توحيد الله تعالى هو الأصل العظيم، ومن نقض توحيد بموالاة الكافرين وقف السلف والأئمة منه موقفا حاسما، والتخذيل دور مرذول ومحذور. وبيان الحق واجب للدلالة على الطريق.

مقدمة

تناول الجزء الأول من المقال (الولاء والبراء بين النظرية والتطبيق (1-2)) الفرق بين العلم والنظرية من جانب، والحال والعمل من جانب آخر، وأن السلف كانوا يخشون الاستكثار من العلوم دون القيام بها، وأن يركنوا الى شهرتهم بالعلم والدلالة عليه دون أن يقوموا به. وأن ثمة فرقا بين الأمرين.

وفي هذا الجزء بيان عظم شأن التوحيد، ومواقف السلف في مواجهة من والى الكفار على المسلمين، وخطورة ذلك الداء في حال الأمة اليوم، وشدة حاجة الأمة للبيان، مع التحذير الشديد من دور الإرجاف والتخذيل والهجوم على المجاهدين وتضخيم أخطائهم.

عِظم شأن التوحيد، وركن الولاء والبراء

إن شأن التوحيد شأن عظيم .. من أجله أُرسلت الرسل وأُنزلت الكتب، وقام سوق الجهاد وسوق الجنة والنار، ومن أجل الولاء والبراء ـ الذي هو أسُّ التوحيد وركنه الركين ـ هاجر المسلمون السابقون الأولون من ديارهم، وضحّوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، وفاصلوا آباءهم وأبناءهم وإخوانهم وعشائرهم الذين ليسوا على دينهم، متمثّلين في ذلك قوله تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ* قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ (التوبة :23-24).

ولما كانت عقيدة الولاء والبراء هي صلب كلمة التوحيد، وأنها تستلزم أقوالاً وأعمالاً ومواقف وبذْلاً وتضحيات؛ اهتم بها السلف اهتماماً عظيماً، وعلّموها لأولادهم، وتواصوا بها، وهاجروا، وجاهدوا من أجلها، وعادوا، ووالوا على أساسها.

يقول الإمام محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى:

فاللهَ اللهَ إخواني .. تمسّكوا بأصل دينكم؛ أوله وآخره، أسّهِ ورأسه، وهو شهادة أن لا إله إلا الله، واعرِفوا معناها وأَحِبّوا أهلها، واجعلوهم إخوانكم ولو كانوا بعيدين، واكفروا بالطواغيت؛ عادوهم وأبغضوا من أحبهم أو جادل عنهم أو لم يكفرهم أو قال: “ما عليّ منهم”، أو قال: “ما كلفني الله بهم”؛ فقد كذب على الله وافترى، بل كلفه الله بهم وفرض عليه الكفر بهم، والبراءة منهم ولو كانوا إخوانه وأولاده، فاللهَ اللهَ تمسّكوا بأصل دينكم لعلكم تلقون ربكم لا تشركون به شيئاً. (1الدرر السنية 2/119)

وقال في موطن آخر:

إن الواجب على الرجل أن يعلّم عياله وأهل بيته الحب في الله والبغض في الله، والموالاة في الله والمعاداة فيه، قبل تعليم الوضوء والصلاة؛ لأنه لا صحة لإسلام المرء إلا بصحة صلاته ولا صحة لإسلامه ـ أيضاً ـ إلا بصحة الموالاة والمعاداة في الله”. (2الرسائل الشخصية ص 323)

مواجهة العلماء ـ قديما وحديثا ـ لوقائع موالاة الكافرين

ولما تواجه المسلمون في تاريخهم الطويل مع أعدائهم الكافرين بشتى مللهم برز دور العلماء في وقتهم، وهم يحرِّضون على نصرة المسلمين وإعانتهم على الكافرين ويحذرون من تولي الكافرين، ومناصرتهم بأي نوع من أنواع النصرة، ويفتون بأن من ظَاهَر الكافرين على المسلمين فهو مرتد خارج عن ملة الإسلام.

فهذا الإمام أحمد، رحمه الله تعالى، قال عن “بابك الخُرَّمي” عندما خرج على المسلمين وحاربهم وهو بأرض المشركين:

خرج إلينا يحاربنا وهو مقيم بأرض الشرك، أيّ شيء حكمه؟ إن كان هكذا فحكمه حكم الارتداد. (3الفروع (6/ 163))

وعندما هجم التتار على أراضي الإسلام في بلاد الشام وغيرها أفتى شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله تعالى، برِدِّة من قفز إلى معسكر التتار من بعض المنتسبين إلى الإسلام. (4الفتاوى 28/530)

وعندما هجمت جيوش المشركين على أراضي نجد لقتال أهل التوحيد، وأعانهم بعض المنتسبين إلى الإسلام، وذلك بين عامي (1223 ـ 1226) أفتى علماء نجد بردة من أعانهم، وألّف الشيخ “سليمان بن عبد الله آل الشيخ” كتاب (الدلائل) في إثبات كفر هؤلاء.

وفي أوائل القرن الرابع عشر أعانت بعض قبائل الجزائر الفرنسيين ضد المسلمين؛ فأفتى فقيه المغرب أبو الحسن التسولي بكفرهم. (5أجوبة التسولي على مسائل الأمير عبد القادر الجزائري ص 210)

وفي منتصف القرن الرابع عشر اعتدى الفرنسيون والبريطانيون على المسلمين في مصر وغيرها فأفتى الشيخ أحمد شاكر بكفر من أعان هؤلاء بأي إعانة. (6كلمة حق: ص 126 وما بعدها)

وعندما استولى اليهود على فلسطين في منتصف القرن الرابع عشر الهجري، وأعانهم بعض المنتسبين إلى الإسلام أفتت لجنة الفتوى بالأزهر برئاسة الشيخ عبد المجيد سليم عام 1366هـ بكفر من أعانهم.

حاجة المسلمين الملحّة اليوم لبيان حقيقة ولاء الكافرين

وفي هذه الأيام، وفي غزة التي تحالف على حربها اليهود والمنافقون؛ وفي غيرها من بلاد المسلمين المبتلاة باعتداءات أعداء الله من الصهاينة أو الصليبيين أو وثنيين؛ ومن هجمة العلمانية والتغريب على بلاد المسلمين؛ ما أحوجنا إلى من يعلنها اليوم من أهل العلم في وجه كل من يتعاون من الحكومات العربية مع اليهود في ذبح أهلنا في غزة، أو من يتعاون في ذبح الأمة في أفغانستان أو العراق أو لترسيخ الأوضاع العلمانية في بلادنا لذبح الاسلام ومحاربة الشريعة..

ما أحوج الأمة ليقال لهم إن ذلك من المظاهرة للكافرين والتي أجمع فيها أهل العلم في القديم والحديث ـ كما سبق بيانه ـ على كفر فاعلها وردته، ونخص منهم الحكومة التي جندت جنودها في غلق معبر رفح ليُخنَقَ المسلمون في غزة، ويمنع عنهم ضروريات الحياة من غذاء ودواء ونقل لجرحاهم، ويُسلموهم لمحرقة اليهود وجحيمهم؛ فأيّ تولٍّ لليهود أكبر من هذا…؟

قال الله عز وجل ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ (المائدة : 51).

وإن مما يتعلق بالولاء والبراء في مثل مصاب غزة المتكرر كل حين، وجوب نصرة إخواننا هناك والحذر من خذلانهم وإسلامهم لعدوهم.

التحذير من الخذلان

وإنه لمن المحزن والمؤلم لقلب كل مسلم أن يوجد في هذه الأيام من المنتسبين للعلم والدعوة ـ ولا أقول من العلمانيين والمنافقين ـ من يرفع عقيرته أو يسخّر قلمه للنيل من المجاهدين في غزة ونقدهم بل والشماتة أحيانًا بهم عياذا بالله .

ونقول لهؤلاء: اتقوا الله وخافوا ربكم، أفي هذا الوقت الذي تتطاير فيه أشلاء النساء والأطفال وتهدم البيوت على أهلها وتصب عليهم نار القنابل العنقودية والفسفورية التي تصهر اللحم والعظم يقال هذا الكلام؟

إنكم بصنيعكم هذا تضعون أنفسكم في خندق المعتدِي وتعطونه المبرر لارتكاب محرقته من حيث لا تشعرون.

إن أخطاء المجاهدين لا تُسوِّغ خذلانهم أمام عدوهم فهم بشر وليسوا بمعصومين، قال الله عز وجل: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ﴾ (التوبة : 71). وأخطاء المؤمنين لا ترفع الولاية عنهم .

ويا ليت أن نقد هؤلاء توجه إلى فضح إرهاب الكافرين ونفاق الموالين لهم وخياناتهم وبيان جرائمهم كالذي تمارسه الحكومات العلمانية الموالية للعدو الصهيوني، والتي سلمت لهم القدس، وحاصرت أهلنا في غزة، ومررت الانقلابات العلمانية وتواطأت مع القوى الصليبية والعلمانية والطائفية ضد الأمة.

يا إخواننا .. اتقوا الله في أنفسكم و أمتكم، واعلموا أنكم ظلمتم أنفسكم فتوبوا إلى بارئكم، واذكروا قوله صلى الله عليه و سلم «ما من امرئ يخذل امرَءا مسلما في موطن ينتقص فيه عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا خذله الله تعالى في موطن يحب فيه نصرته». (7رواه احمد و أبو داوود وهو صحيح)

ألا يكفي المسلمين من الحزن والحرقة والألم مما يصيب إخوانهم في بقعة من بقاع المسلمين حتى يأتي هؤلاء بما يزيد الألم آلامًا من هذه المواقف المخذلة والشامتة، وموالاة العدو أو التبرير له أو التغطية على جرائمه بإعطاء الشرعية للأنظمة التي تواليه في مواجهاته مع الأمة..؟

صراع، وفرقان واجب

إن ما يحصل من صراع في فلسطين ـ وفي غزة خصوصا ـ وما تقوم به الأنظمة العلمانية الموالية للغرب ـ بثوراتها المضادة للأمة ولإرادة شعوبها، وما تقوم به من حربٍ للإسلام وتجفيف منابعه ونشرٍ للإباحية والإلحاد ـ إنما هو حرب يهودية صليبية على الإسلام والمسلمين وليس على حماس في فلسطين أو جماعة بعينها في بلاد المسلمين.

إن الواقع اليوم يمثل حربا تميز الناس فيها إلى فئتين متقابلتين:

فئة مسلمة لا ترضى بغير الإسلام حلاً وبديلاً، وترفض المشروع العلماني التغريبي، وترفض الخنوع والاستسلام والتنازل لليهود عن فلسطين.

وفئة أخرى كافرة يتحالف فيها اليهود وإخوانهم من المنافقين، والغربُ الصليبي بقواه المختلفة ومشاريعه التغريبية والمُفسدة للعقيدة والأخلاق، وللمجتمعات الإسلامية؛ يتحالفون على الإسلام وأهله.

فمع أي الفئتين يضع المسلم نفسه..؟

وفي أيِّ الخندقين يجب أن يكون..؟ أفي خندق الكفر الحاقد على الإسلام وأهله العامل بإعلامه ومذابحه ضد الأمة ومورزها ووعيها وضميرها..؟ أم في خندق الإسلام وأهله؟

أفي ذلك غموض واشتباه؟ إنه والله لا غموض فيه ولا لبس. وإن الأمر جِدُّ خطير، وامتحان للتوحيد في قلب المؤمن القائم على عبادة الله وحده والكفر بما سواه والموالاة والمعاداة فيه.

نسأل الله عز و جل أن يجعلنا من الموحدين الصادقين، سِلمًا لأوليائه حربًا على أعدائه؛ كما نسأله سبحانه أن يجعل لإخواننا الثابتين في غزة وفي كل موطن على ثغور الإسلام وعقيدته ومنهجه من كل هم فرجًا ومن كل ضيق مخرجًا ومن كل بلاء عافيةً والحمد لله رب العالمين.

……………………………………………..

هوامش:

  1. الدرر السنية 2/ 119.
  2. الرسائل الشخصية ص 323.
  3. الفروع (6/ 163).
  4. الفتاوى 28/ 530.
  5. أجوبة التسولي على مسائل الأمير عبد القادر الجزائري ص 210.
  6. كلمة حق: ص 126 وما بعدها.
  7. رواه احمد و أبو داوود وهو صحيح.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة