من أمة خاملة لا تحلم بمواجهة أدنى عدو، الى أسد هصور وسادة للحضارة ينتشلون البشرية من ظلمات الدنيا الى نور الدنيا والآخرة.

حال العرب قبل الإسلام

كان العرب قبل الإسلام أمة كادت تكون منعزلة عن العالم، قد فصلتها عن العالم المتمدن المعمور البحار من ثلاث جوانب، وصحراء من جانب، وكانت من الانحطاط والانقسام والضعة والخمول بمكان لا تطمع فيه حينا من الدهر الى غزو البلاد، ولا تحلم بالانتصار على الدول المجاورة لها في المنام، ولا تحدّث به يوما من الأيام.

هذا، ودولتا فارس والروم يومئذ سيدتا العالم، وزعيمتا الشرق والغرب، وقد أحاطت ممتلكاتهما بشبه جزيرة العرب، إحاطة السوار بالمعصم، وإنما زهد الفرس والرومان في فتح هذه الجزيرة لوعورتها، وقلة خيراتها ومواردها، وما يكلفهم ذلك من رجال وأموال، هم في غنى عن انفاقها في هذه الصحراء المجدبة، وفي هذه الأمة الفقيرة، وإنما اكتفوا برقابتهم السياسية عليها، وبإماراتهم التي أنشأوها على ثغور هذه الجزيرة الواسعة ولهواتها. (1لهواتها: أطرافها البعيدة)

هكذا كانت هذه الأمة التي ما كانت لتمثل دورا مدهشا في تاريخ العالم عن قريب، كانت أمة بدوية موهوبة ـ ولكن مواهب ضائعة ـ لا يرفع الناس بأفرادها في العراق والشام ومصر رأسا، اذا مروا بهم تجارا أو ممتارين (2الممتار: من يجلب الميرة وهي الطعام)، ولا يحسبون لهم حسابا، ولا يهمهم شأنهم إلا ما يهم أهل المدن شأن الأعراب المستغربين في اللباس، والصورة واللسان، ولا يذكرونهم ـ إذا ذكروهم ـ إلا بذلاقة لسانهم، وفصاحة منطقهم، وشجاعتهم، وجودة خيلهم، ووفائهم، الى غير ذلك مما قد تعرفه الأمم المتمدنة عن الأمم البدوية.

تغير حال العرب بالإسلام

ولكن سرعان ما تغيرت الأحوال، وانقلبت الحقائق، وبطلت التجارب السابقة، وتاه العقل، إذ خرج هؤلاء الأعراب من صحرائهم، يفتحون، ويَقهرون، ويَغلبون، ويُخضِعون..

تدفق هذا السيل من مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم عاصمة العرب الإسلامية، لإحدى عشرة سنة للهجرة النبوية، واثنين وثلاثين وست مائة لميلاد المسيح، فغلب كلَ شيء اعترضه في الطريق، وطما (3علا وغطى) على السهل والجبل، ولم تكن جيوش فارس والروم ومصر وغيرها المعدودة بمئات الألوف، الشاكة السلاح (4الشاكة السلاح: التامة السلاح أو الحادة السلاح)، الشديدة البطش، التي كانت الأرض تزلزل بها زلزالا، لم تكن هذه الجنود المجندة إلا حشائش في هذا التيار الجارف، فلم تعُقْ سيره، ولم تغير مجراه، حتى فاض في مروج الشام، وفلسطين، وسهول العراق وفارس، وربوع مصر والمغرب الأقصى، وأودية هملايا، سال هذا السيل القوي بالمدنيات العتيقة، والحكومات المنظمة القوية، والأمم العريقة في المجد والسلطان فأصبحت خبرا بعد عين ﴿فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ﴾ [سبأ: 19].

خرج العرب من جزيرتهم فاحتكوا بالفرس والروم، وكان العرب يكرهون وجوههم (5قال الطبري: عندما أراد عمر فتح فارس تخوفوا من الفرس وعجبوا كيف يستطيعون أن يحاربوهم؟ وكان وجه فارس من أكره الوجوه اليهم، وأثقلها عليهم، لشدة سلطانهم وشوكتهم، وعزهم وقهرهم الأمم. (تاريخ الطبري ج 4 ص 61)) ويرهبون سطوتهم في ديارهم، ولكن هانوا عليهم في هذه المرة، فغزوهم في عقر دارهم، ونزلوا لساحتهم، فما لبثوا أن مزقوا جموعهم شر ممزق، وثلوا عروشهم (6ثلوا عروشهم: هدموها) ووطّأوا تيجان ملوكهم، وفتحوا كنوزهم، واقتسموا أموالهم وتراث ملوكهم، وسبوا ذراريهم، ومزّقوا رداء فخرهم وعظمتهم، فلم يُرقّع أبدا، وكسروا شوكتهم، فلم تعد أبدا، وهلك كسرى فلا كسرى بعده، وهلك قيصر فلا قيصر بعده. ﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا﴾ [الأعراف: 137].

خرج هؤلاء العرب من جزيرتهم في ثياب صفيقة مرقعة (7صفيقة: كثيقة النسيج)، ونعال وضيعة مخصوفة (8خصف النعل: خرزها وضم بعضها الى بعض)، يتقلدون سيوفا بالية الأجفان (9الجفن: غمد السيف أي بيته)، رَثّة المحامل، على خيل بعضها عارية الظهور، متقطعة الغرز (10الغرز: ركاب من جلد يضع الرجل رجله فيه ثم يمتطي دابته)، قد بلغ بهم البُعد عن المدنية الى حد أنهم كانوا يحسبون الكافور ملحا، وربما استعمله بعضهم في العجين. (11قال ابن كثير: كان المسلمون يجيئون بعض تلك الدور، فيجدون البيت ملآنا الى أعلاه من أواني الذهب والفضة، ويجدون من الكافور شيئا كثيرا، فيحسبونه ملحا، وربما استعمله بعضهم في العجين، فوجدوه مرا حتى تبينوا أمره (البداية والنهاية ج 7 ص 67))

فما لبثوا أن ملكوا الدنيا، وامتلكوا ناصية أمم بعيدة الشأو في المدنية، انقلب رعاء الشاة والإبل، رعاة لأرقى طوائف البشر في العلم والمدنية والنظام، وصار هؤلاء أساتذتهم في العلوم والآداب، والأخلاق والتهذيب، وحقت كلمه الله: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ [القصص: 5].

اللغز الذي أدهش المؤرخين

هذه القوة القاهرة بعد ذلك الضعف المخزي، وهذا النشاط الغريب بعد ذلك الخمود العجيب، وهذا الانتباه السريع بعد ذلك السبات العميق، لغز من ألغاز التاريخ، وقد اتفقت كلمة المؤرخين على أن هذا الحادث أغرب ما وقع في التاريخ الإنساني، وإليك بعض ما قال المؤرخون الأوربيون:

قول المؤرخ فيشر

يقول مؤرخ عصري “هـ. 1. ل. فيشر” في كتابه تاريخ أوربا:

“لم يكن هنالك ـ في جزيرة العرب قبل الإسلام ـ أثر لحكومة عربية، أو جيش منتظم، أو لطموح سياسي عام. كان العرب شعراء خياليين، محاربين، وتجارا، لم يكونوا سياسيين، إنهم لم يجدوا في دينهم قوة تثبّتهم أو توحّدهم؛ إنهم كانوا على نظام منحط من الشرك..

بعد مائة سنة حمل هؤلاء المتوحشون الخاملون لأنفسهم قوة عالمية عظيمة، إنهم فتحوا سورية ومصر، ودوَّخوا وقلبوا فارس، ملكوا تركستان الغربية، وجزءا من بنجاب، إنهم انتزعوا إفريقية من البيزنطيين والبربر، وأسبانيا من القوط، هددوا فرنسا في الغرب، والقسطنطينية في الشرق، مخرت أساطيلهم المصنوعة في الإسكندرية وموانئ سوريا، مياه البحر المتوسط، واكتسحت الجزائر اليونانية، وتحدَّت القوة البحرية للإمبراطورية البيزنطية. لم يقاومهم إلا الفرس وبربر جبال الأطلس، إنهم شقوا طريقهم بسهولة حتى صعب في بداية القرن الثامن المسيحي أن يقف في وجههم واقف، ويعرقل سيرهم في الفتح والاستيلاء، لم يعُد البحر المتوسط بحر الروم، بل أصبح حوضا عثمانيا لا سيطرة فيه لغير الترك، ووجدت الدول النصرانية من أقصى أوربا الى أقصاها منذرة مهددة بحضارة شرقية مبنية على دين شرقي”. (12حاضر العالم الاسلامي ج. 1. تعريب الاستاذ عجاج نويهض مقدمة في نشوء الاسلام)

ويقول مؤلف شيوعي:

“إن الإنسان ليدهش إذا تأمل السرعة الغربية التي تغلب بها طوائف صغيرة من الرحالين، الذين خرجوا من صحراء العرب ـ مشتعلين بحماسة دينية ـ على أقوى دولتين في الزمن القديم، لم يمض خمسون سنة على بعثة محمد، صلى الله عليه وسلم، حتى غرز أتباعه علم الفتح على حدود الهند في جانب، وعلى ساحل البحر الأطلانطيكي في جانب آخر.

إن (خلفاء) دمشق الأولين حكموا على امبراطورية، لم تكن لتقطع في أقل من خمسة أشهر على أسرع جمل. وحتى نهاية القرن الأول للهجرة كان الخلفاء أقوى ملوك العالم..

كل نبي جاء بمعجزات آية لما يقول، وبرهانا على صدقه، ولكن محمدا، صلى الله عليه وسلم، هو أعظم الأنبياء وأجلُّهم، إذ كان انتشار الإسلام أكبر آيات الأنبياء وأروعها إعجابا وخرقا للعادة، إن إمبراطورية أغسطس الرومية بعدما وسعها بطلها “تراجان” نتيجة فتوح عظيمة في سبعة قرون، ولكنها لا تساوي المملكة العربية التي أسست في أقل من قرن. إن إمبراطورية الإسكندر لم تكن في اتساعها إلا كسرا من كسور مملكة الخلفاء الواسعة. إن الإمبراطورية الفارسية قاومت الروم زهاء ألف سنة، ولكنها غلبت وسقطت أمام “سيف الله” في أقل من عشر سنوات”. (13H. L. FISHER: “A. History of Europe ” P. P. 137-138)

خاتمة

يحتاج المسلمون الى أن يراجعوا الحدث الخاص بهم وبوجودهم وسبب انطلاقهم. نعم إنه الإسلام. فلماذا لا يعمله اليوم عمله..؟

تلك نقطة تحتاج الى مراجعة ليعرفوا كيف يمتلكون الدين نفسه ويختلف الواقع والمنهج..! ولهذا حديث آخر.

…………………….

الهوامش:

  1. لهواتها: أطرافها البعيدة.
  2. الممتار: من يجلب الميرة وهي الطعام.
  3. علا وغطى.
  4. الشاكة السلاح: التامة السلاح أو الحادة السلاح.
  5. قال الطبري: عندما أراد عمر فتح فارس تخوفوا من الفرس وعجبوا كيف يستطيعون أن يحاربوهم؟ وكان وجه فارس من أكره الوجوه اليهم، وأثقلها عليهم، لشدة سلطانهم وشوكتهم، وعزهم وقهرهم الأمم. (تاريخ الطبري ج 4 ص 61).
  6. ثلوا عروشهم: هدموها.
  7. صفيقة: كثيقة النسيج.
  8. خصف النعل: خرزها وضم بعضها الى بعض.
  9. الجفن: غمد السيف أي بيته.
  10. الغرز: ركاب من جلد يضع الرجل رجله فيه ثم يمتطي دابته.
  11. قال ابن كثير: كان المسلمون يجيئون بعض تلك الدور، فيجدون البيت ملآنا الى أعلاه من أواني الذهب والفضة، ويجدون من الكافور شيئا كثيرا، فيحسبونه ملحا، وربما استعمله بعضهم في العجين، فوجدوه مرا حتى تبينوا أمره (البداية والنهاية ج 7 ص 67).
  12. حاضر العالم الاسلامي ج. 1. تعريب الاستاذ عجاج نويهض مقدمة في نشوء الاسلام.
  13. H. L. FISHER: “A. History of Europe ” P. P. 137-138.

 المصدر:

  • المؤلف: علي أبو الحسن بن عبد الحي بن فخر الدين الندوي (المتوفى: 1420هـ)، الكتاب: إلى الإسلام من جديد، 37-47.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة