للإسلام نظرته للنصر ولمفهومه، ولشروطه، ولطريقه. والله تعالى يخبرنا بسنته في هذا؛ لأن النصر والتمكين لا يتحقق إلا عبر الطريق الذي سنه الله سبحانه.

حقيقة كبرى

﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11]

إن كثيرا من الدعاة والمصلحين لَيعلمون هذه السنة العظيمة القدر؛ لكن الواقع العملي يَغفل في كثير من الأحيان عن هذه السنة، والتي هي مفتاح النصر والتمكين وهي المدخل لتغيير واقعنا؛ حيث قضى الله عز وجل أنه لا يغير أحوال قوم أو أمة حتى يبدأوا هم فيغيروا ما بأنفسهم ويُصلحوا أحوالهم، فيغير الله ما بهم ويأخذ بأيديهم ويعينهم.

وهذا يعني أنه متى تأخر نصر الله عز وجل مع الحاجة الماسة إليه فإن هناك أسبابا في تأخره ولا شك. ومن أهم هذه الأسباب أن الذين يبحثون عن نصر الله تعالى لم يغيروا ما بأنفسهم بعد.

وحينئذ يجب أن تتوجه الجهود إلى العمل الجاد في التغيير الذي يبدأ من داخل النفس ومن داخل الصف المسلم حتى يغير الله عز وجل ما بنا وتتهيأ الأسباب الجالبة لنصر الله تعالی.

يقول الإمام ابن کثیر رحمه الله تعالى في تفسير قوله عز وجل: ﴿ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الأنفال :53]:

“يخبر تعالى عن تمام عدله وقِسطه في حكمه بأنه تعالى لا يغير نعمة أنعمها على أحد إلا بسبب ذنب ارتكبه لقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾”. (1تفسير القرآن العظيم لابن کثیر، سورة الأنفال، آية 53)

دلالة سنة تغيير النفوس

وهذه السنة الربانية ذات دلالتين في حالنا وواقعنا المعاصر:

أولاهما: أن التباين الشديد والهوة السحيقة بين الحياة الذليلة المهينة والضعف والانحسار وفقدان الثقة الذاتية مع تلقي المناهج والقيم والشرائع الغربية لتحقيق الذات واستمداد العزة، وكذلك الهزيمة النفسية التي حلت في جذر قلب الأمة اليوم. إن الفرق بين حياتنا هذه وبين الحياة العزيزة المهيمنة المستعلية القوية المتملكة لزمام العالم أجمع، تلك الحياة التي كانت تُتبَع ولا تَتبِع وتقود ولا تقاد كانت أبرز سمات عصر سلفنا الصالح.. إن كل هذا التباين الشديد بيننا وبين سلف الأمة خير شاهد ودليل على أننا غيَّرْنا ما بأنفسنا فغيَّرَ الله حالنا.

ثانيهما: أن حالنا اليوم لن يغيّره الله حتى نغيّر ما بأنفسنا من كثرة البدع والشرك بشتى صوره ـ الجلية والخفية، الظاهرة والباطنة. وكذلك التبعية الغربية النابعة من انحسار الإيمان وعدم الاستعلاء به في النفوس مع فقدان الثقة في نبع عزنا. وأيضا محو آثار المعاصي والفجور التي لبست ثوب المباح والتقدم والرقيّ، وخلعت لباس التقوى والعزة والكرامة..

مع الفرار مما سبق كله إلى إفراد الله ـ جل ثناؤه ـ بالحب والخوف والإنابة والتلقي والتوجه مع تجريد الولاء لله ولدينه ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، والشعور باستعلاء الإيمان في النفوس والثقة بهيمنة كتابنا وحاکميته المطلقة لكافة شؤون الحياة وأنه نبع العز والتمكين، وأن تكون تلك هي الراية المعلنة الخالصة من أية إضافة أو شائبة، فعند هذا يغير الله حالنا.

يقول صاحب الظلال، رحمه الله تعالی:

“إن الله تبارك وتعالى يحرّض المؤمنين على التجرد له والاتجاه إلى نصرة نهجه في الحياة، ويعِدهم على هذا النصر والتثبيت ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾ [محمد: 7-8] وكيف ينصر المؤمنون الله؛ حتى يقوموا بالشرط وينالوا ما شرط لهم من النصر والتثبيت..؟

تكاليف للنفوس

إن لله في نفوسهم أن تتجرد له، وألا تشرك به شيئا، شركا ظاهرا أو خفيا، وألا تستبقي فيها معه أحدا ولا شيئا وأن يكون الله أحب إليها من ذاتها ومن كل ما تحب وتهوى، وأن تحكمه في رغباتها ونزواتها وحركاتها وسكناتها وسرّها وعلانيتها ونشاطها كله وخلجاتها، فهذا نصر الله في ذوات النفوس.

وإن لله شريعة ومنهاجا للحياة تقوم على قواعد وموازین وقيم وتصور خاص للوجود كله وللحياة، ونصر الله يتحقق بنصرة شريعته ومنهاجه ومحاولة تحكيمها في الحياة كلها بدون استثناء فهذا نصر الله في واقع الحياة..

متى يكون للكافرين سبيل..؟

وإنه متى استقرت حقيقة الإيمان في نفوس المؤمنين وتمثلت في واقع حياتهم منهجا للحياة ونظاما للحكم وتجردا لله في كل خاطرة وحركة وعبادة لله في الصغيرة والكبيرة، فلن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا.. وهذه حقيقة لا يحفظ التاريخ الإسلامي كله واقعة واحدة تخالفها.. ونحن نقرر في ثقة بوعد الله لا يخالجها شك أن الهزيمة لا تلحق بالمؤمنين، ولم تلحق بهم في تاريخهم کله، إلا وهناك ثغرة في حقيقة الإيمان ـ إما في الشعور وإما في العمل ـ ومن الإيمان أخذ العدة وإعداد القوة في كل حين بنية الجهاد في سبيل الله، وتحت هذه الراية وحدها مجردة من كل إضافة ومن كل شائبة. وبقدر هذه الثغرة تكون الهزيمة الوقتية ثم يعود النصر للمؤمنين. حين يوجدون..

ففي “أُحُد” مثلا كانت الثغرة في ترك طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وفي الطمع في الغنيمة، وفي “حُنيْن” كانت الثغرة في الاعتزاز بالكثرة والإعجاب بها ونسيان السند الأصيل، ولو ذهبنا نتتبع كل مرة تخلف فيها النصر عن المسلمين في تاريخهم لوجدنا شيئا من هذا، نعرفه أو لا نعرفه. أما وعد الله فهو حق في كل حين.. نعم إن المحنة قد تكون للابتلاء؛ ولكن الابتلاء إنما يجيء لحكمة هي استكمال حقيقة الإيمان ومقتضياته من الأعمال. فمتى اكتملت تلك الحقيقة بالابتلاء والنجاح فيه جاء النصر وتحقق وعد الله عن يقين..

ويجب أن نفهم أن الهزيمة هي هزيمة الروح وکلال العزيمة.. فالهزيمة في معركة لا تكون هزيمة إلا إذا تركت آثارها في النفوس همودا وكلالا وقنوطا، فأما إذا بَعثت الهمة وأذكت الشعلة وبصَّرت بالمزالق وكشفت عن طبيعة العقيدة وطبيعة المعركة وطبيعة الطريق؛ فهي المقدمة الأكيدة للنصر الأكيد والله سبحانه يقول: ﴿وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ [النساء: 141] وإنما يشير سبحانه إلى أن الروح المؤمنة هي التي تنتصر والفكرة المؤمنة هي التي تسود. وإنما يدعو سبحانه الجماعة المسلمة إلى استكمال حقيقة الإيمان في قلوبها تصورا وشعورا، وفي حياتها واقعا وعملا.. وألا يكون اعتمادها كله على عنوانها؛ فالنصر ليس للعناوين وإنما هو للحقيقة التي وراءها.. وليس بيننا وبين النصر في أي زمان وفي أي مكان إلا أن نستكمل حقيقة الإيمان ونستكمل مقتضيات هذه الحقيقة في حياتنا وواقعنا كذلك.

ومن حقيقة الإيمان أن نأخذ العدة ونستكمل القوة. ومن حقيقة الإيمان ألا نركن إلى الأعداء وألا نطلب العزة إلا من الله.

ووعد الله هذا الأكيد يتفق تماما مع حقيقة الإيمان وحقيقة الكفر في هذا الكون، إن الإيمان صلة بالقوة الكبرى التي لا تضعف ولا تفنى، وإن الكفر انقطاع عن تلك القوة وانعزال عنها، ولن تملك قوة محدودة مقطوعة منعزلة فانية أن تغلب قوة موصولة بمصدر القوة في هذا الكون، غير أنه يجب أن نفرق دائما بين حقيقة الإيمان ومظهر الإيمان..

إن حقيقة الإيمان قوة حقيقية ثابتة ثبوت النواميس الكونية ذات أثر في النفس وفيما يصدر عنها من الحركة والعمل. وهي حقيقة ضخمة هائلة كفيلة حين تواجه حقيقة الكفر المنعزلة المبتوتة المحدودة أن تقهرها.. ولكن حين يتحول الإيمان إلى مظهر فإن حقيقة الكفر تغلبه إذا هي صدقت مع طبيعتها وعملت في مجالها؛ لأن حقيقة أي شيء أقوى من مظهر أي شيء، ولو كانت هي حقيقة الكفر وكان هو مظهر الإيمان..!

إن قاعدة المعركة لقهر الباطل هي “إنشاء الحق“. وحين يوجد الحق بكل حقيقته وبكل قوته يتقرر مصير المعركة بينه وبين الباطل مهما يكن هذا الباطل من الضخامة الظاهرية الخادعة للعيون ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ﴾ [الأنبياء : 18].

والنصر الأخير مرتبط بالنصر الأول، فما يتحقق النصر في عالم الواقع إلا بعد تمامه في عالم الضمير، وما يستعلي أصحاب الحق في الظاهر إلا بعد أن يستعلوا بالحق في الباطن ..

إن للحق والإيمان حقيقة متی تجسمت في المشاعر أخذت طريقها فاستعلنت ليراها الناس في صورتها الواقعية. فإذا ظل الإيمان مظهرا لم يتجسم في القلب، والحق شعارا لا ينبع من الضمير، فإن الطغيان والباطل قد يَغلبان؛ لأنهما يملكان قوة مادية حقيقية لا مقابل لها ولا كفاء في مظهر الحق والإيمان.

يجب أن تتحقق حقيقة الإيمان في النفس وحقيقة الحق في القلب، فتصبحان أقوى من حقيقة القوى المادية التي يستعلي بها الباطل، ويصول بها الطغيان. (2طريق الدعوة في ظلال القرآن، ص248)

مراجعة واقعنا ونفوسنا

في ضوء هذه الحقائق وتلك السنن يجب مراجعة واقعنا ونفوسنا. ومن ثم نحدد طرق الإصلاح التي لا بد أن تبدأ بالنفوس والقلوب وتمر بالأقوال والأعمال وتستقر في عالم الواقع والمجتمعات بإنشاء أوضاع وأنظمة جديدة تقيم الدين وتدعو الى الخير.

…………………………….

الهوامش:

  1. تفسير القرآن العظيم لابن کثیر، سورة الأنفال، آية 53.
  2. طريق الدعوة في ظلال القرآن ، ص248.

المصدر:

  • فضيلة الشيخ/ عبد العزيز الجُليّل، “وإذا قلتم فاعدلوا” المجلد الأول، ص208-222.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة