إذا غابت الأمة عن هويتها، أو غُيّبت عنها، أو تنكرت حينا لها.. إذا ضلت عنها أو تذبذبت في شأنها، وصارعتها هويات مصطنعة.. حينها تفقد التماسك الاجتماعي وتفقد  وجودها الممثل لمنهجها ويُحال بينها وبين القيام بوظيفتها، الوظيفة التي أخرجها الله تعالى  من أجلها..

إذا ضلت أمة عن هويتها غاب الوعاء الحافظ للتنمية ولم تفلح معها مشاريع تنموية فاشلة، ولا بد أن تبقى فاشلة لأن تلك المشاريع عندئذ وَهْمٌ مصطنع؛ إذ إن الأمة الغائبة عن ذاتها لا تفلح المشاريع بل يجب أن تعود أولا..

ولهذا نسأل:

ماذا كانت نتيجة غياب الهوية الإسلامية عن الأمة؟

عند غياب الهوية الإسلامية ــ كهوية حقيقية راسخة ذات جذور ــ في بلد مسلم يحدث اغتراب (فراغ سياسي وفقدان انتماء) لضعف الاجتماع على غيرها من الهويات المستعارة لهذه الأمة وعدم قدرة هذه الهويات على ملء الفراغ الذي تركته الهوية الإسلامية وهذا يؤدي إلى:

1– حكم الأراذل

عند حدوث الاغتراب يفقد شرفاء الأمة وحكماؤها سيطرتهم على الأمة ؛ لأن المجتمع يصبح همجًا رعاعًا أتباع كل ناعق يميلون مع كل صائح نتيجة تعدد محاور الاستقطاب في الأمة فلا تجتمع الأمة حول أهل الشرف والمكانة والرأي الراجح.

بل قد تجتمع حول بعض المضللين والدجالين وأراذل الناس أو يتبعثر الناس حولهم.

2– التبعية للخارج

لقيام دول أو دويلات صغيرة نتيجة التفتيت ولانفصالها عن مشروعها الحضاري الإسلامي الكبير وهذا يؤدي إلى الدخول في التبعية للكيانات الكبيرة لملء الفراغ السياسي وحمايتها داخلياً وخارجياً لعدم وجود الرصيد الشعبي الناتج عن ضعف القواعد الشعبية وذبذبة ولاءها وقبولها لكل هوية حيث لا هوية لها.

3– الفساد

ويتولد بالضرورة مع وجود التبعية وحكم الأراذل، كما أن انتشار الفساد يدعم حكم الأراذل ويمهد للتبعية، وهذا يفسر الدائرة الخبيثة النكدة التي تحياها الأمة الإسلامية والتي تجمع بين النواتج الثلاث.

[للمزيد: الاسلام هوية تجمع الأمة]

كيفية الخروج بالأمة من هذه الحالة الحرجة الخطيرة؟

يقول بعض السلف الصالح من هذه الأمة رضي الله عنهم أجمعين:

لا يصلح أمر آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها

وقد مر بنا كيف صلح أولها وأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبائل متفرقة متناحرة متقاتلة قد تفشى فيها الظلم الاجتماعي والفساد الأخلاقي والاستبداد السياسي، ونخرت الجاهلية في بنيانهم وعقولهم حتى عبدوا الحجر والوثن.

أخرج منهم صلى الله عليه وسلم أمة ــ بل خير أمة أخرجت للناس ــ وكذلك، لتخرج ــ إلى الناس ــ الأمة من هذه الحالة الحرجة التي هي فيها إلى الأمة الخيرة لا بد من الاستنان به صلى الله عليه وسلم في:

إحياء الهوية الإسلامية

بتجريدها وقيامها على التوحيد الخالص ومنع الافتراق الديني والدنيوي وذلك بإحياء الهوية الإسلامية في قلوب أبناء هذه الأمة بتقوية الشعور الديني والانتماء للإسلام.

واستخراج هذه الهوية من اللاشعور وإزاحة ما ران عليها من الغبش وإخراجها إلى واقع الكثيرين من المنتسبين إلى هذا الدين وإقامتها على التوحيد الخالص.

وتجريدها عن غيرها من القضايا الرائجة والمصالح القومية كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوة الناس إلى التوحيد الخالص دون تبني قضايا العدالة الاجتماعية أو القومية العربية أو الإصلاح الأخلاقي لذاتها..

فحرَر هذه الهوية عن غيرها من عناصر الجذب ومحاور الاستقطاب الأخرى بين الناس.

وعندما تخلت بعض فصائل الحركة الإسلامية في بداية القرن ـ العشرين ـ عن تجريد دعوتها إلى التوحيد الخالص وتبنت القضايا الرائجة في ذلك الوقت من عدالة ــ تصنيع ــ استقلال ــ تمصير… إلخ؛ حدث قدر من الإلتباس عند الناس فلم يتضح الفرق بين الحركة الإسلامية وفصائل العمل الوطني فالكل يتبنى نفس القضايا ولكن هذا من منطلق إسلامي وذاك من منطلق وطني وليس هناك ما يمنع الناس من التجمع حول هذا أو ذاك.

فالكل منتسب إلى الإسلام ولا يطعن في إسلامهم الاتجاه نحو هؤلاء أو هؤلاء.

ونتج عن هذا اللبس وعدم الوضوح العقدي في طرح الحركة الإسلامية لقضيتها واختلاطها بغيرها ـ والذي أعطى أعداءها الفرصة لسحب البساط من تحت أقدامها بتبني هؤلاء الأعداء لنفس أهداف الحركة الإسلامية بل وتحقيقها ولو في الظاهر ـ أن فقدت الحركة الإسلامية التفاف الناس حولها وقدرتها على الاستقطاب ومكنت أعداءها من توجيه الضربات إليها تلو الضربات كخطة لحرب دين الله في الأرض، والأمة تقف مكتوفة الأيدي ولا تحرك ساكنًا ولا تدري حقيقة ما يحدث.

لذا لا بد للحركة الإسلامية من تجريد الهوية في دعوتها وطرح قضيتها دون التباسها بغيرها.

كما لابد لها أن ترتكز على التوحيد الخالص، توحيد الأئمة وسلف الأمة وما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وتوحيد أهل السنة والجماعة وليس توحيد المتكلمين وأهل البدع:

توحيد الألوهية: المتضمن والمستلزم لتوحيد الربوبية ـ بأركانه الثلاثة : من إفراد الله، سبحانه، بالحكم، وإفراده، جلَّ وعلا، بالولاء، وإفراده، تبارك وتعالى، بالنسك.

مما يمنع اشتراك اللادينية  ـ العلمانية ـ مع الإسلام في الاستقطاب بوصفها شريعة غير شريعة الله وبوصفها رابطة يجتمع عليها الناس غير رابطة الإسلام.

وبالتالي فمن رضي بالعلمانية فقد رفض شريعة الله ولا يجتمع في قلب امرئ واحد الإيمان بالله وتوحيده مع الإقرار بشرعية التمرد على الله بالرغبة عن شرع الله إلى غيره وبالرغبة عن ولاية الإسلام إلى غيرها من القوميات أو الوطنيات.

فجمعت العلمانية بين وصفين: وهما الاجتماع على غير الإسلام والانتساب إلى غير الشرع أو بمعنى آخر جمعت العلمانية بين:

  • اتخاذ غير الله وليًا ـ بالتجمع والموالاة على غير الإسلام.
  • ابتغاء غير الله حكمًا: بقبول شرع غير شرع الله والانتساب إليه وهذا القدر من الوضوح ـ من وضع العلمانية على ميزان الشرع ـ كاف لرفض العلمانية كشريعة غير شريعة الله ورابطة ولاء غير رابطة وهوية الإسلام.

وقد أدى عدم وضوح هذا المفهوم للحركة الإسلامية المعاصرة في بدايتها على سرعة انفضاض كثير من الناس عنها وتأييدها ـ بل ومساندتها ـ للأنظمة العلمانية أو على أقل تقدير: عدم رفضها ومقاومتها مع أول عرض قريب لاح لها في الأفق ومع أول مغنم غنمته ـ أو توهمت اغتنامه ـ من تحقيق بعض آمالها الوطنية من تمصير أو تصنيع أو عدالة اجتماعية أو استقلال ـ بزعم تلك الأنظمة.

كما لابد للحركة الإسلامية من إسقاط شرعية الافتراق الديني والدنيوي. وإنه لا شرعية إلا لمن كانوا على ما عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فالخوارج والروافض ومن جرى مجراهم ليس لهم شرعية تجمع أو اجتماع.(1)

[للمزيد: كيف انحرفت الأمة عن هويتها وافتقدت للتماسك الاجتماعي]

وبصفة عامة فإنه مع ملاحظة الدروس المستفادة من هديه صلى الله عليه وسلم في إخراج الأمة وملاحظة ما حدث بعد ذلك من انحراف عن هذا المنهج يتضح حاجتنا في واقعنا المعاصر إلى:

المجالات واجبة التصحيح

ينبغي صحيح المفاهيم في أربعة مجالات

المجال الأول: مجال التوحيد والعقيدة

ويترتب على هذا التصحيح ما يلي:

  • القضاء على ظاهرة الشرك:

في الحكـم والـولاء والنسـك وإخراج من أراد الله له النجاة من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد لتتحقق له النجاة الأخروية من الخلود في النار.

سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الموجبتان ؟ فقال: «من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة ومن مات يشرك بالله شيئًا دخل النار».(2)

  • إسقاط شرعية الافتراق الديني.
  • إسقاط شرعية الأنظمة العلمانية.
  • تطهير الأمة من عبادة القبور ومظاهر الشرك والبدع.

المجال الثاني: مجال مشاركة الأمة

وهذا يترتب عليه:

  • احترام حقيقي وأكثر لحقوق الإنسان وفقاً لما شرعه الله تبارك وتعالى وتكريمه سبحانه لبني آدم : ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْر﴾ [الإسراء: 70].
  • إفساح مساحة أكبر (أوسع) لنمو شخصية الفرد العادي.
  • التخلي عن أساليب القولبة والتلقين والتحول عن روح القطيع إلى روح الفريق مع تعميق الارتباط بالجماعة.
  • تحقيق مشاركة الأمة في التغيير ومشاركة الأمة بعد التمكين من خلال مشاركة أهل الحل والعقد وأهل النظر والاجتهاد ومن خلال دور الصفوة في ملئ الفراغ السياسي وتحقيق التلاحم بين الجماهير والسلطة الشرعية.
  • إسقاط شرعية الافتراق الدنيوي.

المجال الثالث: تحقيق التوازن في الخطاب الديني بين العقل والوجدان

ويترتب عليه:

المحافظة على قوة الشعور الديني مع قوة التأصيل العلمي الشرعي وقوة البصيرة الدينية لرفض: العلمانية (اللادينية)، والقومية، والتبعية لمعسكرات الشرك الدولية، وأي التباسات أخرى تطرأ على مفهوم الإسلام.

المجال الرابع: تحقيق التوازن بين عدة أمور

بين الاحتفاظ بالهدف والثبات على المبدأ، وبين ما تقتضيه الضرورات الواقعية من إعمال فقه الموازنات والأولويات ويترتب عليه:

تجريد الهوية من الالتباسات ليتحقق للإسلام هويته المستقلة التي تقوم عليها أمته المتميزة، وأن أي قدر مطلوب من التكيف مع الواقع لابد وألا يتعارض مع هذا الهدف.

نسأل الله تعالى عودة عاجلة للأمة ولدورها، وخروجا قريبا من المأزق التاريخي الذي يعيشه المسلمون.

…………………………..

هوامش:

  1. [مستفاد من: الإمام الشاطبي، الاعتصام].
  2. [رواه مسلم جـ 1 ص 52].

مراجع:

  • صحيح مسلم.
  • الاعتصام للشاطبي.
  • الطريق الى الجنة، عبد المجيد الشاذلي.

اقرأ أيضا:

  1. كيف انحرفت الأمة عن هويتها وافتقدت للتماسك الاجتماعي
  2. كيف أخرج رسول الله للناس خير أمة؟ (1-3) تحديد الهوية ومنع الالتباس
  3. كيف أخرج رسول الله للناس خير أمة؟ (2-3) أُطرٌ متعددة وهوية واحدة
  4. كيف أخرج رسول الله خير أمة؟ (3-3) دور القيم .. وأهمية التوازن

التعليقات غير متاحة