا التميز خیر کثیر للدين وأهله ؛ لأن في انفصال الدغل ومعرفة القلوب المريضة فائدة كبيرة في فضحهم ، وأخذ الحذر منهم ، وعدم المراهنة على الأعداد الكبيرة التي لم يتميز طيبها من خبيثها والذين يظن أنهم في صف الدعوة ، فتأتي الابتلاءات ليميز هؤلاء عن هؤلاء ، وتظهر الأمور على حقيقتها.

ومن سنن الله عز وجل في التغيير أن نصره سبحانه لا ينزل إلا بعد التمحيص والتمييز ، قال تعالى: (مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) [آل عمران : 179].

يقول الإمام ابن کثیر رحمه الله تعالى عند هذه الآية: (أي: لابد أن يعقد سببا من المحنة ، يظهر فيه وليه، ويفتضح فيه عدوه، يعرف المؤمن الصابر ، والمنافق الفاجر)5(5) تفسير ابن كثير : عند الآية (179) من سورة آل عمران ..

كما أن في الابتلاء خيرا للدعوة نفسها ؛ حيث يصلب عودها ، ويصلب عود أهلها ، ويثبت للناس مصداقيتهم ومصداقيتها ، وهذا هو الذي يميز الدعوات الحقة من الدعوات الزائفة ، قال تعالى: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ ۗ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا) [الفرقان : 31].

يقول صاحب الظلال رحمه الله تعالى عند هذه الآية: (فلا يكافح ويناضل ، ويحتمل الآلام والتضحيات إلا أصحاب دعوة الحق الجادون المؤمنون ، الذين يؤثرون دعوتهم على الراحة والمتاع وأعراض الحياة الدنيا ، بل على الحياة نفسها حين تقتضيهم دعوتهم أن يستشهدوا في سبيلها ، ولا يثبت على الكفاح المرير إلا أصلبهم عودا ، وأشدهم إيمانا ، وأكثرهم تطلعا إلى ما عند الله ، واستهانة بما عند الناس ، عندئذ تتميز دعوة الحق من دعاوى الباطل ، وعندئذ تمحص الصفوف ؛ فيتميز الأقوياء من الضعفاء، وعندئذ تمضي دعوة الحق في طريقها برجالها الذين ثبتوا عليها ، واجتازوا امتحانها وبلاءها .

أولئك هم الأمناء عليها ، الذين يحتملون تكاليف النصر وتبعاته ، وقد نالوا هذا النصر بثمنه الغالي ، وأدوا ضريبته صادقين مؤثرين؛ وقد علمتهم التجارب والابتلاءات كيف يسيرون بدعوتهم بين الأشواك والصخور، وقد حفزت الشدائد والمخاوف كل طاقاتهم ومقدراتهم ، فنما رصيدهم من القوة ، وذخيرتهم من المعرفة ، فيكون هذا كله رصيدا للدعوة التي يحملون رايتها على السراء والضراء)6(6) في ظلال القرآن : عند الآية (31) من سورة الفرقان ..

إعادة النظر في المناهج والتصورات والمواقف

التي قد يشوبها شيء من الخلل والخطأ ومجانبة الصواب ، فيأتي الابتلاء لينبه أصحاب هذه المناهج الخاطئة إلى مواطن الخلل ونقاط الضعف ؛ فيحصل التصحيح ، ويهتدى إلى الحق ، ويعدل المسار ، وهذا خير وأجدى من الاستمرار على الخطأ الذي لم يكن ليعرف لولا الابتلاء الذي يقدره الله سبحانه على عباده وأوليائه ليردهم به إلى الحق وإلى الطريق المستقيم ، وفي ذلك خير عظيم .

علاج أمراض كثيرة فيها هلاك العبد

في الابتلاء والمعاناة علاج لداء الأشر والعجب والتعالي الذي قد يصاب به بعض الدعاة ؛ حيث بالابتلاء تنكسر النفس ، وتستكين لربها عز وجل، وتلجأ إليه وتظهر فيه على حقيقتها .

الوقوف عل حقيقة وحجم العدو

كما أن في اقتحام الابتلاء والمرور بالمحنة ما يسقط حاجز الخوف والهلع الذي قد يكون مضخما في النفوس بشكل يثير الرعب والأوهام ، فإذا بهذه الأمور تزول ويظهر سرابها ، ويعرف المخاليق الضعاف على حقيقتهم ، وأنهم لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ، فضلا عن أن يملكوه  لغيرهم ، وصدق الله العظيم : (إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [ آل عمران: 175].

قال الإمام ابن کثیر رحمه الله تعالى في معنى الآية: (أي يخوفكم أولياءه ، ويوهمكم أنهم ذوو بأس وذوو شدة)7(7) تفسير ابن كثير : عند الآية (175) من سورة آل عمران ...

تذكر هذه السنة يورث اليقظة والاستعداد

بالابتلاء يحصل التنبيه إلى سنة الله عز وجل في كل من ادعى الإيمان، وأنه لابد من الابتلاء للخلق ليتبين الصادق من الكاذب.

وهذا الأمر قد سبق التنبيه عليه في فقرة سابقة ، وإنما الذي يراد ذكره هنا هو أنه قد يوجد من بعض الدعاة إلى الله عز وجل من يغفل عن هذه السنة ويتهرب منها وسعه وطاقته ، فإذا ابتلي حصل له صدمة ، وكان الأمر مفاجئ له ! فيأتيه ولما يستعد له ويوطن نفسه عليه ، فينشأ من ذلك اضطراب وضعف للمبتلى.

وأما إذا تذكر هذه السنة ، ورأى صورة منها فيمن ابتلي من الدعاة قبله ؛ فإن هذا يساعده على أن يأخذ للأمر أهبته ويستعد له ، ويعزي نفسه بحتمية هذه السنة ، ويسأل ربه الثبات والعافية ، كما يسأله الثواب الحسن والأجر الكريم عنده سبحانه يوم يلقاه ، فما هو إلا صبر ساعة ثم النعيم المقيم بإذنه سبحانه .

قال الله تعالى: (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ * أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا ۚ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ ۚ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) [العنكبوت: 1-6].

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى عند هذه الآية: (فليتأمل العبد سياق هذه الآيات ، وما تضمنته من العبر وكنوز الحكم؛ فإن الناس إذا أرسل إليهم الرسل؛ بين أمرين: إما أن يقول أحدهم : آمنا. وإما ألا يقول ذلك؛ بل يستمر على السيئات والكفر ، فمن قال: « آمنا » امتحنه ربه وابتلاه وفتنه – والفتنة: الابتلاء والاختبار ليتبين الصادق من الكاذب. ومن لم يقل: «آمنا»، فلا يحسب أنه يعجز الله ويفوته ويسبقه ؛ فإنه إنما يطوي المراحل في يديه.

وكيف يفر المرء عنه بذنبه                         إذا كان تطوى في يديه المراحل

فمن آمن بالرسل وأطاعهم ، عاداه أعداؤهم وآذوه فابتلي بما يؤلمه ، وإن لم يؤمن بهم ولم يطعهم ؛ عوقب في الدنيا والآخرة فحصل له ما يؤلمه، وكان هذا المؤلم له أعظم ألما وأدوم من ألم اتباعهم .

فلابد من حصول الألم لكل نفس آمنت أو رغبت عن الإيمان ، لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداء ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة، والمعرض عن الإيمان تحصل له اللذة ابتداء ثم يصير إلى الألم الدائم ، وسئل الشافعي رحمه الله: أيهما أفضل للرجل يمكن أو يبتلى؟ فقال: لا يمكن حتى يبتلى … إلى أن قال رحمه الله تعالى: … ومن تأمل أحوال العالم ، رأی هذا كثيرا فيمن يعين الرؤساء على أغراضهم الفاسدة ، وفيمن يعين أهل البدع على بدعهم هربا من عقوبتهم ، فمن هداه الله ، وألهمه رشده ، ووقاه شر نفسه ، امتنع من الموافقة على فعل المحرم ، وصبر على عدوانهم، ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة ، كما كانت للرسل وأتباعهم كالمهاجرين والأنصار ، ومن ابتلي من العلماء ، والعباد وصالحي الولاة والتجار وغيرهم .

ولما كان الألم لا محيص منه ألبتة عزى الله سبحانه من اختار الألم اليسير المنقطع على الألم العظيم المستمر بقوله: (مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ ۚ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [العنكبوت:5].

فضرب لمدة هذا الألم أجلا ، لابد أن يأتي ، وهو يوم لقائه ، فيلتذ العبد أعظم اللذة بما تحمل من الألم من أجله وفي مرضاته ، وتكون لذته وسروره وابتهاجه بقدر ما تحمل من الألم في الله ولله ، وأكد هذا العزاء والتسلية برجاء لقائه ليحمل العبد اشتياقه إلى لقاء ربه ووليه على تحمل مشقة الألم العاجل…)8(8) بدائع التفسير (3/ 371-373) (باختصار)..

صفات ثلاث إذا تحققت في العبد كان الابتلاء في حقه خيرا  له ورحمة

وفي ختام الكلام عن سنة الابتلاء وما فيها من الحكمة والخير والرحمة ، أود الإشارة إلى أنه لا يفوز بهذا الخير من الابتلاء إلا من ثبته الله عز وجل وأعانه على الخير بصفات ثلاث ، لو تخلف واحد منها أو أكثر فقد لا يكون الابتلاء خيرا له ؛ اللهم إلا أن يكون الابتلاء قد جعله ينتبه لهذا الخلل ، فيسعى لسدة ؛ فعندئذ يكون هذا خيرا له ، وقد يكون خيرا لغيره بالعظة والاعتبار .

أما هذه الصفات الثلاث التي إذا تحققت في العبد كان الابتلاء في حقه خيرا  له ورحمة فهي كما يلي:

1- أن يكون الأمر الذي حصل بسببه الابتلاء حقا ومشروعا، وذلك بأن يكون العبد على بصيرة من أمره و مطمئنا أنه على حق يحبه الله ويرضاه ، وليس على باطل يخالف الشريعة زيادة أو نقصانا .

2- أن يكون قيام العبد في هذا الأمر مخلصا فيه لله عز وجل ، ويبتغي به مرضاته وجنته ، وألا يريد من قيامه هذا عرضا من أعراض الدنيا الفانية ، سواء كان مالا، أم جاها، أم ثناء .

3- أن يكون العبد في قيامه بالأمر مستعينا بالله عز وجل ، متوكلا عليه، متبرئا من كل حول وقوة إلا من حول الله وقوته ، ويقينه بأنه لو وكل إلى نفسه لضاع وهلك ، فلا حول ولا قوة إلا بالله العظيم .

نسأله سبحانه أن يجعلنا قائمين بالحق ، قاصدين وجهه سبحانه ، مستعينين به ، مفوضين أمورنا إليه.

الهوامش

(1) في ظلال القرآن : عند الآية (112) من سورة الأنعام .

(2) في ظلال القرآن : عند الآية (31) من سورة محمد بتصرف.

(3) إغاثة اللهفان (2/ 190).

(4) مفتاح دار السعادة ص 321.

(5) تفسير ابن كثير : عند الآية (179) من سورة آل عمران .

(6) في ظلال القرآن : عند الآية (31) من سورة الفرقان .

(7) تفسير ابن كثير : عند الآية (175) من سورة آل عمران ..

(8) بدائع التفسير (3/ 371-373) (باختصار).

اقرأ أيضا

“لا تحسبوه شراً لكم” .. سنة جارية

“لا تحسبوه شراً لكم” .. قصص ومواقف

لا تحسبوه شرا لكم.. أحاديث وآثار

 

التعليقات غير متاحة