بعد أن يجيب الإسلام عن الأسئلة الكبرى للإنسان ووظيفته في الحياة ومكانته في الكون، يبني نظاما أخلاقيا فيه قوة الإيمان وقوة الخشية من الله. ولهذا النظام خصائص تميزه ينفرد بها؛ كنظام رباني متفرد.

المسائل الأساسية

سبق في المقال السابق (النظام الخلقي في الإسلام (1) في ظل العقيدة) أن توضيح أن سبب اختلاف الأمم في الأخلاق هو موقفها من القضايا الأساسية للإنسان حول وظيفته وغاية وجوده وعلاقته بخالقه.

يجيب الإسلام عن مسائل الحياة الأساسية هذه. ويوضح تصوره للكون ومنزلة الإنسان فيه. ويعين الغاية الحقيقية السامية التي ينبغي أن تكون الغاية القصوى من مجهودات الإنسان ومساعيه في هذه الدنيا؛ ألا وهي “ابتغاء وجه الرب تعالى ونيل رضاه”؛ فهذا هو المقياس الذي يقاس به في نظام الإسلام الخُلقي كل عمل من أعمال الإنسان ويحكم عليه بالخير أو الشر. ثم إن هذا التعيين يزود الأخلاق الإنسانية بمحور تدور حوله حياة البشر بحذافيرها، فلا تبقي بعدُ كسفينة في البحر تتقاذفها الرياح وتقلبها الأمواج يمينا وشِمالا. وكذلك يضع هذا التعيين بين يدي الإنسان غاية حقيقية يمكنه بعدها أن يعين لجميع الصفات الخُلقية في الحياة حدودا ومنازل وصورا عملية ملائمة لكل واحدة منها. كما يظفر من أجلها بالقيم الخلقية  المستقلة التي لا تزال قائمة متأصلة في مكانها على تقلبات الأحوال والشؤون.

وفوق كل ذلك إذا تعين “ابتغاء وجه الرب ونيل رضاه” غاية منشودة للإنسان ومرمَیً لمساعيه وجهوده؛ فقد ظفرت الأخلاق البشرية بغاية سامية تمكّنها من الارتقاء الخلقي إلى ما لا نهاية له من معارج النمو والرقي ولا يشوبها أبدا أدناس عبودية الأغراض والمآرب النفسية في مرحلة من مراحل سیرها الحثيث.

فكما أن الإسلام ينعم علينا بفضل تصوره للكون والإنسان بهذا المقياس، يزودنا في الوقت نفسه بوسيلة دائمة لمعرفة الحسن أو القبح الخلقي. والإسلام لم يحصر علمنا بالأخلاق على العقل أو المشيئة أو التجارب أو العلوم الإنسانية فقط، حتى تتغير أحكامنا الخلقية بتغيير هذه الوسائل الأربع ولا يقر لها قرار أبدا. بل الإسلام يمنحنا مرجعا ثابت الأركان يزودنا بالتعاليم الخلقية في كل حال و زمان، ألا وذلك المرجع هو كتاب الله وسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم. وهذه التعاليم ترشدنا إلى الطريق الأقوم وتضيء لنا الخطة المستقيمة في كل شأن من شؤون الحياة؛ من أتفه المسائل البينية إلى مسائل السياسة الدولية العظيمة ومشاكلها الخطيرة. ونجد فيها انطباقا متسعا لأصول الأخلاق على شؤون الحياة المختلفة لا نحتاج بعده في مرحلة من مراحل الحياة إلى وسيلة للعلم أخرى.

قوة الخشية من الله

ثم نجد في تصور الإسلام هذا، للكون والإنسان. تلك القوة الوازعة التي لا بد لقانون الأخلاق أن يكون مستنِدا إليها؛ وهذه القوة قوة خشية الرب تعالى والإشفاق من المسؤولية الأخروية والخوف من سوء العاقبة في المستقبل السرمدي. ولا ريب أن الإسلام يريد أن يوجِد ويهيء من الهيئة الاجتماعية والرأي العام ما يحمل الأفراد والطبقات ويُجبرهم على القيام بالقواعد الخلقية والدأب عليها، كما يريد أن يقيم نظام سياسيا يتمكن بسلطانه من تنفيذ القانون الخلقي في الناس بالقسر، إلا أن الحقيقة ـ مع ذلك ـ أنه لا يعوّل على هذا الوازع الخارجي مثل ما يعول على الوازع النفسي الذي تنطوي عليه عقيدة الإيمان بالله واليوم الآخر؛ ومن ثَم يريد الإسلام ـ قبل أن يأمر الإنسان بالتقيد بالأحكام الخُلقية ـ أن يلقي في روعه ويلقنه:

“إنما أمرك إلى الله البصير الخبير الذي لا يعزب عنه من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وهو يراك أين ما كنت وكيف ما كنت. يمكنك أن تتوارى من غيره ولا يمكنك أن تتواری منه، وتقدر أن تخدع جميع أفراد البشر ولا تقدر أن تخدعه هو. وتستطيع أن تُعجز كل من في الأرض ولا تستطيع أن تُعجز من خلق السماوات والأرض. إنما ينظر العالم إلى ما يظهر لهم من أعمالك وأخلاقك؛ ولكنه عالم الغيب والشهادة يعرف أسرار النفس ونجوى القلب؛ فمهما أتيت من الأعمال في حياتك الفانية هذه فلا مندوحة لك عن ارتشاف كأس الموت والرجوع إلى المحكمة التي لا تنفعك فيها محاماة ولا ارتشاء ولا شفاعة ولا شهادة زور ولا خديعة ولا غش؛ يوم يضع ربك الموازين بالقسط ويجزي عباده على أعمالهم جزاء وفاقا “.

فالإسلام يثبّت هذه العقيدة ـ عقيدة الإيمان بالله واليوم الآخر ـ في قلب الإنسان فكأنه بذلك يُلقي في رُوعه حارسا من الشرطة الخلقية يدفعه إلى العمل ويحثه على الائتمار بأوامر الله، جل وعلا، سواء عليه أكان في الخارج من الشرطة والمحكمة والسجن ما يحمله على القيام بها أم لا. وهذا الحارس الداخلي وهذا الوازع النفسي هو الذي يشد عضد قانون الإسلام الخلقي ويجعله نافذا بين الناس في حقيقة الأمر. وإن كان مع ذلك من تأييد الحكم والرأي العام ما يسهّل تنفيذه فذلك أجدى وأزکی؛ وإلا فالحقيقة أن هذا الإيمان وحده يضمن هداية الفرد المسلم والأمة المسلمة إلى سواء الطريق، إذا كانت خالطت بشاشته قلوبهم وتغلغلت هذه العقيدة في نفوسهم تغلغلا.

زِد على ذلك أن تصور الإسلام هذا، للكون والإنسان، يهييء عوامل تستحث المرء وتحضّه على العمل وفق ما يقتضيه القانون الخُلقي، وكفى المرء دافعا إلى الإذعان لمرضاة الله وامتثال أوامره أن يُرضى بالله ربا وبعبادته منهجا في الحياة وبرضاه غاية لها.

قوة الإيمان باليوم الآخر

والعامل الآخر الذي يزيد هذا العامل قوة إلى قوته هو الإيمان باليوم الآخر؛ واعتقاده أن من أطاع الله وائتمر بأوامره فطوبى له في الدار الآخرة السرمدية؛ فإنه يفوز بحياة طيبة ومستقبل زاهر ونعيم مقيم، وإن تحمَّل في هذه الدار الفانية من صنوف الأذى والآلام والمصائب والشدائد. وأن من قضى حياته في هذه الدنيا عاصيا الله عاتيا عن أوامره، فلا جَرَم أن مصيره في الآخرة إلى العقاب الصارم والعذاب الدائم، وإن تقلب في الدنيا في صنوف النعم وأنواع الرغد من متاع الحياة الدنيا..

فذانكما الرجاء والخوف إذا اجتمعا في رجل واحد وتمكنا من سويداء قلبه فكأنه نشأ في أعماق فؤاده عامل قوي يقدر أن يحثه على الخير ويبعثه على الاستمساك بعروة الحق في أوقات وأحوال ربما يظهر له فيها أن الاستمساك بالحق يضر بمصالحه في هذه الحياة الدنيا أيما ضرر. وكذلك يقْدر هذا العامل النفسي على أن يقیه منازع السوء ويبعده عن مواضع الفساد والشر في أحوال يتراءى له فيها أن الشرَّ فيه متعة للنفس ومنفعة في هذه الحياة الدنيا.

فالذي يتضح بهذا التفصيل أن الإسلام له تصور خاص للكون، ومقياس للشر والخير، ومرجع لعلم الأخلاق، وقوة منفّذة خاصة به، وعامل يدفع إلى العمل. وهو يختار في هذا الباب طريقة غير طرق سائر النظم الخلقية في العالم؛ فيرتب ـ بمساعدة هذه العوامل نفسها ـ مواد الأخلاق المعروفة وفق مقاديره الخاصة وينفذها في جميع شُعب الحياة ونواحيها؛ فلهذا يسوغ لنا القول بأن الإسلام له نظام خلقي جامع ملائم لطبيعته وتعاليمه.

من خصائص وميزات النظام الخلقي الإسلامي

ولهذا النظام الخلقي خصائص وميزات لا يمكن استيفاؤها في هذا المقام؛ إلا أني أريد أن أذكر ثلاث خصائص بارزة هي زبدتها ولبابها؛ بل الحق أنها من أوّليات الإسلام في باب النظام الخلقي:

فالميزة الأولى: أنه يجعل “ابتغاء وجه الرب ونيل رضاه” غاية منشودة في الحياة الإنسانية، ويجعل بذلك مقياسا ساميا الأخلاق لا يقوم معه في وجه الارتقاء الخلقي شيء يعوقه عن الارتقاء والتقدم. وكذلك يقر مرجعا للعلم، فهو ينعم بذلك على الأخلاق الإنسانية من الثبات والرصانة بما يمكن معه الرقي والازدهار ولا يمكن التلون والتقلب حينا بعد حين. وكذلك يهيء للأخلاق من خشية الله تعالى قوة منفذة تحث الإنسان على القيام والاضطلاع بمقتضياتها من غير أن تكون فيها يد لعامل من العوامل الخارجية. وكذلك يُلقي في رُوع الإنسان ويكون فيه ـ بفضل عقيدة الإيمان بالله واليوم الآخر ـ قوة حثيثة ترعب المرء وتشوقه إلى العمل بقانون الأخلاق من تلقاء نفسه.

والثانية منها: أنه لا يشكّل ولا يوجد بهذا التحريض والترغيب المحض أخلاقا وآدابا مبتكرة غير معهودة. ولا يحاول حطّ بعض الأخلاق الإنسانية المعروفة ورفع بعضها؛ فهو لا يتناول من الأخلاق إلا ما كان معروفا عند جميع الناس؛ حتى لا يغادر من الأخلاق المعروفة صغيرة ولا كبيرة إلا اقتناها وأخذها كلها. ثم يضع كل واحدة منها موضعها من الحياة الإنسانية ويحلها محلها اللائق بها من مسالك الحياة البشرية ويوسع في تطبيقها على الحياة الإنسانية توسيعا عظيما، إلى أن لا تبقى ناحية من نواحي الحياة ولا شعبة من شعبها كالأعمال الفردية والشؤون البيتية والعِشرة المدنية، والشؤون السياسية والاقتصادية والسوق والمدرسة والمحكمة والشرطة والمعسكر وساحة الحرب ومؤتمرات الصلح، وما إلى ذلك من نواحي الحياة الإنسانية الأخرى؛ فلا تبقى ناحية من نواحي الحياة ولا شعبة من شعبها إلا وترى فيها للأخلاق أثرا جامعا متغلغلا في أعماقها.. فالإسلام يجعل عنصر الأخلاق مسيطرا في جميع نواحي الحياة ومهيمنا عليها. وهو يريد بذلك أن ينتزع زمام شؤون الحياة من أيدي الشهوات والأغراض والمصالح، ويضعه بيد الأخلاق الزكية والآداب الحسنة.

والميزة الثالثة: لنظام الإسلام الخلقي أنه يطالب الناس ويلتمس منهم إقامة نظام للحياة ينهض بنيانه على المعروف ولا يشوبه شيء من المنكر؛ فيدعوهم قاطبة إلى أن يقيموا الخيرات ويعمموا الحسنات التي نظرت إليها الإنسانية في كل زمان ومكان بنظر الإكبار والإجلال، وأن يرفضوا ويقضوا على المنكرات التي طالما نظرت إليها الإنسانية بعين الازدراء والاحتقار..

ضياع الخير بضياع الأمة

فهذه الدعوة هي التي دعا إليها الإسلام جميع أبناء البشر؛ فالذين استجابوا له ولبّوا دعوته جمعهم على كلمته الجامعة واتخذ منهم أمة مسلمة، وما كان غرضه بجعْلهم أمة واحدة إلا أن يجمعوا ما في مستطاعهم من الجهود ويسعوا سعيا اجتماعيا في إقامة المعروف وتدعيمه وتعميمه، وكبح جماح المنكر والقضاء عليه واجتثاث شجرته من جذورها.

فإن كانت هذه الأمة قد عادت إلى اقتران المنكر واجتراح السيئات وبدأت تسير سيرة من يقاومون المعروف ويسعون وراء إطفاء نوره، فعلى الدنيا وعلى هذه الأمة السلام، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

…………………………….

المصدر:

  • الأستاذ أبو الأعلى المودودي، كتاب: نظام الحياة في الإسلام، ص12-20.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة