للخلاف الفقهي ضوابط، والدليل الشرعي هو المعتمد. ويجب الحذر من التوسع في الترخص بحجة الخلاف، كما يجب الحذر من من مآلات التحجج بالخلاف للتوصل به الى الانسلاخ من الإسلام.

مقدمة

في المجتمعات الاسلامية التي بها احترام للشريعة واتباع للدليل، يستتر بعض العلمانيين بالخلاف الفقهي فيطالبون بالترخص بسبب جرد الخلاف لا اتباع الدليل، ثم يجعلون هذا الخلاف ذريعة للتوصل الى الإعلان عن قناعات رافضة لأحكام الله تعالى في قضايا كبرى؛ خاصة قضايا المرأة والقضايا الاجتماعية عموما. ولهذا وجب الحذر من هذا المأخذ، ومن هذه الشبهة.

الشبهة

هي القول بأن من التيسير اختيار الأيسر من أقوال العلماء عند الاختلاف، ويقولون إن هذا من باب الأخذ بالرخص، والتيسير على الناس، ما دام أن فيه اختلافًا بين العلماء..!

الرد على الشبهة وبيان بطلانها

وللرد على هذه الشبهة أنقل كلامًا نفيسًا لإمامين جليلين:

أولهما: عن الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى حيث يقول:

“…فربما وقع الإفتاء في المسألة بالمنع، فيقال: لم تمنع والمسألة مختلف فيها..؟

فيجعل الخلاف حجة في الجواز لمجرد كونها مختلفًا فيها؛ لا لدليل يدل على صحة مذهب الجواز، ولا لتقليد مَن هو أولى بالتقليد من القائل بالمنع. وهو عين الخطأ على الشريعة حيث جعل ما ليس بمعتمد معتمدًا وما ليس بحجة حجة.

حكى الخطابي في مسألة البِتْع ـ نوع من أنواع النبيذ ـ المذكورة في الحديث عن بعض الناس أنه قال: إن الناس لما اختلفوا في الأشربة، وأجمعوا على تحريم خمر العنب، واختلفوا فيما سواه حرّمنا ما اجتمعوا على تحريمه وأبحنا ما سواه،. قال: وهذا خطأ فاحش، وقد أمر الله تعالى المتنازعين أن يردوا ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، قال: ولو لزم ما ذهب إليه هذا القائل للزم مثله في “الربا” و”الصرف” و”نِكاح المتعة”؛ لأن الأمة قد اختلفت فيها، قال: وليس الاختلاف حجة، وبيان السُنة حجة على المختلفين من الأولين والآخرين، هذا مختصر ما قال.

والقائل بهذا راجع إلى أن يتبع ما يشتهيه، ويجعل القول الموافق حجة له ويدرأ بها عن نفسه، فهو قد أخذ القول وسيلة إلى اتباع هواه، لا وسيلة إلى تقواه، وذلك أبعد له من أن يكون ممتثلًا لأمر الشارع، وأقرب إلى أن يكون ممن اتخذ إلهه هواه.

ومن هذا أيضًا جعْل بعض الناس الاختلاف رحمة للتوسع في الأقوال، وعدم التحجير على رأي واحد، ويحتج في ذلك بما روي عن القاسم بن محمد وعمر بن عبد العزيز وغيرهما مما تقدم ذكره.

ويقول: إن الاختلاف رحمة؛ وربما صرح صاحب هذا القول بالتشنيع على مَن لازَم القول المشهور أو الموافق للدليل أو الراجح عند أهل النظر، والذي عليه أكثر المسلمين. ويقول له: لقد حجَّرْت واسعًا، ومِلْتَ بالناس إلى الحرج، وما في الدين من حرج، وما أشبه ذلك.

وهذا القول خطأ كله وجهل بما وضعت له الشريعة، والتوفيق بيد الله”. (1«الموافقات» (2/ 102 – 104))

ثانيهما: عن الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى حيث يقول:

“..وقولهم: “إن مسائل الخلاف لا إنكار فيها” ليس بصحيح؛ فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول والفتوى أو العمل.

أما الأول: فإذا كان “القول” يخالف سُنة أو إجماعًا شائعًا وجب إنكاره اتفاقًا؛ وإن لم يكن كذلك فإن بيان ضعفه ومخالفته للدليل إنكار مثله.

وأما “العمل” فإذا كان على خلاف سُنة أو إجماع وجب إنكاره بحسب درجات الإنكار، وكيف يقول فقيه: لا إنكار في المسائل المختلف فيها، والفقهاء من سائر الطوائف قد صرحوا بنقض حكم الحاكم إذا خالف كتابًا أو سنة، وإن كان قد وافق فيه بعض العلماء؟

وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ لم تنكر على من عمل بها مجتهدًا أو مقلدًا.

وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد، كما اعتقد ذلك طوائفُ من الناس ممن ليس لهم تحقيق في العلم.

والصواب ما عليه الأئمة أن مسائل الاجتهاد، ما لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوبًا ظاهرًا مثل حديث صحيح لا معارض له من جنسه؛ فيسوغ فيها ـ إذا عدم فيها الدليل الظاهر الذي يجب العمل به ـ الاجتهاد لتعارض الأدلة أو لخفاء الأدلة فيها…”. (2«مدارج السالكين» (3/ 288))

ويقول في موطن آخر وهو يذكر أنواع الرخص المشروع منها وغير المشروع:

“الرخصة نوعان:

أحدهما: “الرخصة المعلومة من الشرع نصًّا كأكل الميتة والدم ولحم الخنزير عند الضرورة، وإن قيل لها “عزيمة” باعتبار الأمر والوجوب فهي “رخصة” باعتبار الإذن والتوسعة، كفطر المريض والمسافر، وقصر الصلاة في السفر، وصلاة المريض إذا شق عليه القيام قاعدًا.

النوع الثاني: رخص التأويلات، واختلاف المذاهب، فهذه تتبُّعها حرام ينقص الرغبة، ويوهن الطلب، ويرجع بالمترخص إلى غثاثة الرخص.

فإن من ترخص بقول أهل مكة بالصرف (3يقصد قول ابن عباس رضي الله عنه ومن تبعه من المكيين في بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة متفاضلًا ومنعوه نسيئة فقط لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا ربا إلا في نسيئة»)، وأهل العراق في الأشربة (4يقصد قول العراقيين في النبيذ، وأكثر علماء البصرة في أن المحرم من سائر الأنبذة المسكرة هو السكر نفسه لا العين. «بداية المجتهد» لابن رشد (1/ 471))، وأهل المدينة في الأطعمة، وأصحاب الحيل في المعاملات (5يقصد الحيل عند الأحناف) ، وقول ابن عباس رضي الله عنه في المتعة، وإباحة لحوم الحمر الأهلية..

فهذا الذي تنقص بترخصه رغبته، ويوهن طلبه، ويلقيه في غثاثة الرخص، فهذا لون والأول لون». (6«مدارج السالكين» بتحقيق البغدادي (2/ 58-59)، والتعليق في الهامش هو للمحقق البغدادي: (2/ 58-59))

ما يترتب على بيان الأئمة

رحم الله هذين الإمامين الجليلين فكأنهما يعيشان عصرنا، وما جدَّ فيه من الأهواء والفتن، وما خرج فيه من القوم الذين هم من بني جلدتنا، والذين ينادون بمسايرة الواقع ومواكبة العصر، والأخذ بأي قول لأهل العلم ولو كان مهجورًا شاذًّا، أو مرجوحًا؛ تيسيرًا على الناس ودفعًا للحرج عنهم ـ زعموا.

وبعض هؤلاء ينطلق من الجهل بمقاصد الشريعة وأدلة الأحكام ومناطاتها، وبعضهم يذهب إلى أبعد من ذلك لغرض يخفيه في نفسه ويبديه لمن هو على شاكلته، ألا وهو البعد الاجتماعي والفكري للقضايا المثارة، وليس المقصود الخلاف الفقهي الصِّرف؛ حيث نرى اليوم ـ ممن ينادي بالعصرانية ـ يثيرون مسائل تتعلق بالمرأة، وما نقل فيها من خلاف بين أهل العلم، والدافع لذلك أبعد من مجرد الخلاف الفقهي، بل هو ستار يخفي وراءه اللهث وراء الغرب ومحاكاته، وسرعان ما يتجاوزون المسائل التي هي محل خلاف إلى ما لا خلاف في تحريمه ومنعه.

وإذا تأملنا هؤلاء وأمثالهم وجدنا بضاعتهم مزجاة في علوم الشريعة ـ أصولها وقواعدها ـ وإنما همُّهم أن يتصيَّدوا من أقوال الفقهاء ما يناسب أهواءهم، ويوظفوه في تحقيق رغبتهم ومخططاتهم.

خاتمة

وعلى ما قدمنا فيجب الحذر من دعوات الترخص والتخيير بين الأقوال؛ فإنهم يخفون وراءها عقائد ومواقف الليبراليين والعلمانيين، والملاحدة الصرحاء، والإباحيين. وإنما يتسترون ويتحججون الى حين؛ فإذا استجاب لهم البعض أو لم يجدوا لأقوالهم نكيرا وأَمِنوا أن الناس لم تسبر أغوار أقوالهم ومآلاتها؛ عندئذ يصرحون بطوامّهم.. فمن كان مختلفا في شأنهم الى حين ويجد لأقوالهم مساغا إذ بهم يكشفون عن وجوههم ويقطعون نزاع قاصري النظر..! بتبجحهم بمحض الباطل والانسلاخ من الشرائع.

في واقعنا اليوم يجب الحذر من تلاعب خنادق كثيرة معادية للمسلمين. يجب ألا ينخدع المسلمون، ويجب أن يكونوا على استنفار ووعي لحماية دينهم ومنع أن يثلمه منافق أو متلاعب مستهتر.

……………………………….

الهوامش

  1. «الموافقات» (2/ 102 – 104).
  2. «مدارج السالكين» (3/ 288).
  3. يقصد قول ابن عباس رضي الله عنه ومن تبعه من المكيين في بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة متفاضلًا ومنعوه نسيئة فقط لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا ربا إلا في نسيئة».
  4. يقصد قول العراقيين في النبيذ، وأكثر علماء البصرة في أن المحرم من سائر الأنبذة المسكرة هو السكر نفسه لا العين. «بداية المجتهد» لابن رشد (1/ 471).
  5. يقصد الحيل عند الأحناف.
  6. «مدارج السالكين» بتحقيق البغدادي (2/ 58-59)، والتعليق في الهامش هو للمحقق البغدادي: (2/ 58-59).

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة