في الجزء الأول تم إيضاح مظاهر التخلف العلمي والاقتصادي والحربي والحضاري وارتباط المجتمعات الاسلامية بجملة من الظواهر السلبية أورثتها الاستلاب الحضاري..

وفي هذا الجزء إيضاح نتائج ذلك التخلف البغيض..

نتــائج التخـلف

تنوعت المجالات التي تبدّى فيها التخلف وظهرت تجلياته السيئة، والتي عانت منه الحياة بأسرها..

أ- الغزو الخارجي

لقد أصيب العالم الإسلامي بضربات خارجية موجعة من أمم مختلفة؛ ففي العصر العباسي الثاني داهمتهم غزوات الصليبيين من الغرب ثم اجتياح المغول من الشرق. ودخلت الأمة في أحلاف ومعاهدات مريبة، خصوصا مع النصارى في الأندلس أيام دولة ملوك الطوائف(1).

وفي العصر الحديث، لم يستيقظ المسلمون إلا على وقع سنابك خيول الغزاة الأوربيين وأصوات مدافعهم، يجوبون البلاد ويعبثون بوحدة الأمة ودينها ومقدراتها، وتمزقت بلاد المسلمين على أيديهم؛ فاحتل الفرنسيون الجزائر وتونس والمغرب وسوريا، واحتل البريطانيون مصر وفلسطين والعراق والهند، واحتل الإيطاليون ليبيا، واحتل الهولنديون جاوة وسومطرة… إلى آخر ما في القائمة.

[اقرأ المزيد عن: سنن الإعداد والتدافع]

ب- تنحية الشريعة الإسلامية عن الحكم

وهذه النتيجة مترتبة على النتيجة السابقة، إذ كان من أهم أسباب مجيئ الاحتلال الأجنبي إلى بلاد المسلمين هو إلغاء العمل بشريعة الله وتنحيتها عن شؤون الحياة.

وهذه أخطر ضربة وجهت للعالم الإسلامي، حيث أصيب في صميم دينه؛ فالشريعة هي التطبيق العملي للعقيدة الإسلامية، وهي الضامن للاستقرار والأمن والعدل في المجتمعات الإسلامية.

وللعلم، فإنه لم يفكر حاكم من الحكام في بلاد المسلمين ولم يتجرأ ـ وإن بلغ من الطغيان والاستبداد ما بلغ ـ أن يحكم المسلمين بغير حكم الله، ويرفض الالتزام بمبادئ الإسلام وأحكامه.

نعم قد حصل نوع خروج على الشريعة بإدخال بعض القوانين الوضعية في وقت مبكر نسبيا في عهد السلطان العثماني سليمان القانوني الذي اشتهر بهذه التسمية بسبب تلك الفعلة المنكرة(2).

لكن في عهود الاحتلال الأوربي اتسع الخرق على الواقع، ولأول مرة تُفرض القوانين الوضعية بصفة عامة على المسلمين، وفي جميع القطاعات والميادين؛ إذ سلَّم الاستعمار الغربي مقاليد الحكم لأولئك النوابت الذين استفرغ الوسع في تنشئتهم على فكره ومنهاجه، وزرعهم شوكة في خاصرة الأمة، مبتوتو الصلة بعقيدتها، مغيّبون عن تاريخها، همهم وديدنهم تنفيذ تعاليم المستعمر في كل مجال وميدان، ينشرون الفساد في كل مكان.

قد وصفهم لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفا دقيقا: «دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها» قلت (أي الصحابي) صفهم لنا يا رسول الله، قال: «هم من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا»(3) وفي رواية: «فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنسان»(4).

الدور الخبيث لمن سُمّوا دعاة الاستنارة ورواد النهضة

وكان أول ما بدأ به هؤلاء الذين أطلق عليهم زورا وكذبا (دعاة الاستنارة ورواد النهضة) أن عملوا على تحطيم كل ما له صلة بالإسلام، إذ يعوق في زعمهم انطلاق الأمة.

وبفعل الانبهار بالفكر الغربي الذي أُشربوه حتى النخاع من ناحية، وبفعل العمالة للاحتلال من ناحية ثانية، راحوا يستجْدون أعداءنا التاريخيين ليقدموا لنا ثمرة جهودهم وسر تفوقهم على طبق من ذهب(5).

خلل حركة التنوير العلمانية

والخلل في حركة التنوير العلمانية الحديثة أنها انطلقت في رؤيتها لأزمة الأمة من وضعية الانبهار الحاد بما حقق المجتمع الأوربي الحديث من إنجازات مدنية وتنظيمية هائلة، فانكبت على دراسة التجربة الأوربية الحديثة.

وبدلا من أن تتعلق هذه الدراسة وتتأثر بالتقنية الأوربية أو بالمناهج العلمية التطبيقية أو علوم التنظيم أو التخطيط والإدارة، ونحو ذلك مما كان من أهم أسباب تقدم أوربا الحديثة، وهو الذي نجحت في البدء به أمم أخرى كاليابان مثلا، بدلا من ذلك انحرفت نحو دراسة آداب الغرب وتاريخه وفكره الديني والسياسي والاجتماعي والاقتصادي.

كل ذلك من واقع نفسي مهزوم، فاتخذوا من تجربة الغرب نموذجا كاملا… يحاكمون إليه كل ما عندهم من دين وتراث وفكر، بدلا من المقارنة والموازنة، وأخذ ما ينفع وترك ما يضر، وأغفلوا بدهية لا تخفى على من له أدنى مسكة عقل وهي: أن لكل تجربة إنسانية خصوصيتها التي تجعل من الصعب أو المحال تعديها برمتها إلى بناء إنساني آخر(6).

نتيجة التجارب المريرة

وبعد التجارب المريرة التي أجراها العلمانيون على كافة الصُعُد، أصيبت الأمة بنوع من الشلل في معظم جوانب حياتها السياسية والاقتصادية والإدارية والاجتماعية، وتوقفت عن النماء خصوصا في جوانب الإبداع العلمية، فعمّ الجهل وسادت الغفلة، واستعاض الناس بمظاهر الأشياء وصورها عن حقائقها ومعانيها(7).

وعلى صعيد الاعتقاد والتصور، انتشرت البدع والخرافات، وفي التطبيق أُميتت السنن، واستحكمت غربة الدين في نفوس أكثر المسلمين في كثير من البقاع، ولم تعد القيادة السياسية مؤهلة لتحقيق أهداف الأمة، ولا الأفراد بمدركين حجم الخطر، وخطورة التوقف والجمود، ومغبة الانحراف عن منهج النبوة، وظهر فصام نكد بين الشعور والسلوك، وبين التدين والمدنية(8).

ج- وقوع بلاد المسلمين ضحية الفوضى السياسية ونزوح الأموال

لقد أصبح العالم الإسلامي حقلا للتجارب وسوقا لتجار الشعارات من المنافقين والمرتدين؛ فالليبراليون الديمقراطيون يحلفون بأغلظ الأيمان لشعوبهم أن الخلاص على أيديهم بتقليد الغرب المتقدم، والاشتراكيون اليساريون يعِدون الشعوب بالعدالة والمساواة على يد الاشتراكية العلمية(9).

وهكذا انتشرت حمى المتاجرة بالشعارات واللافتات على طول البلاد الإسلامية وعرضها، ولا جديد إلا مزيد من التبعية للنصارى ولليهود، ومزيد من الديون على كاهل الشعوب، ومزيد من الفساد والرشوة واختلاس الأموال وتحويلها إلى الحسابات السرية في البنوك الغربية لتستفيد من استثمارها الحكومات والشركات الغربية..

بينما فرض الحكام على الأمة التقشف المسفّ، فصارت الشعوب الإسلامية تدفع الثمن باهظا بمزيد من التخلف والحرمان والظلم والفاقة.

ولولا أرصدة الأموال الإسلامية في البنوك الغربية لأعلنت الأخيرة إفلاسها، وما نزوح هذه الأموال إلا بسبب الطغيان السياسي، وعدم الاستقرار وتقييد الحريات.

وللإشارة فإن هذه الأموال النازحة، لا تمثل إلا نسبة ضئيلة من خيرات المسلمين التي استأثر بها العدو واصطفاها لنفسه، وفرض على العالم الإسلامي مختلف القيود ليضمن استمرارية تدفقها إليه(10).

[اضغط لقراءة: من عبرة التاريخ .. التفرق الذي يسبق السقوط]

د- هجرة العقول الإسلامية

إن المهاجر المسلم الذي يغرى بشتى الإغراءات المادية والأدبية لترك بلاده هو ذلك الإنسان المفكر الموهوب، الإيجابي المبدع، وتعتبر الإحصاءات الآتية دليلا على نزيف خطير في جسم الأمة بسبب هجرة الأدمغة أو العقول، كما يطلق عليها.

فحجم الظاهرة بالغ الخطر، والأرقام متكاثرة ومرعبة، ومن الناحية الإجمالية تشير الإحصائيات إلى أن 75% من العاملين في الشركات العالمية في مجال تنمية البرامج الغربية هم من العقول العربية العاملة في برامج الكمبيوتر.

وثمة إحصاءات أخرى تقول إن المصانع الكبرى في فرنسا وألمانيا تضم 80% من أصحاب المهارات الفنية من أبناء شمال إفريقيا، ومن الأتراك والأكراد ومصر ولبنان(11).

وهناك تقارير تفيد أن 8% من مجموع القوة العاملة العربية هاجرت، وأن 20% من مجموع الأطباء هم الآن خارج المنطقة، وأن 15% من خريجي الأقسام العلمية استسلموا للهجرة الدائمة، وأن 30% من الطلاب بقوا حيث هم، وأن 27 ألف عربي يحملون درجة الدكتوراه غادروا بلدانهم إلى أوربا وأمريكا، وأن هذا الرقم وصل إلى 32 ألف في عام 1420هـ (2000م)، وأن هناك 4102 عالم مسلم في مختلف علوم المعرفة في مراكز أبحاث غربية مهمة(12).

إهدار تكلفة إعداد الفرد العربي في بلاده

ومن الناحية المالية تشير الإحصائيات إلى أن مصر تتكلف 100.000 دولار لإعداد الفرد الواحد من الهاربين، وأن مصر وحدها خسرت 50 مليار دولار بسبب عمليات الهروب هذه، أي أن الغرب وعن طريق استقبال المهاجرين حصل من مصر على أكثر من ديونها له البالغة حاليا نحو 79 مليار دولار. وتشير الدراسات والأرقام أن الدول العربية تخسر سنويا 1.5 مليار دولار نتيجة هجرة حملة الشهادات العليا، والخسارة العربية الكلية فقط 200 مليار دولار، ناهيك عن العالم الإسلامي كله، وهو رقم مخيف، خسارة في الأموال وفي الطاقات والكفاءات البشرية، والله المستعان(13).

هـ – الهزائم والمذابح المتتالية

وفي كل مواجهة بين العالم الإسلامي وأعدائه ـ حتى اليهود ـ يُمْنى بهزائم نكراء ومجازر بشعة على امتداد رقعته الفسيحة في: فلسطين، ولبنان، والهند، وكشمير، والحبشة، والفلبين، والشيشان، وأفغانستان، وأخيرا العراق.

لقد أصيب المسلمون بداء الأمم (الوهْن)؛ وهو حب الدنيا وكراهية الموت، ونُزِع من قلوب أعدائهم مهابتهم، فأصبحت أمم الكفر والشرك والوثنية تتداعى عليهم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، كما قال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم. وهذا نراه الآن رؤية العين فوق كل أرض وتحت كل سماء.

[للمزيد: خسارة الأمة نتيجة غياب الهوية وفقدان التماسك الاجتماعي]

 خلاصة وخاتمة

وخلاصة القول .. إن كل هذه المظالم والرزايا والانتكاسات مما ابتُلي به المسلمون في التاريخ الحديث والمعاصر، ومما نشاهده الآن، هو من خذلان الله تعالى لهم بسبب تفريطهم في جنب الله، وتركهم هداه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والاحتكام إلى شريعته، ونبذهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وهذه سنة الله في العصاة والفاسقين، وتلك – كما بيناها – عواقب المخالفة والمعصية، وتلك أمهات الأسباب، وعوامل الخذلان ومظاهره ونتائجه، التي حاقت بالأمة الإسلامية، فانفرط عقد نظامها، وسقطت من عين الله تعالى، وهانت على عدوها يوم أن هانت في عين نفسها، والسنة: من يَخذل اللهُ يُخذل.

…………………………….

هوامش:

  1. عبد الرحمان الحجي، “التاريخ الأندلسي”: ( ص 332، 368).
  2. محمد قطب، كيف نكتب التاريخ الإسلامي، (ص182 ).
  3. البخاري، الجامع الصحيح، كتاب الفتن، ج8، (ص93).
  4. ابن حجر: الفتح، ج 13، (ص36).
  5. حسن الحميد: سنن الله في ألأمم، (ص545).
  6. جمال سلطان: جذور الانحراف في الفكر الإسلامي الحديث، (ص104-105)
  7. حسن الحميد: سنن الله في الأمم، (ص543).
  8. المرجع السابق (ص542).
  9. المرجع السابق (ص559).
  10. المرجع السابق (ص559)
  11. طلعت رميح: هروب النخب من الدول الإسلامية إلى الغرب،  مجلة البيان، عدد 185، (ص79).
  12. المصدر السابق، (ص79).
  13. المرجع السابق، (ص79).

لتحميل البحث كاملا على الرابط التالي:

اقرأ ايضا:

  1. الجزء الأول من المقال
  2.  من عبرة التاريخ .. التفرق الذي يسبق السقوط
  3. خسارة الأمة نتيجة غياب الهوية وفقدان التماسك الاجتماعي

 

 

التعليقات غير متاحة