سؤال كبير تطرحه الأجيال المعاصرة.. كيف انحرفت الأمة عن هويتها؟ وكيف أضحت تتذبذب بين انتماءات قومية وقُطرية ضيقة تضيع معها مقدرات الأمة ومصالحها، ومن قبل تضيع معها حقائق أولية في هذا الدين العظيم..

ولكن الأمور لا تحدث اعتسافا بل ثمة مقدمات أدت الى هذا، بمعرفتها يمكن أن نفهم كيف وقع الانحراف؛ ومن ثم كيف تمكن العودة..

أسباب الانحراف عن الهوية الإسلامية

يرجع انحراف الأمة إلى سببين:

    – خلل في التوجيه العلمي الشرعي من أهل الجدل واللسان أدى إلى ضعف قوة الالتزام والافتراق الديني عند المسلمين.
    – خلل في التوجيه السياسي عند أهل الأيدي والقتال أدى إلى ضعف قوة الاجتماع والافتراق الدنيوي عند المسلمين.

يتحدث ابن تيمية عن هذا الانحراف فيقول:

ومن أعظم أسباب بدع المتكلمين من الجهمية وغيرهم: قصورهم في مناظرة الكفار والمشركين؛ فإنهم يناظرونهم ويحاجونهم بغير الحق والعدل لينصروا الإسلام ـ زعموا ـ بذلك.

فيسقط عليهم أولئك لما فيهم من الجهل والظلم، ويحاجونهم بممانعات ومعارضات، فيحتاجون حينئذ إلى جحد طائفة من الحق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم والظلم والعدوان لإخوانهم المؤمنين بما استظهر عليهم أولئك المشركون.

فصار قولهم مشتملاً على إيمان وكفر وهدى وضلال، ورشد وغي، وجمع بين النقيضين وصاروا مخالفين للكفار والمؤمنين..

كالذين يقاتلون الكفار والمؤمنين، ومثلهم في ذلك مثل من فرط في طاعة الله وطاعة رسوله من ملوك النواحي والأطـراف حتى سلط عليه العدو تحقيقًا لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ﴾ [آل عمران، الآية: 155].

يقاتلون العدو قتالاً مشتملاً على معصية الله من الغدر والمثلة والغلول والعدوان، حتى احتاجوا في مقاتلة ذلك العدو إلى العدوان على إخوانهم والاستيلاء على نفوسهم وأموالهم وبلادهم وصاروا يقاتلون إخوانهم المؤمنين بنوع مما كانوا يقاتلون به المشركين وربما رأوا قتال المسلمين آكد.

وبهذا وصف النبي صلى الله عليه وسلم الخوارج حيث قال: «يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان».

وهذا موجود في سيرة كثير من ملوك الأعاجم وغيرهم وكثير من أهل البدع وأهل الفجور فحال أهل الأيدي والقتال يشبه حال أهل الألسنة والجدال». انتهى كلام الشيخ.(1)

فرحم الله شيخ الإسلام.. وحقــًا:

وهل أفسد الدين إلا الملوك      وأحبار سوء ورهبانها

ومن يقرأ جيدًا تاريخ الإسلام يدرك أن الخلل في أنظمة الحكم أفسد القوة الاجتماعية للمسلمين والخلل في المفاهيم والتوجيهات الإسلامية أفسد القوة الالتزامية للمسلمين.

وإذا فسدت قوة الاجتماع وقوة الالتزام بالافتراق الدنيوي والافتراق الديني هوى كيان الأمة ودخلت في أطوار الانحلال والانحدار والتفكك ولا أمل في إصلاح حال المسلمين إلا بسد هذين الخللين.

وهذا ضروري لإصلاح وضع الأمراء أهل الأيدي والقتال والعودة إلى المفاهيم والتوجهات الصحيحة في حركة العلماء.

ومن يدرك هذا يفهم ما جاء في تحذير الرسول صلى الله عليه وسلم أمته من بني قنطوراء، وبنو قنطوراء هم الترك الذين صار إليهم أمر الشوكة في الإسلام من القرن الثالث الهجري حتى سقوط الخلافة الإسلامية.(2)

[اضغط لمعرفة كيف أخرج رسول الله خير أمة .. الجزء الأول]

من خلاصة التاريخ

تحول الدول الكبرى الى استبداديات لجمع المال

جاء في أطلس تاريخ الإسلام عن ملوك الترك والأعاجم:

قد مررنا في دراستنا بدول عظيمة بدأت بدايات جليلة كالسامانيين والغزنويين والأيوبيين والأتراك العثمانيين ولكنها كلها كانت ثقيلة اليد على الناس شديدة الطمع في أموالهم قليلة الاهتمام بدمائهم لهذا توقف معظمها بعد مسير قليل.

وتحولت إلى استبداديات صغيرة يتحارب أفرادها على الملك لأنه كان الوسيلة الكبرى لكسب المال.(3)

وهكذا كان ملوك الأعاجم والترك الذين حموا الإسلام من الخارج هم الذين استنفدوا قوة مجتمعاته من الداخل إلى أن نفدت كل قدرة على العطاء ووقفت هذه المجتمعات جامدة أو تدهورت في بنائها الداخلي من حيث نظم الحكم والإدارة والاجتماع والاقتصاد والعمران فكان هذا هو الخلل عند أهل الأيدي والقتال.

[اضغط لمعرفة كيف أخرج رسول الله خير أمة .. الجزء الثاني]

اقتران الخلل بين أهل العلم وأهل السلطان

ويصف ابن تيمية جانبًا من الخلل عند أهل الألْسنة والجدال الذي أضعف قدرة الأمة على المواجهة عند تعرضها للغزو العلماني في زماننا هذا فيقول رحمه الله:

وقد لُبّس على طوائف من الناس أصل الإسلام حتى صاروا يدخلون في أمور عظيمة هي شرك ينافي الإسلام لا يحسبونها شركًا.

وأدخلوا في التوحيد والإسلام أمورًا باطلة ظنوها من التوحيد وهي تنافيه.

وأخرجوا من الإسلام والتوحيد أمورًا عظيمة لم يظنوها من التوحيد وهي أصله.

فأكثر هؤلاء المتكلمين لا يجعلون التوحيد إلا ما يتعلق بالقول والرأي واعتقاد ذلك دون ما يتعلق بالعمل والإرادة واعتقاد ذلك. أ هـ(4)

فغاب بذلك عن هؤلاء مفهوم الإيمان الصحيح بكونه: إذعان لحكم المخبر وقبوله، وكذا غاب مفهوم التوحيد بشعبتيه توحيد الاعتقاد وتوحيد العمل. فأثبتوا توحيد الاعتقاد (الربوبيـة) ولم يثبتوا توحيـد العمـل (الألوهية) بأركانه الثلاثة (إفراد الله بالحكم والولاء والنسك).

الضعف العقدي أمام العلمانية

فبذلك ضعفت مقاومـة الأمـة عند مواجهتهـا للعلمانيـة واستطاعت العلمانية أن تتسرب إلى ديـار الإسـلام وتجد لها شرعية لسيطرتها فيها بدعوى أن القائمين عليها مسلمون!!!

ومع تفاقم جرثومة الإرجاء بقصر الإيمان على تصديق الخبر بالقلب أو باللسان أو بهما معًا دون قبول الحكم، وانتشارها ليس فقط بين عوام الناس بل بين أهل الألسنة والجدال ومع دخول العلمانية إلى ديار الإسلام وإعلان العلمانيين في بداية الأمر أنهم مسلمون وأن العلمانية لا تتنافى مع الإسلام هنا تبددت الهوية بتعدد الشرعية والتبس الأمر على الناس.

ثم مع غياب مفاهيم الولاء والبراء الصحيحة، صرح العلمانيون بعد ذلك بأنه لا يجب الالتقاء على أساس الدين بل عندهم الولاء والبراء على غايات أخرى كالوطنية والقومية.

فمع جرثومة الإرجاء وغياب مفاهيم الولاء والتوجه الصوفي في الأمة وهجمة العلمانية الشرسة ووجود بعض ظواهر الاغتراب هنا تميعت الأمور، واختلطت المفاهيم وحدث الالتباس لدى الناس حول مفهوم العقيدة وهي: (تحقيق العبودية لله بقبول شرع الله ورفض ما سواه) ومفهوم الشرعية وتميع الاجتماع الشرعي وتميعت مفاهيم السمع والطاعة ومفاهيم عصمة الدم والمال.

وفي ظل هذا الالتباس والتميع استطاعت العلمانية أن ترسخ أقدامها دون أن يتحدد موقف المسلم منها ودون أي مقاومة تُذكر من الأمة.

[اضغط لمعرفة كيف أخرج رسول الله خير أمة .. الجزء الثالث]

بروز فكرة القومية بديلا عن الرابطة الإسلامية الجامعة

وفي نهاية القرن التاسع عشر، طرح العلمانيون فكرة الالتقاء والانتماء والتجمع على فكرة القومية العربية.(5)

فطرحوا (الرابطة أو الجامعة العربية) بديلاً عن الرابطة الإسلامية، ثم لم يكتفوا بذلك بل أرادوا للأمة مزيدًا من التشرذم، فطرحوا بعد الحرب العالمية الأولى فكرة الوطنيات المختلفة التي كانت سائدة في التاريخ القديم السابق على الإسلام كالوطنية المصرية القديمة (الفرعونية) والآشورية والبابلية والفينيقية والفارسية والهندية والطورانية وغيرها من الوطنيات والقوميات الجاهلية.(6)

والتي بدأت تنخر في عظام الأمة لتسلمها إلى مزيد من ترسيخ العلمانية وإبعاد الأمة عن هويتها.

ثم لم يكتفوا بكل هذا بل يحاولون الآن جعل (الفرانكفونية) والشرعية الدولية والشرق أوسطية هي الرابطة ــ  أو الروابط ــ التي يجتمع حولها الناس، ومسح أي هوية سابقة لهذه الأمة لتمريغ أنفها في التراب وإذلالها وجعلها تابعة ــ في هذه الهوية ــ لأحفاد القردة والخنازير.

إنهم يجعلون الانتماء للإسلام اليوم خيانة للأوطان وللقومية !! إذ جعلوا الانتماء للأوطان والقوميات مقابلا ومصادما للإسلام وبديلا عنه!! ومن ثم لا نشهد اليوم إلا انهيارا متزامنا في بقاع بلاد المسلمين، ومتتاليا جيلا بعد جيل وحقبة بعد أخرى بل وعقدا بعد آخر..

لا يزداد قوة ولا يكتسب مزيدا من المغانم إلا الغرب والصهاينة، ولا يزداد ضعفا إلا المسلمون، هذا محصلة يومية يعيشها المسلمون.. الذين يصرخ عقلاؤهم محذرين من الانهيار.

بينما الإسلام الذي يهربون منه هو مناط نجاتهم وملجؤهم وملاذهم للوحدة وإيقاف الانهيار وإيجاد مكان بين الأمم من خلال الحضارة الربانية وهي الإسلام، وللعزة في الدنيا.. وللنجاة يوم لقاء الله؛ بتحقيق غاية الوجود بعبادة الله وحده ومحبته وولائه تعالى.

الهوامش

  1. [الفتاوى الكبرى].
  2. عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم. فسمعنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أمتي يسوقها قوم عراض الأوجه صغار الأعين كأن وجوههم الحجف (*) ثلاث مرات حتى يلحقوهم بجزيرة العرب، أما السابقة الأولى: فينجو من هرب منهم، وأما الثانية فيهلك بعض وينجو بعض، وأما الثالثة فيصطلمون (**) كلهم من بقي منهم، قالوا:  يا نبي الله من هم؟ قال: «هم الترك»، قال: «أما والذي نفسي بيده ليربطن خيولهم إلى سواري مساجد المسلمين»، قال: وكان بريدة لا يفارقه بعيران أو ثلاثة ومتاع السفر والأسقية بعد ذلك للهرب مما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم من البلاء من أمراء الترك (***).
    (*) الحجف: الحجفة: الترس.
    (**) يصطلمون: الاصطلام: الصلم: القطع، أي يحصدون.
    (***) مسند أحمد 5/348، 349.
    ـ عن ابن مسعود مرفوعًا: اتركوا الترك ما تركوكم، وقال: «أول من يسلب أمتي ملكهم وما خولهم الله بنو قنطوراء».
    ـ ينظر في ذلك: قتال الترك وقتال العجم، صفحات 93- 99، كتاب أشراط الساعة، يوسف بن عبد الله بن يوسف الوابل، دار طيبة، مكتبة ابن الجوزي 1409 هـ، 1989 م.
  3. [د. حسين مؤنس: أطلس تاريخ الإسلام].
  4. [الفتاوى الكبرى جـ 5، ص 212- 213].
  5. [راجع د. محمد محمد حسين: الإسلام والحضارة الغربية ص 202 – 208].
  6. [المرجع السابق ص 236 وما بعدها].

المراجع

  • الفتاوى الكبرى، لابن تيمية.
  • الإسلام والحضارة الغربية، د. محمد محمد حسين.
  • أطلس تاريخ الإسلام، . حسين مؤنس.
  • الطريق الى الجنة، عبد المجيد الشاذلي.

اقرأ المزيد

  1. الإسـلام هويـة تجمـع الأمـة
  2. خسارة الأمة نتيجة غياب الهوية
  3. مسؤولية الفرد عن انتكاسة الأمة.. (1-2) التكاليف الفردية والجماعية
  4. مسؤولية الفرد عن انتكاسة الأمة.. (2-2) المسؤولية الفردية والتضامنية

التعليقات غير متاحة