نحن مسافرون الى ربنا تعالى؛ شئنا أم أبينا. وأفضل ما يعين على سلوك الطريق إلى رب العالمين هو النظر إلى هذه الدنيا والاعتبار بها، وسؤال النفس هل هذه دار مُرضية، بحيث تَقنع بها النفس؟

وللإجابة يجب التدبر في شأنها.. فلهذا الدار أوصاف لا يجادل فيها مؤمن ولا ملحد.. ومن هذه الأوصاف أنها:

دارٌ منْقضيةٌ

فمن تدبر في شأنها وجد أنها دار ـ بطبيعتها ـ منقضية، ولها أوانٌ وللحياة أمد، ولا بد من توفية الأجل والخروج منها والرحيل عنها، لإكمال المسير؛ فهذه فقط بداية الرحلة..

فالدار بنغصها وفرحها، وبشهواتها ومُتعها وبآلامها، كلها منقضية.. ولا يماري في هذا مؤمن ولا كافر، مُقرٌ بالبعث أو جاحد له؛ لكن الفرق أن المؤمن يعد لبقية الرحلة فيستقيم، وأما الملحد الجاحد فينتهز من الشهوات بقدر ما يرتع في الدنيا، فيتسابق في عفنها بقدر الاستطاعة مسابق للموت؛ فيحيا كالبهيمة ويموت نافقًا مثلها.

فمن وجد الدار راحلة أو هو راحل عنها وهي خلف ظهره، كانت متعها إذن – بل كل ما فيها – قليل، ولهذا قال المفسرون في قوله تعالى: ﴿ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ﴾ (النّساء:77)، أن كل ما هو منقضٍ وزائل فهو قليل، كما أن كل ما هو آتٍ فهو قريب.

وانظر إلى كلمة «عمر» رضي الله عنه: «لوْ كانت الدّنيا من أوّلها لآخرها لعبدٍ، ثمّ مات لكانت حلمًا».

صفْوٌ قليلٌ

ومن نظر في مقدار مكوثه في هذه الدار وجد أن بها أفراحًا وأتراحًا، والأتراح والأحزان غالبة على المتاع، بل يعمل الإنسان كثيرًا على أمل أن يستمتع ما بقي من عمره، وقد لا يدرك المتعة؛ ويبقيها لأولاده..

وقد جاء في قصة ملك الأندلس «الملك الناصر»، وقد ملك خمسين عامًا، فوجدوا بعد وفاته كتابًا له كتب فيه أنه ما صفا لي من عيش هذه الدنيا دون كدر إلا يوم كذا عام كذا، ويوم كذا عام كذا.. فعدّوا أيامه التي تنعّم فيها، وهو ملك متوَّج على بلادٍ نعيمُها مخملي وترفُها فاحش، فوجدوها أربعة عشر يومًا خلال خمسين سنة ملكًا.. فليعتبر إذن المعتبرون.

[للمزيد عن معرفة: دور الشهوات ووظيفتها وإتلاف إطلاقها للنفوس]

كدرٌ لا بدّ منْه

ومن تدبر وجد أن ما صفا من عيشها مشوب بالكدر، يسبق تنعمها للحصول عليه، أو يعقبه، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: «ما مليء بيْتٌ فرْحةً إلّا مليء ترْحةً»(1)، يعني أن الدينا تتعاقب فيها اللذات والأحزان فإذا أتت هذه خلَفتها هذه عقبها.

بل ما من متعة في الدينا خالصة فلا بد من مشقة ما أو خشونة ما؛ إذ إنها دار ما خلقت خالصة للنعيم، ولا خلقت خالصة للشقاء، بل هي دار بُنيت على المزج بين الأمرين، أما دار الآخرة فثمة دار نعيم بلا شَوْب مشقة ولا حزن، ودار أحزان وغموم وآلام بلا تنفيس ولا راحة ولا انقطاع عذاب..

فالآخرة بنيت على الخلوص لأحد الأمرين، والدنيا بنيت على المزج والتبادل بينهما للاختبار والامتحان ولهذا أثنى تعالى على من نجح في الأمرين، فمدح الصّبّار الشكور(2).

فالدار الحالية بنيت على المزج، وغلب شقاؤها نعيمَها، وهي منقضية بالموت ومنغّصة به وبذكره، واعتبر بيوم ينادى على أحدنا قد استوفى مدة اختباره وسلم أوراقه وذهب للقاء ربه تعالى..

هناك يَنْسى

ولو سلِمَت للعبد أيامه متنعمًا لا يتنغص أو يتألم أو ينقص من نعيمه شيء أبدًا، لانتهى كل هذا في التراب فنسي في ليلة ما كان في سنوات امتدت..

تالله لوْ عاش الفتى في دهْره      ألْفًا منْ الأعْوام مالك أمْــــره
متمتّعًـا فيهـا بـكلّ نفيســـــةٍ       متنعّمًا فيهـا بنعْمى عصْــره
لا يعْتريـه السّقم فيها مـــــرّةً       كلّا ولا تـرد الهمـوم ببالـــــه
ما كان ذلك كلّــه في أنْ يفي      بمـبيت أوّل ليْلــةٍ في قبْـره(3)

منْ انْزعج فلْيرْحلْ إلى ما هو خيْرٌ

فلما كان الأمر كذلك كان الأمر مزعجًا، وكانت دارا مقلقة.. وهي كذلك؛ فقد ضرب الله تعالى لها مثالًا بانقضائها هكذا ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ﴾ يعني بسببه كثر النبات والتفّ بعضه ببعض، ﴿مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ (يونس:24).

فلما أخبر تعالى بتأقيت الدنيا وكونها لا تكتمل ولا تدوم لأصحابها وأن الآفات تكتنفها من كل جانب فلا قرار بها أو اطمئنان لها.. عندئذ أخبر تعالى بدار أخرى سلِمت من كل آفة حتى سميت دار السلام، ودعا خلقه إليها فقال بعدها: ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَىٰ دَارِ السَّلَامِ﴾ (يونس:25).

فمن انزعج من الدنيا لما رأى هذا يموت وذاك يمرض وهذا يفتقر بعد غنى وآخر يذل بعد عز وذاك يضعف بعد قوة، وكل من ارتفع إذا به يذبل يومًا وتطويه الحياة، فتضعف القوى وينكسر الجمال ويتبدد المال وتنطفيء الأضواء.

من تدبر حال الدنيا وما تصنع بأهلها انزعج ونفر منها ولم يركن إليها ولا اطمأن بها، ولا بدّ له من أن يوجه وجهه تلقاء أمرين.

  • أولهما: أن يحقق المقصود من بقائه في هذه الدار فهي لم تخلق لمجرد إزعاج الخلق بالفناء والآفات، بل لتحقيق غاية مقصودة وهي إقامة أمر ربهم ثم يكملون رحلتهم وطريقهم إليه، فمن ابتغى منها غير هذا ضيع نفسه وأضاع فرصته ولم يجد ما أراد إذ لم تخلق الدنيا للتنعم الخالص ولا الخلود.
  • والثاني: هو طلب دار البقاء والسلامة، وهي موجودة، وقد دعانا ربنا اليها؛ فهل من مجيب؟..

لا بد من إيقاف نفوسنا كثيرًا على هذا المعنى، ويجب أن نلتفت إليه ولا نصرف تفكيرنا عنه، فالتفكر عبادة عظيمة، وأخْذ العبرة من شأن العقلاء.

لا نلتفت للتحطم أو اليأس. بل عندما ننخدع ببهرجتها وزينتها لا بد أن ننظر إلى انكسارها وخداعها، وعندما تركن نفوسنا إليها لا بد أن ننفّرها منها لتكمل المسير وتعلم أن هذه ليست دار قرارها، وعندما نضعف عن العمل نوقفها على اقتراب زوال دارنا إلى دار أخرى.. ننظر لنعتبر ولننفر عن الركون ونجدّ في المسير.

[اضغط للاطلاع على: محركات القلوب في سيرها الى ربها]

نصيحةٌ عمليّةٌ

فمن أهم الأمور أن نقف طويلًا على آفاتها لبدء المسير، هذا أمر عملي لا بد أن تقوم به.. انظر إلى آفات دنياك، انظر إلى حوادث أهلها، رقق قلبك واصرفه إلى الآخرة بزيارة القبور وانظر إلى تواريخ من مات ومنذ كم هم في القبور، وانظر إلى أسمائهم، وانظر إلى غرفهم الصغيرة كم ابتلعت من أجساد وتراكمت فيها أسماء وألقاب، وأكلتهم جسدًا بعد آخر، وأكلت معهم الأحلام والأماني..

انظر إلى مصاب الناس في المشافي.. اعتبر بحال الناس من حولك ولا تنخدع بها فزينتها قليلة..

أعتذر اليك؛ لكن انظر مثلًا إلى أسماء هذه الأمراض عرضت على من يعمل في مجال الطب «سرطان الثدي، سرطان اللسان، سرطان العضو الذكري، سرطان العين، سرطان المخ…» إلى آخره، فقط انظر إلى هذه الأسماء المرعبة، هذا شلل رباعي وآخر قد يتعرض لبتر، آخر حادث يغير مجرى حياته.. وغير ذلك كثير..

لا أقول هذا لترك المال أو لترك التمتع بالطيبات على وجه شرعي، بل أقول فقط للتذكر ولعدم القرار لها أو الركون إليها أو الغفلة عن وظيفة وجودك فيها، أقول هذا لإقناع النفس بالمسير إلى الله، وجدية المسير، ولبدء المسير لمن كان متبطلًا..

إن نفوسنا صعبة وهي في أغلب أحوالها نافرة، وهذا النظر إلى الآفات يكسر طغيانها ويهديء من سوْرتها وكِبرها، ويوقظها من غفلتها، ويسهل عليها كثيرًا الانطلاق واستماع داعي الله تعالى.. بلّغنا الله وإياك.

دار أبينا ودارنا

وكلمة أخيرة أخاه.. إن هذه ليست دارنا فإن أصل موطننا الجنة، فيها عاش أبوك، ومنها أخرج، ولقد وُعد بالعودة هو وصالحو ذريته..

ولهذا قال بعض السلف:

وهلْ نحْن إلّا سبْي العدوّ فهلْ     ترى نعود إلى أوْطاننا ونسْلم؟(4)

إننا نريد العودة إلى الديار، حيث كنا، والله المبلّغ للمنزل..

[اقرأ هنا: وصية مسافر لإخوانه]

قوْمٌ مسافرون

وإذا علمت نفوسنا حقيقة الدار الحالية فزهدت فيها ونفرت عنها وطلبت دار القرار ورضوان الرب والتنعم بقربه والفوز بشرف الدرجات في الجنات فلا بد من المسير طوعًا إلى رب العالمين، وإلا فنحن مسافرون شئنا أم أبينا، ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾ (الانْشقاق: 6)؛ ولذا قال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «عِشْ في الدّنْيا كأنّك غريبٌ أوْ عابر سبيلٍ»(5).

فإن كان الأمر كذلك رغب العاقل عن الدنيا وهرب إلى حيث يستقر، وعاش بنفسية الغريب وشخصية المهاجر، المهاجر إلى الجنة، راحلًا طوعًا قبل أن يرحل كرهًا..

…………………………..

هوامش

  1. رواه ابْن أبي شيْبة في مصنّفه (34574) بلفْظ: «مع كلّ فرْحةٍ طرْحةٌ»، وكذا الإمام أحْمدٌ في «الزّهْد» (901) بلفْظ: «مع كلّ فرْحةٍ ترْحةٌ، وما ملئ بيْتٌ حبْرةً إلّا ملئ عبْرةً»، كلاهما موْقوفًا على ابْن مسْعودٍ رضي الله عنه. وأوْرده الألْبانيّ في «ضعيف الجامع الصّغير» (5263)، وقال: «ضعيفٌ».
  2. راجعْ «الموافقات» للشّاطبيّ (2/44).
  3. منْ قصيدةٍ نسبتْ لأبي يوسف ابْن عبْد البرّ النّمريّ القرْطبيّ $، وقدْ سيقتْ بعْض أبْياتها بغيْر هذا السّياق.
  4. منْ جمْلة أبْياتٍ لابْن القيّم، أوْردها في غيْر موْضعٍ منْ كتبه، منْها «مدارج السّالكين بيْن منازل ( إِيَّاكَ نَعْبُدُوَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (3/200).
  5. رواه البخاريّ في صحيحه (6416) كتاب الرّقاق- باب قوْل النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «كنْ في الدّنْيا كأنّك غريبٌ أوْ عابر سبيلٍ».

اقرأ أيضا:

  1. معنى اللهو واللعب المانع من الآخرة
  2. التكاثر المذموم في الأموال والأولاد والرياسات
  3. التكاثر المذموم في غرائب العلم والمباهاة به
  4. التكاثر المذموم في المآكل والزينة والترحال

التعليقات غير متاحة