لئن كان الإخلاص من أعمال القلوب، وتلك لا يعلم حقيقتها إلا علاَّم الغيوب، إلا أن للإخلاص أماراتٍ وللمخلصين علامات يمكن أن يُستدل بها عليهم.

موافقة الباطن للظاهر وعدم مخالفة السريرة للعلانية

وهذه من صفات عباد الله المخلصين الذين لا يقولون ويفعلون ما يخالف ما في بواطنهم وليسوا من أهل ذي الوجهين الذين يلاقون هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه آخر، لأن هذا من صفات المنافقين الذين قال الله عز وجل عنهم: ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ۗ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ﴾ [آل عمران: ۱67].

فمن علامات الإخلاص مطابقة السريرة للعلانية، بل إن سريرة المخلصين أحسن من علانيتهم، كما جاء ذلك عن ابن عيينة رحمه الله تعالى أنه قال: (إذا وافقت السريرة العلانية فذلك العدل، وإذا كانت السريرة أفضل من العلانية فذلك الفضل، وإذا كانت العلانية أفضل من السريرة فذلك الجور)1(1) تفسير الطبري: ( 13/163)..

المخلصون أسرع الناس إلى امتثال ما يأمرون الناس به

وأكثر ما يقع فيما يضاد هذه العلامة الحسنة من علامات الإخلاص بعض الوعاظ والمتنسكين الذين يظهرون التنسك والأمر بطاعة الله لك أمام الناس، ثم يسيئون فيما بينهم وبين الله عز وجل، وقد حكى النبي صلى الله عليه وسلم حال هؤلاء، فقال: «لأعلمن أقواما من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاء، فيجعلها الله هباء منثورا» قال ثوبان رضي الله عنه : صفهم لنا یا رسول الله، جَلِّهم لنا أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم. قال: «أما إنهم إخوانكم، ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل کما تأخذون، ولكنهم قوم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها»2(2) رواه ابن ماجه: (4245)، وصححه الألباني في صحيح الجامع: (5028)..

والمخلصون من عباد الله عز وجل ليس هذا من شأنهم وليس من أخلاقهم، بل إنهم أسرع الناس إلى امتثال ما يأمرون الناس به من طاعة الله عز وجل، وأسرعهم إلى الانتهاء عما ينهون الناس عنه من معصية الله عز وجل أمام الناس وفي خلواتهم.

كتب أبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل كتابا إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهم جميعا قالا فيه: (من أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل إلى عمر بن الخطاب، سلام عليك. أما بعد فإنا عهدناك وأمر نفسك لك. فأصبحت قد وليت أمر هذه الأمة أحمرها وأسودها، يجلس بين يديك الشريف والوضيع، والعدو والصديق، ولكل حصته من العدل، فانظر كيف أنت عند ذلك يا عمر، فإنا نحذرك يوما تعنى فيه الوجوه، وتجف فيه القلوب، وتنقطع فيه الحجج لحجة ملك قهرهم بجبروته. فالخلق داخرون له، يرجون رحمته ويخافون عقابه . وإنا كنا نحدث أن أمر هذه الأمة سيرجع في آخر زمانها إلى أن يكونوا إخوان العلانية أعداء السريرة، و إنا نعوذ بالله أن ينزل كتابنا إليك سوى المنزل الذي نزل من قلوبنا، فإنما كتبنا به نصيحة لك والسلام عليكم.

فكتب إليهما عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة ومعاذ، سلام عليكما. أما بعد أتاني كتابکما تذكران أنكما عهدتماني وأمر نفسي لي فأصبحت قد ولیت أمر هذه الأمة أحمرها وأسودها، يجلس بين يدي الشريف والوضيع، والعدو والصديق، ولكل حصته من العدل. كتبتما فانظر كيف أنت عند ذلك يا عمر! وأنه لا حول ولا قوة لعمر عند ذلك إلا بالله عز وجل. وكتبتما تحذراني ما حذرت منه الأمم قبلنا، وقديما كان اختلاف الليل والنهار بآجال الناس يقربان كل بعيد، ويبلیان كل جديد، ويأتيان بكل موعود، حتى يصير الناس إلى منازلهم من الجنة والنار، كتبتما تحذراني أن أمر هذه الأمة سيرجع في آخر زمانها إلى أن يكونوا إخوان العلانية أعداء السريرة، ولستم بأولئك وليس هذا بزمان ذاك، وذلك زمان تظهر فيه الرغبة والرهبة، تكون رغبة الناس بعضهم إلى بعض لصلاح دنیاهم. كتبتما تعوذاني بالله أن أنزل كتابکما سوى المنزل الذي نزل من قلوبکما، وأنكما كتبتما به نصيحة لي، وقد صدقتها، فلا تدعا الكتاب إلي فإنه لا غنی بي عنكما، والسلام علیکما)3(3) الحلية، لأبي نعيم: (1/ 238)..

المخلصون أشبه الناس سريرة بعلانية

وقال حميد الطويل رحمه الله تعالى: (لئن كنت إذا عصيت الله خاليا ظننت أنه يراك لقد اجترأت على أمر عظيم، ولئن كنت تظن أنه لا يراك فلقد كفرت)4(4) إحياء علوم الدين: (4/ 398)..

وقال ابن الأعرابي: (أخسر الخاسرين من أبدى للناس صالح أعماله، وبارز بالقبيح من هو أقرب إليه من حبل الوريد)5(5) شعب الإيمان، للبيهقي: (6987)..

ومن هؤلاء المخلصين الذين شهد لهم بمطابقة السريرة للعلانية الحسن البصري رحمه الله تعالى، فعن خالد بن صفوان قال لقيت مسلمة بن عبدالملك فقال يا خالد أخبرني عن حسن أهل البصرة. قلت: أصلحك الله أخبرك عنه بعلم أنا جاره إلى جنبه وجليسه في مجلسه، وأعلم من قبلي به: أشبه الناس سريرة بعلانية، وأشبهه قولا بفعل، إن قعد على أمر قام به، وإن قام على أمر قعد عليه، وإن أمر بأمر كان أعمل الناس به، وإن نهی عن شيء كان أترك الناس له، رأيته مستغني عن الناس، ورأيت الناس محتاجين إليه)6(6) سير أعلام النبلاء: (4/ 576)..

من علامات مخالفة السريرة للعلانية

– إظهار الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة، مع أن الأمر في الباطن خلاف ذلك، حيث يكون حب الدنيا قد تمكن من القلب وسافر في أوديتها وتفرق في شعابها.

– إظهار الغيرة على الدين والحدب عليه، وأنه الهم الشاغل للنفس، مع أن هذا الادعاء لا يتعدى اللسان أو الكتابة، أما القلب فيكاد يفرغ من هذا الهم المدعى، لأنه قد امتلأ باهتمامات أخرى تسبق الاهتمام بالإسلام في سلم الأولوية. وهذه الصور عادة ما تظهر عند بعض الوعاظ أو الخطباء أو الكتاب، الذين يظهرون الحرقة والألم على الإسلام والمسلمين، والله أعلم بما في القلوب. فلننتبه لخطر هذه المناقضة، ولنحذر هذه الفتنة، فهي من صفات المنافقين التي ذكرها الله لك عنهم بقوله: ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ۗ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ﴾ [آل عمران: ۱6۷].

– مخالطة الكفار أو الظلمة والفسقة ومدحهم أو موافقتهم فيما يقولون ويعملون من مخالفات، ثم ذكرهم بالسوء بعد مفارقتهم، وهذا هو الذي كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يعدونه من النفاق ويخافون منه.

– إظهار المحبة والشفقة للناس وسلامة القلب نحوهم، مع تلبس القلب بأمراض كثيرة تناقض هذا الادعاء: كأمراض الحسد والحقد والشحناء وغيرها.

– إظهار الغيبة للناس في قالب النصح والشفقة والديانة، وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى إلى هذه الصورة يقول رحمه الله تعالى: (ومنهم من يخرج الغيبة في قوالب شتی. تارة في قالب ديانة وصلاح، فيقول: ليس لي عادة أن أذكر أحدا إلا بخير، ولا أحب الغيبة ولا الكذب، وإنما أخبركم بأحواله، ويقول: والله إنه مسكين أو رجل جيد، ولكن فيه کیت وکیت، وربما يقول: دعونا منه، الله يغفر لنا وله. وإنما قصده استنقاصه وهضما لجنابه، ويخرجون الغيبة في قوالب صلاح وديانة، يخادعون الله بذلك، كما يخادعون مخلوقا، وقد رأينا منهم ألوانا كثيرة من هذا وأشباهه… ومنهم من يخرج الغيبة في قالب التعجب، فيقول: تعجبت من فلان كيف لا يفعل کیت وکیت؟ ومن فلان كيف وقع منه کیت وکیت، وكيف فعل کیت وکیت؟! فيخرج اسمه في معرض تعجبه. ومنهم من يخرج الاغتمام فيقول: مسكين فلان. غمني ما جري له وما تم له، فيظن من يسمعه أنه يغتم له ويتأسف، وقلبه منطو على التشفي به. ولو قدر لزاد على ما به. وربما يذكره عند أعدائه ليتشفوا به، وهذا وغيره من أعظم أمراض القلوب والمخادعات لله ولخلقه. ومنهم من يظهر الغيبة في قالب غضب وإنكار منکر، فيظهر في هذا الباب أشياء من زخارف القول وقصده غير ما أظهر والله المستعان)7(7) مجموع الفتاوی: (28/ 237-238)..

الهوامش

(1) تفسير الطبري: ( 13/163).

(2) رواه ابن ماجه: (4245)، وصححه الألباني في صحيح الجامع: (5028).

(3) الحلية، لأبي نعيم: (1/ 238).

(4) إحياء علوم الدين: (4/ 398).

(5) شعب الإيمان، للبيهقي: (6987).

(6) سير أعلام النبلاء: (4/ 576).

(7) مجموع الفتاوی: (28/ 237-238).

اقرأ أيضا

الإخلاص والصدق من علامات صلاح السريرة

من علامات الإخلاص: أعمال الخلوة والخبيئة الصالحة

دلالات وأمارات صلاح السريرة

 

التعليقات غير متاحة