من الطرح النظري وبيان الخطوط العامة للمشروع السُني، الى الطرح العملي والخطوات المقترحة للنقاش بين أولي الألباب، وذلك للخروج بالأمة من مأزقها.

مناهج التغيير

تباينت مناهج التغيير التي انتهجتها الجماعات الإسلامية وتنوعت أشكالها وخاضت جميعها تجارب متعددة نجحت فيها أحيانًا وأخفقت أخرى كما هو حال التجارب البشرية، ولكن تبقى دائمًا ضرورة المراجعة والتقييم والتقويم، وكمساهمة في هذا الباب أطرح رؤية قابلة ـ فيما أحسب ـ أن تستفيد منها الحركة الإسلامية بكافة توجهاتها حيث يشترك الجميع في أسسها التي تقوم على التربية الدائمة وفق منظور الإعداد الشامل.

وهي رؤية أفترض أنها لا تتعارض مع اختيارات الجماعات الإسلامية، ومن باب أوْلى يمكن للمستقلين من الإسلاميين أن يستفيدوا من هذه البرامج والخطط والله الموفق لكل خير والمعين عليه.

يرتكز المشروع الإسلامي المنشود ـ كما سبق في الدراسة التأصيلية للمشروع ـ على ثلاثة مرتكزات: القيادة والمنهج والجماعة، وسأطرح هنا بعض البرامج والخطط العملية لتحقيق الصورة المنشودة لهذه المرتكزات الثلاث.

الخطوط العريضة للأهداف المراد تحقيقها من هذه الدراسة

  • تبليغ دعوة الإسلام إلى العالم .
  • جمع الذين استجابوا للدعوة على الإسلام، وتثقيفهم به، وتربيتهم عليه أفرادًا وجماعات، وتأهيلهم لحمله، وتنظيم جهودهم في العمل له، والجهاد من أجله.
  • مواجهة التحدي الحضاري الحديث الفكري والاجتماعي والاقتصادي والسياسي والخُلُقي، وإثبات وجود الإسلام في حياتنا وفي العالم على مستوى العصر وحاجات العصر.
  • إقامة الحياة الإسلاميّة والحكم الإسلاميّ على مستوى الأفراد والمجتمعات.

والأداة الأساسية التي نبني بها الفرد والمجتمع هي التربية، وكل ما عداها يستند إليها؛ فالبدايات دائماً تربوية، لأن التربية عمود فسطاط العمل الإسلامي فالمنهج التربوي الذي يتربى عليه المسلم هو الذي يحدد اختياراته وتوجهاته مضمونًا وأسلوبًا.

التربية المتكاملة

متمثلة في تربية رسول الله لأصحابه واستلهام هَدْيه..

الأول: “منهج التربية”

وهو يرتبط بالمفاهيم التي ستزرع في قلب وعقل المتربي لتثمر سلوكًا صحيحًا وسيوضح المقصود منها في الفقرة القادمة باسم “المفاهيم”.

والثاني: التربية بالقدوة

فالتربية “بالقدوة” من خير وأهم وسائل التربية ومن يتربى سيتشرب من صفات وسمات المربي قبل أن يتربى على مقالاته وكلامه.

أهم ملامح هذه التربية المنشودة

ولا بد في هذه المناهج من الشمول، والتنوع في الأساليب، ومراعاة الفروق، والتربية في قلب الحدث، والتربية الراسخة للثبات، ولا بد من تربية الذات وتربية المربي.

القيادة والإدارة الجماعية

يقوم منهج الإعداد والتغيير على جوانب أربعة: قيادة جماعية، وبناء صحيح للمفاهيم، والتكامل، والإعداد الشامل:

فلا بد لكل عمل من قيادة تسوسه وتتخذ القرارات، قيادة تعلم ماهية القيادة فتستطيع تعرية العدو، وجمع الناس على كلمة سواء للتصدي له في كل المجالات، ولهذا  على الإدارة أن تمتلك أفكارًا محددة وحلولًا واضحة تستطيع بها، تفتيت صورة الطغيان الأرضي على سلطان الله في عقول جماهير الأمة وبث الأمل في وجوب وإمكانية التغيير للأفضل ثم تقودهم للعمل لإحداث هذا التغيير.

وفكرة إنشاء تجمع قيادي لأهل السنة ليست جديدة تماماً فقد جربت قبل الآن وبعضها لا يزال قائماً، لكن دورها لا يظل محدودًا لا يتناسب مع التحديات التي تواجهها الأمة بسبب الأمراض التي تجذّرت في العمل الإسلامي (كالرسمية، والحزبية، والوطنية)، إضافة إلى شراسة المشروعات المعادية للإسلام.

ولكي تنجح الفكرة لا بد لها من أن تقوم بخطوات أساسية:

المفاهيم

فهم الإسلام فهماً صحيحاً عقيدة وشريعة وسلوكاً كما أراده الشارع، والهدف من بيانها هو إعادة فهم القضايا الشرعية مستنبطًا من الوحيين؛ الكتاب والسنة، ويؤيده فعل السلف الصالح.

ما الحاجة الآن إلى المفاهيم

تصبح الحاجة إلى المفاهيم الشرعية أشد ما تكون حين تختلط الأمور، ويقع الناس في حال من التيه فلا يميزون بين الحق والباطل ولا بين من يتكلم بهما، بدءً بالالتباس الذي يتعلق بفهم الأصل الأصيل في الإسلام وهو مفهوم “لا إله إلا الله”..

حيث انحسر إلى القول باللسان وإخراج العمل من الإيمان كحال المرجئة، أو تحويل التكاليف الشرعية إلى مدائح وأضرحة وأوراد بدعية كحال الصوفية، ونهايةً بالانحراف السلوكي الهائل الذي يجد دائماً تبريرًا بسبب فصله عن الإيمان وتحويله إلى عادات؛ فيرى الكذب والخداع والرشوة والسرقة أمورًا هامشية لا تؤثر ما دام يقول “لا إله إلا الله” بلسانه؛ مما أحدث فراغاً هائلاً في فهْم حقيقة الإسلام وفتح الباب على مصراعيه لغزو الأفكار والمذاهب المنحرفة والغرق في الشبهات والشهوات.

ومن المفاهيم الغائبة مفهوم “الجماعة” بمعناها الشرعي؛ فتجد أن بعض الجماعات الدعوية وهي جزء من الجماعة الأم “جماعة المسلمين” حوّلت عمليًا الانتماء لها إلى غاية تبذل كل الجهود للوصول لها للاستكثار.

ولهذا فنقطة البدء هي تصحيح المفاهيم وإزالة الجهالة من الأمة.

أحوال الناس في الفهم والقصد

والناس في الفهم والقصد أربعة أنواع:

الأول: من صح فهمه وساء قصده، وهم علماء الضلال، وتجار الدين، الذين يعرفون الحق ويكتمونه، ويلبسون الحق بالباطل وهم يعلمون، وهؤلاء أشبه باليهود “المغضوب عليهم”.

والثاني: من ساء فهمه وصح قصده، وهم المتّصفون بالحماس والغيرة والصدق، مع جهل وقلة علم، مثل الخوارج وإخوانهم، وهؤلاء أشبه بالنصارى الضالين الذين عبدوا الله بالجهل فضلوا وأضلوا.

والثالث: من ساء فهمه وساء قصده، وهؤلاء هم المنافقون الذين جمعوا بين قلة العلم ومرض القلب، ويتصيدون عثرات المسلمين ويتاجرون بها، ويستثمرونها لتشويه الدين والطعن فيه.

والرابع: من صح فهمه وحسن قصده، وهؤلاء هم خير الناس وهم الذين ﴿أنعم الله عليهم﴾، الذين تعلّموا قبل أن يعملوا، فساروا على هدى وبصيرة، وجمعوا بين العلم والعمل.

التكامل

تعمل الجماعات الإسلامية كلها ـ تقريبًا ـ بشكل منفصل عن الجماعات الأخرى وذلك نتيجة للتاريخ الطويل من التركيز على الخلافات وضعف الالتفات إلى القواسم المشتركة وهي كثيرة.

والكتلة الكبرى من أبناء الحركة الإسلامية معنيّة بخطاب “التكامل” الذي يقوم على أُسس تراعي الحساسيات التاريخية والاعتداد بالأفكار التي يتبنوها ويصعب تغييرها.

ومن ثم فنقطة البداية هي طمأنة الجميع بأننا لا ندعو الى كيان جديد ولا إلى منازعة أحد وإنما إلى حوار بناء مخلص بين أبناء السفينة الواحدة التي ستغرق من أي خرْق يصيبها في أي جانب منها وأياً كان من يخرقه فإن اجتمعنا نجونا جميعًا.

ولنتذكر دائماً أن معركتنا ليست فيما بيننا وإنما بيننا اختلافات نحاول إذابتها ووضْعها في مكانها فإن أبى أصحابها إلا الاستمرار فيما هم عليه تركناهم وما هم عليه.

والتكامل هو سد جوانب النقص التي تكون في عملٍ في جماعة دعوية من جماعة أخرى قد سدت هذا الثغر أو قاربت السداد؛ فالأمة تحتاج لـ “الدعوة” و”التربية” و”التعليم” و”الجهاد” و”السياسة” و”الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، وقد يفتح الله لعبد في باب ويفتح لغيره باباً آخر.

والمقصود هو بناء مشروع كلي يركز كلٌ فيما يحسنه وتعتبر مساهمة كل منهم جزءاً من المشروع الأكبر لأهل السنة.

والتكامل يسير في أطر متعددة: فمنها تكامل الفصائل والجماعات، ومنها تكامل الأفكار، ومنها تكامل الأقطار.

الإعداد الشامل

الأمة الإسلامية أمة صاحبة رسالة عالمية، وعليها واجبات وتكاليف تتناسب ومكانتها العظيمة باعتبارها خير أمة أخرجها الله عز وجل للناس، وكثيراً ما لا تكون معاناة الأمة بسبب نقص في البسالة ولا في بذل الروح في سبيل دينها؛ وإنما بسبب النقص في وعي العاملين وقياداتهم كنتيجة لضعف التأهيل الفكري والسياسي والعلمي والإيماني؛ ولهذا نجد الحصاد هزيلاً لا يتناسب مع الأثمان الباهظة التي تدفعها الأمة، فيقطف الثمرةَ أعداؤها.

ولا يمكن للأمة أن تقوم بدورها المنوط بها ما لم تعدّ نفسها بكل ما تستطيع من جوانب القوة. وتعيش الأمة هذه الأيام حالة غير مسبوقة في تاريخها الطويل، حيث تبدو كالمريض المستسلم لمرضه دون أن يسعى لتعاطي الدواء أو الأخذ بنصائح الطبيب، فباستثناء طائفة من أبناء الصحوة الصادقين لا نكاد نرى لها حراكاً، فقد استسلمت للضعف الذي ينبغي ان يكون عارضاً.

فكان عاقبة هذا التخاذل عند البعض إدمان حالة الاستضعاف والتعامل معها لا على أنها مرحلة طارئة بل أصّلها البعض وحولها من حالة استثنائية إلى حالة دائمة مستمرة، فتركوا واجب دفع الباطل بالبيان والسنان، وقبعوا يترقبون حلولاً إعجازية دون بذل الأسباب الشرعية وكأنهم ينتظرون الطير الأبابيل، مما أتاح للطغاة الاستمرار في الإفساد وتدمير مقدرات الأمة.

لهذا يجب على الأمة أن تأخذ بالأسباب التي تقيل عثرتها وتخرجها من دائرة الاستضعاف إلى دائرة التمكين لتتحرر من أَسْر الطغاة ثم تنطلق لتحرير العالم من الكفر.

ومن ابرز الأدوات التي تحتاجها الأمة للخروج من حالة الاستضعاف هي “الإعداد” حيث أمر الله بإعداد ما نستطيع من قوة {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} (آل عمران60).

مجالات الإعداد

الإعداد الإيماني، التربوي، الإعداد النفسي، الإعداد الجسدي، الإعداد الإداري، الإعداد الأخلاقي، الإعداد الروحي، الإعداد الاجتماعي، الإعداد الإعلامي، الإعداد الأمني، الإعداد الجهادي، الإعداد السياسي، الإعداد العلمي، الإعداد الفكري، الإعداد المنهجي، الإعداد الاقتصادي.

إدراك الخطر

لا بديل أمام المسلمين إلا الأخذ بخطة مُنجية للخروج من أوضاعهم، بطريقة عاجلة لكن مدروسة وعلى بصيرة.

وثمة شرطان ضروريان اليوم، مع البصيرة والوعي المدروس.

أولهما “الاخلاص والتجرد” حتى تنتفي أسباب الشقاق والتفكك بلا سبب موضوعي.

والآخر هو “الشعور بالخطر”، حتى لا ينصرف الناس الى قضايا فرعية فضلا عن قضايا “مُتوهَّمة”..! ولا يتوانون عن الإقدام فيستبد بهم القعود والدعة والميل الى الراحة.

فمن يدرك خطر اليوم أو أدركه ولم يُخلص في انطلاقته أو أخلص ولم يمتلك الوعي الكافي؛ فلن يحدث تغيير حقيقي أو إنقاذ لأوضاعنا المستوجِبة لنفير أهل الاخلاص والبصيرة.

……………………………..

لقراءة البحث كاملا:

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة