الإخلاص شرط لقبول الجهد والكد والعمل. مخادعة الناس لا تنفع عند الله. وللمخلص علامات يُعرف بها؛ فانظر كيف كانوا، وإلا فقُل لغير المخلصين أريحوا أنفسكم.
مقدمة
عملٌ قليل مع الإخلاص ينفع صاحبه، بينما عمل كثير مفتقدا صاحبه للإخلاص لا ينفع ولا يدوم ولا أثر له. ولهذا قال بعض العُبّاد «قل لغير المخلصين أريحوا أنفسكم». ولذا فمِن أول ما يجب عليك أن تحققه الإخلاص، وإذا أردت أن تعرف علامات المخلصين فانظر الى صفاتهم؛ ألحقنا الله وإياك بهم.
من علامات المخلصين
للمخلصين علامات عدة؛ من أبرزها:
إرادتهم وجه الله
سمة المخلصين العظمى أنهم يريدون بعملهم وجه الله، فلا يريدون به مغنماً ولا جاهاً ولا ثناءً ولا عَرَضاً من عروض الدنيا الزائلة.
قال تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ (الكهف: 28)؛ أي يرتقبون بدعائهم رضا الله سبحانه لا عَرَض الدنيا؛ فلذا وصفهم في الآية بالعبادة والإخلاص فيها. وفي حديث أبي موسى رضي الله عنه قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليُرى مكانه؛ فمن في سبيل الله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله». (1أخرجه البخاري (2810))
فالمخلصون أصحاب نيات صالحة، يريدون الله ورفعة دينه، والعمل إنما يكون معتبراً بالنية الصالحة، وإذا لم تصح النية فلا أثر له؛ وقد جاء ذلك منصوصاً عليه في قوله صلى الله عليه وسلم: «الأعمال بالنية، ولكل امرئ ما نوى؛ فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه». (2أخرجه البخاري (54))
حبهم لعمل الخلوة
المخلصون أحرص على إخفاء صالح أعمالهم من غيرهم على كتمان ذنوبهم؛ رجاء أن ينالهم الخير الوارد في الحديث: «إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي». (3أخرجه مسلم (2965))، وقد كان ذلك هدياً بيِّناً للسلف الصالح، وسَمتاً ظاهراً لهم، ومن ذلك قول الخريبي: «كانوا يستحبون أن يكون للرجل خبيئة من عمل صالح، لا تعلم به زوجته ولا غيرها». (4سير أعلام النبلاء، للذهبي: 9/ 349)، وقول أيوب السختياني: «والله! ما صدق عبد إلا سَره ألا يُشْعَر بمكانه»، وقول سلمة بن دينار: «اكتم حسناتك أشد مما تكتم سيئاتك». (5حلية الأولياء، للأصفهاني: 3/ 240)، وقول بشر الحافي: «أَخْمِل ذكرك، وطيِّب مطعمك، لا يجد حلاوة الآخرة رجل يحب في الدنيا أن يعرفه الناس». (6مختصر منهاج القاصدين، للمقدسي: 210)، وقول محمد بن العلاء: «مَن أَحب الله أحب أن لا يعرفه الناس». (7تفسير القرآن العظيم، لابن كثير: 6/ 343)، وقول الشافعي: «وددت أن الخلق يتعلمون هذا العلم، ولا ينسب إليَّ منه شيء». (8حلية الأولياء، للأصفهاني: 9 / 118)
ومن الشواهد العملية: ما ورد «أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج في سواد الليل فرآه طلحة، فذهب عمر فدخل بيتاً، ثم دخل بيتاً آخر، فلما أصبح طلحة ذهب إلى ذلك البيت، فإذا بعجوز عمياء مقعدة، فقال لها: ما بال هذا الرجل يأتيك؟ قالت: إنه يتعاهدني منذ كذا وكذا، يأتيني بما يصلحني، ويخرج عني الأذى، فقال طلحة: ثكلتك أمك يا طلحة! أَعثرات عمر تتبع؟!». (9حلية الأولياء، للأصفهاني: 1/ 48)، وما ورد أن منصور السلمي «صام أربعين سنة وقام ليلها، كان يبكي فتقول له أمه: يا بني قتلت قتيلاً؟! فيقول: أنا أعلم بما صنعت بنفسي، فإذا كان الصبح كحَّل عينيه، ودهن رأسه، وبرق شفتيه، وخرج إلى الناس». (10سير أعلام النبلاء، للذهبي: 5 / 406)، وأن داود بن أبي هند «صام أربعين سنة لا يعلم به أهله، وكان خرازاً يحمل غداءه من عندهم، فيتصدق به في الطريق، ويرجع عشياً فيفطر معهم». (11حلية الأولياء، للأصفهاني: 3/ 94)
وكان زين العابدين «علي بن الحسين» ينفق على أهل مئة بيت في المدينة، يأتيهم في الليل بالطعام، ولا يعرفون مَن الآتي به، حتى مات ففقدوا ذلك؛ فعرفوا أن ذلك منه، ووجدوا في ظهره أثراً من نقل الطعام إلى بيوت الأرامل (12انظر: سير أعلام النبلاء، للذهبي: 3/ 393 – 394)
وقال سفيان: «أخبرتني سُرّية الربيع بن خثيم قالت: كان عمل الربيع كله سراً، إن كان ليجيء الرجل وقد نشر المصحف فيغطيه بثوبه» (13حلية الأولياء، للأصفهاني: 2/ 107) وقال محمد بن واسع: «إن كان الرجل ليبكي عشرين سنة وامرأته معه لا تعلم». (14حلية الأولياء، للأصفهاني: 2/ 347)، وكان ابن المبارك يضع اللثام على وجهه عند القتال لئلا يُعرف، قال أحمد: «ما رفع الله ابن المبارك إلا بخبيئة كانت له». (15صفة الصفوة، لابن الجوزي: 4/ 115، 146)
وهذا الإخفاء إنما هو لما يُشرع إخفاؤه من العمل، وذلك مخصوص بالنوافل دون الفرائض. واستثنى أهل العلم من ذلك من يقتدي الناس به؛ إذ الإبداء في حقه أوْلى.
سريرتهم أحسن من علانيتهم
فالمخلص ليس من يظهر التنسك أمام الناس ثم يسيء فيما بينه وبين الله، بل هو قوَّام على نفسه يحاسبها؛ كأنه أبداً يرى الله، فهو مراقب له سبحانه في سره وعلانيته، لا رَوَغان في استقامته، وهذه من أعظم قرباته، قال ابن عطاء: «أفضل الطاعات مراقبة الحق على دوام الأوقات». (16إحياء علوم الدين، للغزالي: 4/ 397)، فصِفَته كما ذكر الله: ﴿وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً﴾ (الفرقان: 64)، قال الحسن: «هذا ليلهم إذا خلوا بينهم وبين ربهم تبارك وتعالى». (17الزهد، لابن أبي عاصم: 286)، فهو أبعد ما يكون عن خلال أولئك الذين ضعف إخلاصهم، وقلّت مراقبتهم، ممن حكى النبي صلى الله عليه وسلم لنا حالهم، فقال: «لأعلمن أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاء فيجعلها الله هباءً منثوراً. قال ثوبان: صفهم لنا يا رسول الله! أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم. قال: أما إنهم إخوانكم، ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون؛ ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها». (18أخرجه ابن ماجه (4245) وصححه الألباني في صحيح الجامع (5028))
فإتيان المعاصي وانتهاك الحرمات في السر عمل مشين، وليس من أخلاق المخلصين؛ ولذا قال الربيع بن خثيم: «السرائر السرائر.. اللاتي تخفين من الناس وهنَّ لله تعالى بَوَادٍ، التمسوا دواءهن ثم يقول: وما دواؤهن إلا أن تتوب ثم لا تعود». (19حلية الأولياء، للأصفهاني: 2/ 108)، وقال حميد الطويل: «لئن كنت إذا عصيت الله خالياً ظننت أنه يراك لقد اجترأت على أمر عظيم، ولئن كنت تظن أنه لا يراك فلقد كفرت». (20إحياء علوم الدين، للغزالي: 4/ 398)، وقال ابن الأعرابي: «أخسر الخاسرين من أبدى للناس صالح أعماله، وبارز بالقبيح مَنْ هو أقرب إليه من حبل الوريد». (21شعب الإيمان، للبيهقي (6987))
أنهم يخافون من رَدّ أعمالهم
ودليله في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾ (المؤمنون: 60)، وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أنهم «يصومون ويصلون ويتصدقون، وهم يخافون أن لا يقبل منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرات». (22أخرجه الترمذي (3175) وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي)، قال الحسن: «يؤتون الإخلاص ويخافون ألا يُقبَل منهم». (23الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي: 12/ 132)
وعن محمد بن مالك بن ضيغم، قال: حدثني مولانا أبو أيوب قال: «قال لي أبو مالك يوماً: يا أبا أيوب! احذر نفسك على نفسك؛ فإني رأيت هموم المؤمنين في الدنيا لا تنقص، وايْم الله! لئن لم تأت الآخرةُ المؤمنَ بالسرور لقد اجتمع عليه الأمران: همّ الدنيا وشقاء الآخرة. قال: قلت: بأبي أنت! وكيف لا تأتيه الآخرة بالسرور، وهو يَنصَب لله في دار الدنيا ويدأب؟ قال: يا أبا أيوب! وكيف بالقبول؟ وكيف بالسلامة؟ ثم قال: كم من رجل يرى أنه قد أصلح شأنه، قد أصلح قربانه، قد أصلح همّته، قد أصلح عمله؛ يُجمع ذلك يوم القيامة ثم يضرب به وجهه». (24صفة الصفوة، لابن الجوزي: 3 / 360)
ولعل من أعظم مشاهد الخوف من رد العمل أن الإمام الماوردي صاحب التصانيف الحسان في فنون عدة، كـ (الحاوي الكبير) في الفقه، و(النكت والعيون) في التفسير، و(الأحكام السلطانية) ، و(أدب الدنيا والدين) «لم يُظهر شيئاً من تصانيفه في حياته، وجمعها في موضع، فلما دنت وفاته، قال لمن يثق به: الكتب التي في المكان الفلاني كلها تصنيفي، وإنما لم أُظهرها لأني لم أجد نية خالصة، فإذا عاينتُ الموت، ووقعْتُ في النزع، فاجعل يدك في يدي، فإذا قبضت عليها وعصرتها، فاعلم أنه لم يقبل مني شيء منها، فاعمد إلى تلك الكتب وألْقها في دجلة، وإن بسطتُ يدي، فاعلم أنها قبلت. قال الرجل: فلما احتُضر، وضعت يدي في يده، فبسطها، فأظهرت كتبه». (25سير أعلام النبلاء، للذهبي: 18 / 66 – 67)
لا ينتظرون ثناء الناس
ولذا تراهم لا يعاتِبون من أساء إليهم، ولا يحقدون على مَن منَعهم، ولا يرجون من الخلق جزاءً ولا شكوراً؛ حالُهم كما قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً﴾ (الإِنسان:9). قال مجاهد وسعيد بن جبير: «أما والله! ما قالوه بألسنتهم، ولكن علم الله به من قلوبهم، فأثنى عليهم به ليرغب في ذلك راغب». (26تفسير القرآن العظيم، لابن كثير: 8/ 289)، وجاء عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تبعث بالصدقة إلى أهل بيت، ثم تسأل الرسول ما قالوا، فإذا ذكر دعاءهم دعت لهم بمثله؛ ليبقى ثواب الصدقة لها خالصاً عند الله تعالى. (27تفسير أبي السعود: 9/ 72)
خاتمة
ولعل من أروع نختم به ما دوَّنه التأريخ من قصة صاحب النقب. قال ابن قتيبة:
“حاصر مَسلَمة حصناً، فندب الناس إلى نقب منه، فما دخله أحد، فجاء رجل من عُرْض الجيش فدخله ففتحه الله عليهم، فنادى مسلمة: أين صاحب النقب..؟ فما جاءه أحد، فنادى: إني قد أمرت الآذن بإدخاله ساعة يأتي، فعزمت عليه إلا جاء..!
فجاء رجل، فقال: استأذن لي على الأمير، فقال له: أنت صاحب النقب..؟ قال: أنا أخبركم عنه. فأتى مَسلمة فأخبره عنه، فأذِن له، فقال له: إن صاحب النقب يأخذ عليكم ثلاثاً: ألا تسوِّدوا اسمه في صحيفة إلى الخليفة، ولا تأمروا له بشيء، ولا تسألوه مِمن هو. قال: فذاك له. قال: أنا هو. فكان مَسلمة لا يصلي بعدها صلاة إلا قال: اللهم اجعلني مع صاحب النقب..!”. (28عيون الأخبار، لابن قتيبة: 1/ 266، أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن والسنة، للحداد: 1/ 160، ومعنى: لا تسودوا اسمه: أي لا تكتبوا قصته إلى الخليفة)
هكذا كانوا .. أولئك الفائزون.
……………………………………
الهوامش:
- أخرجه البخاري (2810).
- أخرجه البخاري (54).
- أخرجه مسلم (2965).
- سير أعلام النبلاء، للذهبي: 9/ 349.
- حلية الأولياء، للأصفهاني: 3/ 240.
- مختصر منهاج القاصدين، للمقدسي: 210.
- تفسير القرآن العظيم، لابن كثير: 6/ 343.
- حلية الأولياء، للأصفهاني: 9 / 118.
- حلية الأولياء، للأصفهاني: 1/ 48.
- سير أعلام النبلاء، للذهبي: 5 / 406.
- حلية الأولياء، للأصفهاني: 3/ 94.
- انظر: سير أعلام النبلاء، للذهبي: 3/ 393 – 394.
- حلية الأولياء، للأصفهاني: 2/ 107.
- حلية الأولياء، للأصفهاني: 2/ 347.
- صفة الصفوة، لابن الجوزي: 4/ 115، 146.
- إحياء علوم الدين، للغزالي: 4/ 397.
- الزهد، لابن أبي عاصم: 286.
- أخرجه ابن ماجه (4245) وصححه الألباني في صحيح الجامع (5028).
- حلية الأولياء، للأصفهاني: 2/ 108.
- إحياء علوم الدين، للغزالي: 4/ 398.
- شعب الإيمان، للبيهقي (6987).
- أخرجه الترمذي (3175) وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي.
- الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي: 12/ 132.
- صفة الصفوة، لابن الجوزي: 3 / 360.
- سير أعلام النبلاء، للذهبي: 18 / 66 – 67.
- تفسير القرآن العظيم، لابن كثير: 8/ 289.
- تفسير أبي السعود: 9/ 72.
- عيون الأخبار، لابن قتيبة: 1/ 266، أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن والسنة، للحداد: 1/ 160، ومعنى: لا تسودوا اسمه: أي لا تكتبوا قصته إلى الخليفة.
المصدر:
- مجلة البيان، العدد: 182، فيصل بن علي البعداني.