قد ييأس البعض أو يُحبط أو ينحرف عن الطريق بسبب تأخر النتيجة المرجوة له في الدنيا؛ بينما ثمة فرق بين نوعين من النصر لو فرّق بينهما لوضحت له الأمور واطمأنت نفسه.

مقدمة

النصر مضمون لهذا الدين ومن تمسك به؛ وليس لفلان أو فلان أو بفلان. وقد فهم المسلمون هذه الحقيقة منذ عهد الرسول، صلى الله عليه وسلم، فجاهَدوا وضحُّوا بأنفسهم وأموالهم وأعراضهم وأوقاتهم؛ فصبروا لكل ما لاقوه وما واجهوه من لأواء: ﴿فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾ (الأحزاب : 23).

بين النصر الفردي والجماعي

وقد فرّقوا بين نصر الفرد الذي يتحقق بموت الإنسان على الطاعة فيفوز بالجنة فتجده يقول: «لئن عشت حتى آكل هذه التمرات؛ إنها لحياة طويلة». (1مسلم: (3520))، و«موتوا على ما مات عليه ؛ إني لأجد ريح الجنة دون أُحُد». (2جوامع السيرة: 1/ 162)، وإذا أصيب قال: « فزت ورب الكعبة». (3عيون الأثر: 2/ 18)، أو ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾ (طه: 84) ويحكونها شعراً كقول قائلهم :

ولستُ أبالي حين أُقتَل مسلماً      على أي جَنْبٍ كان في الله مصرعي

وذلك في ذات الإله وإنْ يشاءْ      يباركْ على أوصال شِلوٍ مُمَزعِ (4عيون الأثر: 2/ 12)

وبين النصر الجماعي الذي هو انتصار الدين والدعوة والمبادئ؛ وإن مات الداعية أو قُتِل، كما في موت النبي، صلى الله عليه وسلم، في وقت عصيب ارتدت فيه العرب وذَهَل الأصحاب فوقف أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، يبيِّن حقيقة هذا الدين؛ فقال: «إنه من كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ومن كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات». (5البخاري: (1165))؛ فالنصر مربوط بالدين والمبادئ والطاعة وليس بشيء آخر؛ وحينما تردد المسلمون في غزوة مؤتة لما بلغهم أن عدد جيش العدو مائتا ألفٍ وقف عبد الله بن رواحة، رضي الله عنه، يقول: «أيها الناس إننا لا نقاتل الناس بعدد ولا عدة؛ وإنما نقاتلهم بهذا الدين، وإن التي منها تهربون للتي خرجتم تطلبون: النصر أوالشهادة ، فسيروا على بركة الله». (6جوامع السيرة: 1/ 221)

وكتب عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، إلى سعد بن أبي وقاص، رضي الله عنه، وهو في القادسية، فقال له: «كن من المعصية أحذرَ منها من العدو؛ فإننا لم ننتصر إلا بطاعتنا لله ومعصيتهم له؛ فإن تساوينا وإياهم بالمعاصي تفوقوا علينا بالعدد والعدة».

وحينما أدرك أن بعض الغوغاء قد اغترُّوا بخالد بن الوليد، رضي الله عنه، بيَّن بالتجربة العملية التي لا تقبلها العقول المادية أن النصر لهذا الدين وليس لخالد أو غيره فعزله في أوج انتصاراته في موقعة اليرموك، وهي ظاهرة أممية فريدة اختص بها هذا الدين. لقد عُزل خالد بن الوليد؛ فهل توقفت الانتصارات..؟

وقد ظلت هذه الحقيقة واضحةً في أذهان المسلمين في مختلف العصور؛ فهذا نور الدين زنكي المعروف بنور الدين الشهيد لَمَّا قيل له: لا تخاطر بنفسك فلا يقوم للدين بعدك قائمة قال: «هذه إساءة أدب مع الله تعالى، ومَن حفِظ الدين قبل نور الدين..؟» وكان كثيراً ما يردد «الفضل لله وحده». (7ينظر: الموسعة الميسرة في التاريخ الإسلامي، إعداد فريق البحث والدراسات الإسلامية، تقديم راغب السرجاني)

فالنصر لهذا الدين حتميٌّ حتى يدخل إلى كل بيت، ويبلغ ما بلغ الليل والنهار.

حقيقة النصر

النصر الفردي

وهو يتمثل في رضى الله والفوز بالجنة والنجاة من النار كما قال تعالى: ﴿فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ﴾ (آل عمران: 185). وهذا قد يتحقق للإنسان المؤمن في عهد الاستضعاف، أو في عهد الاستخلاف في ظل حكم الفراعنة والطغاة، أو في ظل حكم الرسل والخلفاء الراشدين؛ فالرسل ـ إلا القلة من بني إسرائيل ـ عاشوا مستضعفين ولم يؤمن لبعضهم إلا الرجل أو الرجلان أو الرهيط، وقد يأتي النبي وليس معه أحد؛ فامرأة فرعون ومؤمن آل فرعون ومؤمن آل ياسين وغيرهم كثير دخلوا الجنة في ظل حكم الطغاة، وكَم من المنافقين والمرتدين واليهود والنصارى يدخلون النار في ظل الحكم الإسلامي.

وما كان الله ليضيع عمل عامل، والجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان.

إذاً اتضح أن حقيقة النصر الفردي هو هذا.

فهو لن يتحقق إلا بالعبادة والثبات والعمل من دون يأس، كما قال الله تعالى: ﴿وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ (آل عمران: 146)، ولن يتوقف حتى يلقى المسلمُ الله ويحطَّ رحاله في الجنة كما أمر الله سبحانه في قوله: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ﴾ (الحجر: 99)، والنبي، صلى الله عليه وسلم، يقول: «إنما الأعمال بالخواتيم». (8البخاري: (6117))

وإلا فقد يُخشَى على الإنسان أن يكون ممن قال فيه النبي، صلى الله عليه وسلم: «إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها..». (9البخاري: (2969)، ومسلم: (4781))

أما نصر الدعوة

فيتمثل في انتصار المبادئ والقيم والعقائد والأخلاق ولا علاقة بين انتصار الدعوة وانتصار الفرد؛ فالدعوة قد تنتصر بموت الداعية.

والأمثلة على ذلك كثيرة؛ منها الغلام المؤمن ـ كما في صحيح مسلم في تفسير سورة «البروج» ـ الذي قُتِل وانتصرت الدعوة حينما قال الغلام للطاغية: «إنك لن تقتلني إلا إذا أخذت سهماً من كنانتي وقلت: باسم الله رب الغلام . ففعل الطاغية ذلك ، فقال الناس: آمنا برب الغلام». (10مسلم: (5327))

وقد مات الرسول، صلى الله عليه وسلم، وارتدَّ أكثر العرب، وليس في بيته شيء فخرجت زوجته تستعير الزيت للسراج، وانتصرت دعوته وبلغ الإسلام مشارق الأرض ومغاربها.

وكذلك الإمام أحمد مات في إقامته الجبرية بعد الابتلاء والمحنة وانتصرت دعوته، وهو اليوم “إمام أهل السُّنة والجماعة”.

وأيضاً شيخ الإسلام مات في سجن القلعة وانتصرت دعوته فهو اليوم لا يُعرَف إلاَّ بـ “شيخ الإسلام”، وكذلك سيد قطب الذي مات شنقاً وانتصرت دعوته فلا يوجد اليوم أحد لم يتأثر بسيد قطب ودعوته ولا يسمى إلا “الشهيد”.

إن الخطورة تأتي من الخلط بين النصر الفردي والنصر الدعوي وبين الدعوة والداعية.

قال الله تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾ (آل عمران: 144)، وقد اضطر الصِدِّيق، رضي الله عنه، بعد موت النبي، صلى الله عليه وسلم، حينما رأى اضطراب الناس وحيرتهم وصدمتهم إلى أن يقول: «من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت»؛ ثم تلا الآية: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾ (آل عمران: 144).

وقد اضطرب أمر المسلمين في “أُحُد” لَمَّا أشيع أن رسول الله قد مات فقعدوا بسبب خلطهم بين الداعية والدعوة يبكون حتى مرَّ بهم سعد بن الربيع، رضي الله عنه، فقال لهم: «ما يبكيكم؟ قالوا: قُتِل رسول الله. قال: فما قيمة الحياة بعده؟ موتوا على ما مات عليه ثم استقبل الصفوف وهو يقول: والله إني لأجد ريح الجنة دون أحد!». (11البخاري: (3742))

وقد حرص النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، على التأكيد على أن النصر مرتبط بالدين والدعوة وليس بفلان أو فلان؛ فقال في حديث خباب بن الأرت: «والذي نفس محمد بيده! لَيُتمّن الله هذا الأمر..»، فلم يسمِّ نفسه أو أصحابه إنما نسب النصر لله، ورفض رفضاً قاطعاً الخلط بين الفرد والسلطة وبين الدين والدعوة حينما عرضت عليه قريش الملك والمال والجاه؛ فقال: «والله! لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أَهلِكَ دونه». (12سيرة ابن هشام: 1/ 266)

وحينما عرض الإسلام على بحيرة بن فراس شيخ بني عامر فتفرس الرجل في وجه النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: “لو ملكت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب، فقال للنبي، صلى الله عليه وسلم: نبايعك على أن يكون لنا الأمر من بعدك. فقال له: «الأمر لله يضعه حيث يشاء»”. (13سيرة ابن هشام: 1/ 424)

خاتمة

إن الخطأ في إدراك حقيقة النصر وأن هناك فرقاً بين نصر الفرد ونصر الدعوة هو السبب في تسرُّب اليأس والتذمر والشكوك إلى نفوس كثيرٍ من الشباب المسلم الذي كان ذات يومٍ كله تفاؤلاً وحماساً وحركة، وكان يفيض أملاً وثقة بمستقبل الإسلام وانتصار المسلمين وقيام الخلافة الراشدة كما أنه السبب في إخفاق وتعثُّرِ وفشل كثيرٍ من الحركات الإسلامية الدعوية.

وهذا الخطأ هو فهم الشباب أن النصر هو الوصول إلى السلطة ووصول قادة الجماعة ودعاتها إلى سدَّة الحكم أو ما أشبه ذلك، وهو ما أدى إلى خطأ آخر هو الخلط بين الأهداف الغائية والأهداف المرحلية «المتغيرة»؛ فالهدف الغائي الثابت هو «رضا الله والجنة».

والأهداف المرحلية المتغيرة التي هي وسيلة الوصول إلى الهدف الغائي؛ لأن الدنيا كلها وسيله للآخرة.

وهذه لفتة لطيفة مهمة للعباد الذين يجعلون العبادة غاية، أو لبعض طلاب العلم الذين يجعلون العلم غاية، أو لطلاب الدنيا الذين يجعلون الدنيا غاية، وللحزبيين الذين يجعلون الوصول للسلطة غاية، حتى يعرفوا أهمية التوازن في حياة الإنسان المسلم فيؤدون لكل ذي حق حقه؛ لذلك كان من اللازم بيان حقيقة النصر.

إن النصر حتميٌّ في اعتقاد كل مسلم موحِّد، ولكن هذا النصر له شروط وأسباب لا يمكن أن يتحقق بدونها.

………………………….

هوامش:

  1. مسلم: (3520).
  2. جوامع السيرة: 1/ 162.
  3. عيون الأثر: 2/ 18.
  4. عيون الأثر: 2/ 12.
  5. البخاري: (1165).
  6. جوامع السيرة: 1/ 221.
  7. ينظر: الموسعة الميسرة في التاريخ الإسلامي، إعداد فريق البحث والدراسات الإسلامية، تقديم راغب السرجاني.
  8. البخاري: (6117).
  9. البخاري: (2969)، ومسلم: (4781).
  10. مسلم: (5327).
  11. البخاري: (3742).
  12. سيرة ابن هشام: 1/ 266.
  13. سيرة ابن هشام: 1/ 424.

المصدر:

  • د. محمد أحمد عبد الله الزهيري، مجلة البيان، العدد : 274.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة