توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات هو المقتضِي لتوحيد الألوهية، وهو يثمر أعمالا قلبية، ويستلزم ظاهرا وأعمالا لموافقة أمر الله والتوجه اليه وحده.

أثر التوحيد والإيمان

في الجزء الأول أوضح الكاتب قيمة العلم وطرق اكتسابه وطرق نشره، وبيان بداية رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بالتوحيد لتقرير وحدانية الجهة التي يجب تلقي الشرائع منها كما يجب توحيد التوجه اليها بالعبادة..

وفي الجزء الثاني أوضح أن الدين حزمة واحدة، وأن الإيمان “قول وعمل” وأن لقول “لا إله إلا الله” فرائض تفرضها وواقعا تنشئه، وأن جهد الرسل كان لتغيير واقعي شامل وعميق وليس لمجرد أداء بعض “الطقوس” أو “التعبدات” بل لإعادة ترتيب الحياة وفق منهج الله تعالى.

وفي هذا المقال يوضح أثر توحيد الربوبية، وأثر توحيد الأسماء والصفات.

توحيد الله عز وجل في ربوبيته

جاء القرآن المكي موضحا لنوع آخر من التوحيد هو توحيد الربوبية، ومن مقتضياته أن الإحياء والإماتة، والرزق والنفع والضر وتدبير شؤون الخلق، والتشريع من تحليل وتحريم، من خصائص رب العالمين.

وقد أفصح القرآن المكي عن ذلك في مواضع كثيرة.

من ذلك قوله تعالى: ﴿لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۖ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ﴾ (الدخان:8).

وقوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ﴾ (الإسراء:30).

وقوله تعالى: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ (الأعراف:54).

وقوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۖ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ۖ مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ (يونس:3).

وقد بين القرآن الكريم أن العلة في اتخاذ اليهود والنصارى أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله هي بما أعطوهم من حق التشريع في التحليل والتحريم وأطاعوهم فيه، كما في قوله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا ۖ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ (التوبة:31).

وقد علَّم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أصحابه تجريد هذا النوع من التوحيد، فنفوا حِسّا وواقعا  كل ما يضاد توحيد الربوبية من اعتقاد متصرف مع الله عز وجل في أي شيء من تدبير الكون، حيث استقر في قلوبهم إلى درجة اليقين أن الله عز وجل هو المحيي المميت، وأنه هو الضار النافع، وأنه هو الرزاق ذو القوة المتين، وأنه هو المدبر المشرع بيده كل شيء.

كما رسخ في قلوبهم بفعل التوجيهات القرآنية والنبوية أن المخلوقات البشرية إن هي إلا أدوات لقدر الله، وأنها حين تضره فهي تضره بشيء قدره الله له، وحين تنفعه فإنما تنفعه بشيء قد كتبه الله له، فلا ملجأ ولا منجا من الله إلا إليه.

آثارٌ عمليةٌ للعقيدة

“وحين كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يعلّم أصحابه هذه العقيدة ويربيهم عليها، إنما كان ينشئ بقدر الله ذلك اليقين القلبي الذي ينبثق منه السلوك العملي.

فليست العقيدة مفهوما معرفيا ذهنيا تستوعبه الأذهان وكفى، إنها على هذا على النحو لا تصنع شيئا في عالم الواقع، كالفلسفة في الأبراج العاجية لا تغير شيئا في واقع الناس، إنما هي عقيدة ترسخ وترسخ حتى تصبح يقينا قلبيا تنطلق على هداه مشاعر القلب، ويجري بمقتضاه السلوك العملي للإنسان”. (1)

وبهذه الصورة الناصعة آتت العقيدة ثمارها المباركة في مواقف الصحابة وهديهم؛ فلم يخشوا إلا الله، ولم يتوكلوا إلا عليه، ولم يلتجئوا إلا إليه، وصدعوا بالحق في وجه الباطل لا يخافون لومة لائم؛ لأنهم علموا حق العلم أن كلمة الحق لا تقدم أجلا  ولا تؤخر رزقا.

ترى كم يحتاج الشاب المسلم الذي يعمل في حقل الدعوة من جلسة علمية ودرس وموعظة وتوجيه ليرسخ في قلبه إلى درجة اليقين أن الأرزاق والآجال بيد الله وحده، فهو المحيي المميت، وهو الضار النافع، وهو المعطي المانع، وهو الذي بيده مقاليد كل شيء، ذلك أن  كثيرا من المسلمات العقدية تبقى بدهيات ذهنية تستقر في وقت السلم والأمن في الشعور، ولكنها تهتز إذا تعرضت للشدة ومحك الاختبار؛ لأنها ليست عميقة الجذور، ولم تعد يقينا قلبيا بمفعول التربية.

توحيد الله عز وجل في أسمائه وصفاته

وكذلك جاء القرآن المكي مقررا لتوحيد الأسماء والصفات؛ فغالب الآيات تُختم بصفات الله تعالى وأسمائه الحسنى، لتأكيدها وترسيخها في النفوس، كي يعبد الله عز وجل بمقتضاها.

مثل ذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ (الفرقان:6)، وقوله تعالى: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ۚ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾ (الأنعام:18)، وقوله تعالى: ﴿فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ (الأنعام:96).

ولما كان لتوحيد الأسماء والصفات شأن عظيم وأثر كبير في النفوس والقلوب، ولا يصح  إيمان عبد إلا بإيمانه بأسماء الله وصفاته، فقد أمر الله عز وجل عباده أن يدعوه بها ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ (الأعراف:180).

كما أمرهم أن ينزهوه عن مشابهة المخلوقين وعن تأويل صفاته وتحريفها، وأن يؤمنوا بصفات جلاله ونعوت كماله كما جاءت في كتابه الكريم بلا كيف، كما في قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ (الشورى:11)، وقوله تعالى: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ (طه:110).

وهنالك بُعد آخر في فهم الأسماء والصفات، وهو فقهها والشعور بآثارها القلبية والتعبد لله عز  وجل بها، وتحقيق ما تقتضيه من فعل المأمورات وترك المنهيات اقتداء برسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله عنهم الذين تعلموا منه الإيمان والعمل؛ فعن جندب بن عبد الله رضي  الله عنه قال: «كنا مع النبي، صلى الله عليه وسلم، ونحن فتيان حزاورة(2) فتعلّمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيمانا». (3)

فنظروا إلى كل اسم من أسماء الله بأن فيه حقا من العبودية لله عز وجل على العباد يتعبدون لله سبحانه وتعالى. وهذا جلي وواضح من سيرهم ومواقفهم وأعمالهم. (4)

ثمرات معرفة أسماء الله تعالى وصفاته

ويذكر ابن القيم رحمه الله مقتضيات هذه العبودية وآثارها بقوله:

“لكل صفة عبودية خاصة هي من موجَباتها ومقتضياتها أعني من موجبات العلم بها والتحقق بمعرفتها، وهذا مطرد في جميع أنواع العبودية التي على القلب والجوارح؛ فعِلْم العبد بتفرد الرب تعالى بالضر والنفع، والعطاء، والمنع، والخلق والرزق، والإحياء والإماتة؛ يثمر له عبودية التوكل عليه باطنا ولوازم التوكل وثمراته ظاهرا.

وعلمه بسمعه تعالى وبصره وعلمه وأنه لا يخفى عليه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وأنه يعلم السر وأخفى ويعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور؛ يثمر له حفظ لسانه وجوارحه وخطرات قلبه على كل ما لا يرضي الله، وأن يجعل تعلق هذه الأعضاء بما يحبه الله ويرضاه؛ فيثمر له ذلك الحياءَ باطنا ويثمر له اجتناب المحرمات والقبائح.

ومعرفتُه بغناه وجوده وكرمه وبره وإحسانه ورحمته توجب سعة الرجاء، ويثمر له ذلك من أنواع العبودية الظاهرة والباطنة بحسب معرفته وعلمه.

وكذلك معرفته بجلال الله وعظمته وعزه يثمر له الخضوع والاستكانة والمحبة.

فرجعت العبودية كلها إلى مقتضى الأسماء والصفات”. (5)

ويقول ابن بطال رحمه الله عن طريقة العمل بالأسماء والصفات:

“فليمرّن العبد نفسه على أن يصح له الاتصاف بها”. (6)

هكذا تَربى الجيل الفريد

ومن هذا يتبين أن المقصود من توحيد الأسماء والصفات ليس مجرد المعرفة الذهنية فحسب، وإنما الغاية منها أن نحققها علما وعملا، ونفهمها كما فهمها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام لفظا ومعنى، وتعبّدوا الله تعالى بها، وعملوا بمدلولها في واقع الحياة. (7)

وهكذا تربى الجيل الأول رضوان الله عليهم؛ على تعلم وفهْم صفات الله وأسمائه الحسنى؛ فعبدوه بمقتضاها، وعرفوه حق معرفته، وقدروه حق قدره، فملئت قلوبهم بتعظيمه وإجلاله، والخضوع له، والتذلل لعظمته وكبريائه، واستشعار مراقبته في كل الأوقات، فأصبح رضاه سبحانه وتعالى غاية قصدهم ونهاية آمالهم.

………………………….

هوامش:

  1. محمد قطب، واقعنا المعاصر.
  2. غلام حزور: إذا قوي واشتد، أبو البقاء العكبري، المشوق المعلم، ج1،ص190.
  3. أخرجه ابن ماجه في السنن، رقم61، وقال المحقق: في الزوائد: إسناده صحيح، ج1، ص23.
  4. انظر على سبيل المثال: الحلية لأبي نعيم، وسير أعلام النبلاء للذهبي، والإصابة لابن حجر العسقلاني.
  5. ابن القيم، مفتاح دار السعادة، ج2، ص95.
  6. ابن حجر، الفتح، ج11 ص229.
  7. عبد العزيز الجليل : إن ربك حكيم عليم، ص11.

لقراءة الدراسة كاملة على الرابط:

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة