تتبدى وحشية القيادة الحالية للبشرية؛ تلك التي تفرض منظومتها عبر العولمة، فتدمر حياة الأمم وتضيق بالفقراء، وتفتقد الرحمة. خطورة يأباها الإسلام.

قيادة وحشية

بعد بيان طبيعة العولمة تاريخيا (المقال الأول)، ثم بيان خطورة وطبيعة العولمة الاقتصادية وفحش دورها الاخطبوطي اليوم، ومن ثَم تنامي دورها السياسي وتدخلها في شكل الأنظمة وأشخاص الحكام.. (المقال الثاني).

ثم بيان العولمة الإعلامية والثقافية وخطورتها على تغيير الأنماط الحضارية ومنظومة القيم لبقية الأمم وخاصة للمسلمين لما يمثله المسلمون من تحد حضاري ومنظومة قيمية متماسكة. (المقال الثالث).

وفي هذا المقال ـ الأخير في السلسلة ـ يتناول العولمة الاجتماعية.

العولمة الاجتماعية

تتحدد معالم هذه “العولمة” ومظاهرها من خلال مؤتمرات دولية كان الغرض منها “تأطير الأنماط السلوكية الشاذة” التي تتعارض مع الفطرة الإنسانية ونشرها، والتسلُّل لاحتواء موارد الدول الفقيرة واستغلالها لصالح المؤسسات المالية الغربية.

ففي شهر سبتمبر (أيلول) لعام 1994م عُقد في “القاهرة” المؤتمر العالمي للسكان والتنمية، وفي شهر سبتمبر (أيلول) لعام 1995م عقد في “بكين” مؤتمر المرأة، وفي شهر يونيو (حزيران) 1996م انعقد في إستانبول مؤتمر الإيواء البشري.

وهذه المؤتمرات أطَّرتها منظمة “الأمم المتحدة”، وهي “الذراع التنفيذي” لمخططات الولايات المتحدة وحليفاتها في أوروبا.

وإن كانت الشعارات التي دأبت “الأمم المتحدة” على رفعها وفق دعايتها هي تحسين أوضاع العالم الاقتصادية والتجارية والعمرانية والاجتماعية، لكن حقيقة الأمر بخلاف ذلك؛ بل إن هذه المؤتمرات أداة ووسيلة تستخدمها “الليبرالية الجديدة” للسيطرة على العالم فكرياً واقتصادياً من خلال تأطير السلوك الاجتماعي، واستبعاد الجوانب “الأخلاقية” في السلوك الاقتصادي وفق منظور خاص يخدم مصالحها الأيديولوجية والاقتصادية.

الإجراءات التنفيذية للمؤتمرات تدل على حقيقتها

على أن الإجراءات التنفيذية التي رسمتها هذه المؤتمرات تدل دلالة واضحة على ذلك؛ ففي مؤتمر “الإيواء البشري” في إستانبول تم الاتفاق على مجموعة من الالتزامات تتضمنها وثيقة المؤتمر منها:

أ – التأكيد في البنود رقم: (140، 147، 150) من الوثيقة على ربط “السلطات المحلية” بالسوق المالي الدولي، ومؤسسات الإقراض الخاصة بالشؤون البلدية، مع العمل على توفير البنية التي تسمح للاقتصاد الدولي بالنمو والمساهمة في بناء البنية التحتية لمشاريع الإيواء وتكوين المراكز الحضارية. (1)

ب – تغيير قوانين الملكية الخاصة بالأراضي: سواء الزراعية أو السكنية، وقوانين الإسكان والإيجارات، وفتح باب سوق شراء وبيع العقارات، وإزالة جميع العوائق الخاصة بتوفير المناخ الملائم لحرية السوق العقاري “البند رقم 56 من الوثيقة”. (2)

ج – توسيع نظام الإقراض، وتمكين المؤسسات المالية العالمية من التغلغل في دول العالم الثالث من خلال عمل شبكة من البنوك، وربط تمويل توفير المباني والبنية التحية لمشاريع الإسكان بالإقراض الخارجي “البند رقم 30”. (3)

ويتضح من خلال هذه البنود أن ما يحصل من أساليب إجرائية متعددة الأشكال لحل مشاكل اجتماعية واقتصادية هو تمكين لمراكز “النظام الرأسمالي” من إعادة احتواء “دول العالم المتخلفة” وإعادة امتصاص قواها؛ طبقاً لمنطق تراكم رأس المال في تلك المراكز.

والأخطر من ذلك أن هذه الإجراءات تؤدي حتماً إلى تآكل “السيادة الوطنية” التي تعدّ عاملاً كبيراً من عوامل تميز الهوية القومية للشعوب والأمم.

آثار وحشية، ومدمرة

والحقيقة التي يجب أن تُذكر هنا هي أن هذه الأوضاع الجديدة ستعمق الهوة بين الفئات الاجتماعية وتزيد من معاناة الفقراء والمعوزين في مجتمعاتنا؛ ذلك أن “آليات السوق” التي تقوم عليها الفكرة الأساس “للرأسمالية” أو “الليبرالية” هي:

“أن من لا يستطيع كسب قوته يجب أن يموت”

فهناك أصوات في الغرب تنادي بأن المليار من فقراء العالم الثالث زائدون عن الحاجة؛ وعليه فلا مسوِّغ لوجودهم ولا حاجة إليهم ضمن مفهوم فلسفة: “البقاء للأقوى”.

ولذا نجد الدعوة المستمرة لتغيير “مفهوم الأسرة”، والدعوة إلى “الإجهاض”، و”قتل العَجَزة”، وغير ذلك من الدعوات غير الأخلاقية وغير الإنسانية التي ما هي إلا نتيجة العبثية الرأسمالية العلمانية. (4)

أما في مجال “الأسرة” التي تعدّ النواة الرئيسة لبناء المجتمع؛ فنجد أنفسنا في مؤتمر بكين للمرأة أمام توصيات تدعو إلى نشر “التعليم الجنسي”، وإدماج كل أشكال الانحراف من “الزنا” إلى “الشذوذ”؛ لتصبح أوضاعاً طبيعية. (5)

وقد تم تعبيد الطريق لهذه التوصيات لتتحول إلى قرارات ملزمة في مؤتمر “الإيواء البشري” الذي انعقد بعد ذلك بسنة في “إستانبول”؛ حيث ينص البند رقم (18) من وثيقة المؤتمر على”

“شمول الإيواء لمختلف أشكال الأُسَر”

والمقصود من ذلك منح الشاذين جنسياً الذين يكوِّنون فيما بينهم أُسَراً، وتلك الأشكال من العلاقات بين الرجال والنساء الذين لا يرتبطون بعلاقات شرعية منحهم جميعاً مساكن للإيواء. (6)

بين هزيمة الجيوش وانكسار الشعوب

إن أخطر أنواع العولمة هي تلك “العولمة الطوعية” التي يدخل فيها الفرد باختياره وبملء إرادته؛ إذ توجد “عولمة لا شعورية” “تلقائية” يصل فيها المرء باختياره إلى الانهزامية والاستلاب في مواجهة النموذج الغازي..

ولعل ذلك هو ما يقرره ابن خلدون في “مقدمته” أن المغلوب مولَع بتقليد الغالب.

لذلك ينبغي أن نفرِّق بين “هزيمة الجيوش” في ساحة المعارك، و”انكسار الأمم والشعوب” في مجال الأفكار والقيم؛ إذ إنّ الأولى في بُعدها العسكري هي تعبير عن طبيعة الحروب؛ فالمعارك ما هي إلا كرّ وفرّ وفقاً للسنة الإلهية: ﴿وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس﴾ (آل عمران: 140).

أما انكسار الأمم وهزيمة الشعوب النفسية فهي قاصمة الظهر.

ولعلّ ذلك ما علمتنا إياه تجربة التاريخ في حروب الفرنجة: “الحروب الصليبية”؛ فعلى الرغم مما حققته تلك الحروب خلال غزواتها المتعددة ومكوثها في بلادنا بين القرنين السابع والتاسع للهجرة الموافق للقرنين الثاني عشر والثالث عشر للميلاد؛ فقد استطاعت تلك الحملات الهمجية أن تُعمِلَ السيف في رقاب مئات الألوف، واستطاعت أن تمزق وتجزِّئ وتفسد في الأرض الإسلامية، ولكن الشيء الذي لم تستطع أن تفعله هو تخريب النمط العقدي والفكري والاجتماعي والحضاري ذي الطابع الإسلامي للبلاد؛ وهو الأمر الذي أبقى السلطة الفرنجية خارج المجتمع، على الرغم من أن حربها وسيوفها تغلغلت في داخل المجتمع الإسلامي.

لقتد أثبتت تلك التجربة أن الإسلام حين يبقى في قلوب الناس وفي شرايين حياتهم يشكل “حالة مقاومة مستمرة” تجعل الاحتلال أمراً مرفوضاً ومؤقتاً مهما بلغت سطوته ووصلت درجة قوّته.

ولعل هذا ما يفسر موقف “نابليون” حين اجتاح مصر بجيوشه؛ فقد وجد نفسه في وجه “صَدَفَة مغلقة” لم يستطع أن ينفذ إلى داخلها، ولهذا تظاهر بإعلان إسلامه كذباً حتى يجد له مكاناً في الداخل ليجعل حكمه أمراً قابلاً للاستثمار.

وهكذا كل محتل في ظل “العولمة”.. لا بد له من تحطيم مقومات المجتمع الأصلي “ثوابت، مبادئ، قيم” ثم استحداث مجتمع آخر مكانه يحمل الرؤى الحضارية نفسها؛ وذلك لأن الهيمنة الكاملة غير ممكنة ما لم تُحطَّم المقومات العقدية والحضارية، وتحلّ محلها مقومات التبعية من خلال إقامة “المجتمع الاستهلاكي التابع”، وبذلك تدخل الشعوب في مضمار “العولمة الطوعية”، وهي أخطر أنواع العولمة. (7)

المخرج من التبعية

ومما لا ريب فيه أنّ المخرج من هذه التبعية التي تكرسها العولمة يوماً بعد يوم ينحصر في أمرين:

الأول استعادة الوعي

وهو استعادة الوعي بالهوية الإسلامية، وتحصين العقل المسلم من الاختراق الثقافي والاستلاب الفكري في مجال القيم والمبادئ والأصول الثابتة التي لا غنى عنها في مواجهة خطط تذويب الذات وتدمير البنية التحتية العقائدية والفكرية التي تحفظ للأمة تحصينها واستقلالها..

علماً بأن “الهوية” تعتبر الآن عنصراً هاماً واستراتيجياً بالنسبة لأمن الأمم والدول في إدارتها للصراع والتنافس مع الدول الأخرى.

والمطَّلع على خطط الدول، سواءاً الأمنية أو التنموية؛ يلحظ أن مسألة الهوية تحظى بعناية خاصة؛ لأنها خط الدفاع الأول عن ذاكرة الأمة ولغتها وتاريخها وقيمها الحضارية.

والثاني: الانفتاح في مجال التقنية والعلوم

الانفتاح على الحضارات الأخرى في مجال نقل التقنية وعلوم الوسائل؛ حرصاً على امتلاك القوة في المجالات الاقتصادية والإعلامية والعسكرية لدعم التنمية الشاملة في بلادنا، وذلك بالربط المباشر بين السياسات الفعلية والتربوية وبين سياسات التنمية الشاملة في تلك القطاعات، لتفجير الطاقات الكامنة في المجتمع.

بين ثابت ومتغير

إن التقدم الحقيقي لا يمكن إحرازه إلا بالجمع بين الأصالة والمعاصرة، أو بعبارة أخرى بين الثابت والمتغير:

ثابت يجب الحفاظ عليه ويتضمن اللغة والتاريخ وقيم التنشئة الاجتماعية، ومتغير يفتح المجال للتفاعل مع علوم العصر مع خلق المناخ الملائم للابتكار والإبداع والتجديد

والنموذج الآسيوي “خاصة الياباني” خير مثال على ذلك؛ فاليابان بدأت الطريق إلى التقدم ببناء الإنسان أولاً، ودرس الحضارة الغربية بالنسبة لحاجاتها وضروراتها، وليس بالنسبة لكمالياتها وشهواتها.

فالفارق العظيم بين صلة اليابان بالحضارة الغربية وبين صلتنا بها: أن اليابان وقفت من الحضارة موقف التلميذ، ووقفنا منها نحن موقف الزبون! إنها استوردت منها الآليات والوسائل بوجه خاص، ونحن استوردنا منها الأشياء بوجه خاص.

والأمة العربية الإسلامية إذا أرادت التقدم ورغبت أن تدخل حلبة “السباق الحضاري”؛ فإنه لا سبيل لها إلا أن تقف هذا الموقف المتوازن، فتستفيد مما عند الغرب من تقدم مادي وعلمي، وفي الوقت ذاته تحذر من الذوبان في شخصية الغرب وهويته، وتتفاعل مع قيمها وهويتها الإسلامية.

في هذا السياق فعقيدة الولاء أمر محوري للأمة، فهي الحاجز دون تميع الأمة وذوبانها، فلا بد من استصحابها طول الطريق.

لن تكون مانعا من التقدم العلمي والحضاري بل تمثل التميز الواجب للحق وأهله، والفارق بين المسلمين وغيرهم، والمحدد للرسالة التي يستهدفها المسلمون من التواصل مع غيرهم.

إن حفظ الحق ـ من خلال الهوية القائمة على الولاء ـ رسالة، والوسائل المادية أدوات لإقامة الهوية وتحقيق الرسالة. فيتحقق الحق وسائلَ وغايةً .. والله الموفق للخير.

……………………………………………..

الهوامش:

  1. محمد بن عبد الله الشباني: العولمة الاقتصادية ومؤتمر الإيواء البشري، ص98.
  2. المرجع نفسه، ص98.
  3. المرجع نفسه،ص98.
  4. المرجع نفسه،ص100.
  5. محمد يحيى: تدشين الأممية النسوية العلمانية (قراءة خلفيات مؤتمر المرأة ببكين)، ص98. 
  6. محمد بن عبد الله الشباني : العولمة الاقتصادية، ص97.
  7. المرجع نفسه، ص97.

لقراءة البحث كاملا، على الرابط التالي:

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة