يستوقف الكثير من المخلصين إخفاقات الحركة الاسلامية، والتي كان تنتظر منها الجموع القدرة والتأثير الحاسم في تحقيق آمال الأمة.

مقدمة

ليس الطريق إلى الغد المأمول مفروشا بالأزهار والورود؛ بل هو مفروش بالأشواك والآلام والدماء.. دماء الشهداء الذين سيسقطون في الطريق.

إن العالم كله اليوم مصرّ على محاولة محو الإسلام من الأرض.

وليست هذه هي المرة الأولى التي يصرّ فيها الأعداء على هذه المحاولة، منذ بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إلى اليوم، فقد جاء في كتاب الله الذي أنزل من نيّف وأربعة عشر قرنا قوله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ [الصف: 8]، ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ [التوبة: 32].

والضمير في الآيتين يعود إلى ذات الأعداء الذين يريدون اليوم أن يطفئوا نور الله: “اليهود” و”النصارى” و”المشركين”، وعملائهم من “المنافقين”: ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾ [البقرة: 120]، ﴿وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾ [البقرة: 217]، ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [المجادلة: 14].

ولكن ربما كان الفرق بين المحاولة الحاضرة والمحاولات السابقة أنه في المحاولات السابقة كان “بعض” الأعداء يهاجمون أجزاء من العالم الإسلامي في الوقت الواحد؛ أما في هذه المرة فالهجوم واقع من “جميع” الأعداء، وعلى العالم الإسلامي كله في وقت واحد.

وثمة فارق آخر، ربما كان هو السبب في الحقيقة في وجود الفارق الأول؛ وهو أن العالم الإسلامي ـ في مجموعه ـ لم يكن في وقت من الأوقات أضعف منه الآن.

سبب الهجمة بالرغم من ضعف الأمة

وقد تبدو الهجمة الشرسة مستغرَبة مع ضعف العالم الإسلامي، واستسلامه لما يراد به عسكريا وسياسيا واقتصاديا وفكريا، وعجزه عن رد اللطمات المتلاحقة الموجهة إليه عن يمين وشمال.

ولكن ربما يزول العجب إذا عرفت الأسباب.

وهناك سببان اثنان على الأقل لهذه الهجمة الشرسة التي يتكاتف على توجيهها كل أعداء الإسلام، حتى الذين بين بعضهم وبعض عَداوات حادة كالتي بين الصّرب والكروات، تمنع التقاءهم على أي شيء .. إلا محاربة الإسلام!

فشل إحكام التخطيط

السبب الأول أن أعداء الإسلام الذين تآمروا ضده خلال القرنين الماضيين، وخطّطوا وأحكموا التخطيط، ونفذوا بدقة كل مخططاتهم، كانوا قد ظنوا أن تخطيطهم سيقضي على الإسلام القضاء الأخير، وأنهم سيرتاحون إلى الأبد من ذلك العدو الذي دوّخهم خلال التاريخ، وكان القضاء على الدولة العثمانية بالذات، وتفتيت تركة “الرجل المريض” إلى دويلات هزيلة ضعيفة فقيرة وفوق ذلك متعادية متنابزة، أكبر نصر انتصروه على الإسلام في التاريخ كله، ففركوا أيديهم سرورا بنجاحهم، وجلسوا يقطفون الثمار .. وفجأة برزت الصحوة!

ولم يكن إمكان حدوث اليقظة غائبا عن أذهانهم، بل كان له مكانه الواضح في تخطيطهم؛ في عام 1907م ظهر تقرير “لورد كامبل”، وهو أحد اللوردات البريطانيين، كانت بريطانيا ـ العظمى يومئذ! ـ قد عهدت إليه بدراسة ما كان قد بدأ يُقلق الدول الاستعمارية من بوادر اليقظة في المنطقة العربية من العالم الإسلامي. فقام بالمهمة ودرَس الأمر، وخرج بتقريره الموجَّه إلى الدول الإستعمارية كلها في الحقيقة، وإلى بريطانيا وفرنسا بصفة خاصة، بوصفهما المهيمنتين الرئيسيتين على القسم العربي من العالم الإسلامي، فقال:

“هناك شعب واحد يسكن من الخليج إلى المحيط، لغته واحدة، ودينه واحد، وأرضه متصلة، وتاريخه مشترك، وهو الآن في قبضة أيدينا، ولكنه أخذ يتململ، فماذا يحدث لنا غدا إذا استيقظ العملاق؟”.

ثم أجاب على السؤال بما يُطمئن “أصحاب الشأن” فقال:

“يجب أن نقطع اتصال هذا الشعب بإيجاد دولة دخيلة، تكون صديقة لنا وعدوّة لأهل المنطقة، وتكون بمثابة الشوكة، تخز العملاق كلما أراد أن ينهض!”. (1راجع تقرير لورد “كامبل” في منشورات الجامعة العربية بالقاهرة)

تلك هي إسرائيل؛ مؤامرة صليبية صهيونية واضحة ضد الإسلام.

ولكن “أصحاب الشأن” لم يكتفوا بذلك في مواجهة الصحوة المتوقعة التي عبّر عنها “كامبل” بأن العملاق قد “أخذ يتململ”، فقد ربوا “زعامات” و “قيادات” تستوعب الغضبة إذا حدثت في نهاية الأمر على الرغم من كل الاحتياطات، وتحوّلها إلى زَبَدٍ، ينتشر على السطح، ثم ينفثئ بعد فترة دون أن يخلّف شيئا على السطح! زعامات “سياسية” وقيادات “شعبية” تملأ الجو عجيجا، ثم لا تمس في النهاية “مصالح” أصحاب الشأن، بل قد تزيدها رسوخا، والشعوب لاهية تصفق للقادة “الأبطال” وهو يُسْلِمُون بلادهم للدمار!

وهذا بجانب السينما والمسرح والإذاعة ـ ولم يكن التليفزيون قد ظهر بعد ـ والصحافة ومناهج التعليم، وتحرير المرأة..! (2راجع ” واقعنا المعاصر ” ص 215- ص 263)

ومع ذلك كله قامت الصحوة!

فماذا تتوقع من الذين كانوا قد خطّطوا، وظنوا أن تخطيطهم قد قضى على الإسلام بغير رجعة؟!

معرفتهم بحقيقة هذا الدين

أما السبب الثاني ـ المتصل بالصحوة كذلك ـ فهو معرفتهم بحقيقة هذا الدين، وبأن هذه الصحوة إن استقرت في القلوب فلا سبيل إلى وقفها حتى تأخذ مداها.

من هذين السببين معاً؛ الحنق من فشل مخططات قرنين من الزمان أو أكثر، والفزع على “المصالح” التي تهددها الصحوة الإسلامية إذا استمرت في الامتداد، نستطيع أن ندرك السعار المحموم الذي يجري في الأرض كلها لضرب الحركة الإسلامية.

ولو كانت هذه “المصالح” مشروعة، أو معقولة، فما كان لها أن تخشى من الإسلام من شيء، والإسلام هو الذي أمَرَ بالعدل مع أهل الكتاب، فوجَّه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: ﴿…وقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ…﴾ [الشورى: 15].

ولكن “مصالحهم” التي يعلنونها أحيانا ويسرّونها أحيانا هي ألا يكون إسلام في الأرض، ودون ذلك تقف مشيئة الله؛ ﴿…ويَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ [التوبة: 32].

إذا فهمنا سر الهجمة الشرسة، وأدركنا الإصرار المحموم على ضرب الحركات الإسلامية لإبادتها، فما الذي نتوقع من أمرها في الغد القريب أو الغد البعيد؟

نتوقع كل الخير!

ولا نقول هذا من باب تصديق الأمانيّ! إنما نقوله على ثقة بوعد الله، وعلى ضوءٍ من السنن الربانية التي يُجريها الله ويُجْري بها أمور البشر في الأرض.

فأما الغرب الصليبي الصهيوني وعملاؤه فإنهم يعملون بحماقة شديدة ضد “مصالحهم”!

إنهم بهذا السعار المحموم الذي يمارسونه في محاولة إبادة الحركات الإسلامية، يربون الجيل الذي لن يقدروا عليه! ويتم ذلك في غفلة منهم، بتدبير رباني، كأنما قدَر الله يسوقهم سوقا لإخراج ذلك الجيل على أيديهم!

إن الانفجار يحدث دائما حين يستوي الموت والحياة عند الناس، أو حينما يكون الموت أيسر على الناس من الحياة!

وكل الانفجارات التي حدثت في التاريخ سبقها سعار محموم لإبادة تيار متصاعد، ظن الطغاة أنهم يستطيعون القضاء عليه بالقهر والتعذيب!

والذي يجري في الأرض كلها اليوم من محاولات لإبادة المسلمين، سواء في البوسنة والهرسك، أو كشمير، أو فلسطين، أو بورما، أو طاجستان، أو داخل سجون التعذيب؛ لن تكون نتيجته إلا إخراج أجيال أصلب عودا وأكثر عنادا، أطول نفَسا وأكثر وعيا بحقيقة المعركة التي تدور في الأرض بين دين الله وأعداء الله.

وتلك النتيجة هي ـ بيقين ـ ضد “مصالح” أصحاب الشأن!

ولو تعقّلوا ما فعلوا ذلك؛ ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ﴾ [الأنعام: 112].

إن الإسلام قادم، من أيّ طريقيه جاء، إما بتيار هادئ يعمل في رزانة وتؤدة، ليصل على مهل إلى أهدافه، وإما بتيار غاضب صاخب، يلجأ إلى العنف ويستعجل الطريق!

ونحن نفضل ألف مرة التيار الهادئ، الذي يعمل في رزانة وتؤدة، ولو استغرق عمله بضعة أجيال! ولكن ما حيلتنا في حماقات الغرب، وحماقات إسرائيل؟!

إذا كان هذا حال الأعداء… فما حال الصحوة؟

إذا راجعنا مسار الصحوة ـ كما ينبغي لنا أن نفعل ـ فسنجد أنها قامت بجهد كبير، تبدو آثاره واضحة على الساحة، ولكنها تعجلت كثيرا في بعض الخطوات، وأبطأت كثيرا في بعض المجالات، وتركت بعض المجالات فلم تبذل فيها الجهد المطلوب.

وليس هنا مجال التفصيل في ذلك كله ، ولكن لا بد من إشارات سريعة توضح ما نقول.

قامت الصحوة بجهد “إعلامي” كبير، على الرغم من حرمانها المتعمد من معظم وسائل الإعلام!

والوعي الإسلامي القائم عند الجماهير اليوم، مرده ـ بعد فضل الله ـ إلى الصحوة المباركة، وإلى الجهد الدائب الذي بذلته خلال أكثر من نصف قرن في تعريف الناس بالإسلام.

وذلك جهد لا بد أن يذكر..

توضيح حقيقة الاسلام، ومهاجمة الآفات المشوِّهة لمفهومه

فلو أننا راجعنا حال المسلمين في القرن الماضي، ومدى الغربة التي لفّت الإسلام في طياتها، حتى أصبح غريبا على أهله، وأصبح ما يتمسكون به على أنه الإسلام؛ كأنه دين آخر غير دين الله المنزل.. إذا راجعنا تلك الحال، وقارنّاها بالحاضر الذي تمور به الساحة مورا، أدركنا على الفور مدى الجهد الذي بذلته الدعوة في هذا المجال.

ولقد كان أبرز ما قامت به الصحوة في هذا المجال هو العمل لإزالة آثار، أو ـ في القليل تخفيف آثار:

  • الفكر الإرجائي
  • والفكر الصوفي
  • والتفلت من التكاليف

وقد كانت هذه الثلاثة من أشد ما أصاب الأمة الإسلامية بالضعف والخذلان.

التركيز على معنى “لا إله إلا الله”

وكان من أبرز ما قامت به كذلك التركيز على معنى “لا إله إلا الله”، وأنها ليست مجرد الكلمة المنطوقة باللسان، وأن الإيمان ليس قولا معزولا عن العمل، إنما هو ـ كما قال السلف ـ قول وعمل؛ عمل بمقتضيات “لا إله إلا الله” في الواقع المشهود.

وقد كان حصر الإيمان في نطق “لا إله إلا الله”، أثرا من أثار “الفكر الإرجائي” من ناحية، و”الرغبة في التفلت من التكاليف” من ناحية، و”التضليل” الذي قامت به أجهزة الغزو الصليبي الصهيوني من جهة ثالثة، لتخدير المسلمين عن حقيقة “لا إله إلا الله”، وصرْفهم عن أي محاولة جادة لترجمتها واقعا حيا متحركا كما هي حقيقتها التي نزلت بها من عند الله.

إزالة الانبهار بما عند الغرب مع التوازن

كذلك كان من آثار الصحوة إزالة الانبهار بما عند الغرب، أو ـ في القليل ـ التقليل من آثاره على أرواح الناس، وقد كان هذا الانبهار من أشدّ عوامل عبودية الناس للغرب المستعمر، وتخذيلهم عن مجرد التفكير في مقاومته حتى داخل أفكارهم ومشاعرهم، فضلا عن مقاومته في الواقع المحسوس.

ومن ميزات الصحوة هنا؛ أنها لم تناد بإغلاق الأبواب على كل ما يجيء من عند الغرب، ولم تدْعُ إلى العزلة عن ركب الحياة الحيّ، إنما نادت بضرورة الانتقاء ـ على بصيرة ـ مما عند الغرب، وأخْذ ما لا بد من أخذه، وترْك ما لا بد من تركه، والاستفادة بما أُخذ بتطويعه للمنهج الإسلامي، وليس بتطويع الإسلام لمناهج الغرب.

الأثر الضخم في ميدان المرأة

ويُحسَب للصحوة كذلك عملها الضخم في ميدان المرأة؛ وقد كان ميدان المرأة من أكبر المجالات التي عمل فيها الغزو الفكري، لإخراج المجتمع كله من الإسلام؛ فالأم هي التي تبذر في أطفالها في سنيهم الأولى مبادئ العقيدة ومبادئ الفضيلة ومبادئ الأخلاق، فإذا أُفسدت الأم وهي بعْدُ فتاةً؛ فنزعت حجابها، وأهملت عبادتها، وشُغِلَتْ عن ربها وآخرتها بالجري وراء “المُودة” وأدوات الزينة والخروج من البيت ابتغاء الفتنة والتبرج؛ فلن تربّي أبناءها حين تصبح أُمّا على شيء من العقيدة ولا الفضيلة ولا الأخلاق؛ لأن فاقد الشيء لا يُعطيه.

وقد بذل الغزو الصليبي الصهيوني جُهْدا جبّارا في هذا المضمار؛ بحيث يصبح من المتعذِّر على المرأة المسلمة الملتزمة المتحجبة أن تعيش في المجتمع السافر المتفسخ المتسيب الذي يعجّ بألوان الفساد.

لذلك ينظر دعاة الغزو الفكري اليوم في ذهول بالغ وحِنق محموم إلى ظاهرة الحجاب، التي لم تشمل فتيات الجامعة فحسب، بل وصلت إلى “الفنانات”، آخر من يتصور أن يعُدْن إلى الله!

كل ذلك يحسب ـ من بعد فضل الله ومَنِّه ـ لجهود الدعوة في أكثر من نصف قرن.

خاتمة

للصحوة الاسلامية إنجازاتها في مجالا عديدة، وهي تثبت أنها قادرة ـ بإذن الله ـ على إنجاز المزيد واجتياز التحديات. وواضح أن أمامهم المزيد.

أما إخفاقات الصحوة الاسلامية فلا بد من معرفتها للوقوف عليها ومعالجتها وتجنب التكرار وضياع الجهد والعمر.

…………………………………………

هوامش:

  1. راجع تقرير لورد “كامبل” في منشورات الجامعة العربية بالقاهرة.
  2. راجع ” واقعنا المعاصر ” ص 215- ص 263.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة