إن الصدق من أجَلِّ الأخلاق وأعظمها، وهو منبع كثير من الفضائل الخُلقية؛ به تميز أهل النفاق من أهل الإيمان، وأهل الجنان من أهل النيران، وهو سيف الله في أرضه الذي ما وضع على شيء إلا قطعه، ولا واجه باطلاً إلا أرداه وصرعه.

الصدق مع الخلق

أ. عن الفريابي : حدثني أبو بكر سعید بن يعقوب الطالقاني، حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن الأوزاعي، عن هارون بن رئاب، أن عبد الله بن عمرو لما حضرته الوفاة قال: «انظروا فلانة – لرجل من قريش – فإني كنت قلت له في ابنتي قولا كشبيه العدة، وما أحب أن ألقى الله تعالی بثلث النفاق ، وأشهدكم أني قد زوجته»1(1) سير أعلام النبلاء (8/396). .

ب. عن جریر بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: «بایعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم»2(2) البخاري ك الإيمان (57)/ فتح (1/166 )، ومواضع أخرى، ومسلم ك الإيمان (56)/(1/75). . وزاد ابن حبان : «فكان جرير بن عبد الله إذا بايع أحدا قال: اعلم يا أخي أن ما أخذنا منك خير مما أعطيناك فاختر». كل هذا من النصح والصدق للمسلم والصدق مع الناس .

الصدق مع النفس

عن جعفر بن برقان قال: «بلغني عن يونس بن عبید فضل وصلاح فكتبت إليه: يا أخي بلغني عنك فضل وصلاح فأحببت أن أكتب إليك، فاكتب إلي بما أنت عليه. فكتب إلي: أتاني كتابك تسألني أن أكتب إليك بما أنا عليه، وأخبرك أني عرضت على نفسي أن تحب للناس ما تحب لها وأن تكره لهم ما تكره لها؛ فإذا هي من ذلك بعيد، ثم عرضت عليها مرة أخرى ترك ذكرهم إلا من خير ؛ فوجدت الصوم في اليوم الحار الشديد الحر بالهواجر بالبصرة أيسر عليها من ترك ذكرهم، هذا أمري يا أخي والسلام»3(3) صفوة الصفوة ( 3/303)..

الصدق في قول كلمة الحق

قال أبو الفرج ابن الجوزي: «أقام جوهر القائد4(4) هو أحد قادة دولة بني عبيد الباطنية في مصر. لأبي تمیم صاحب مصر أبا بكر النابلسي، وكان ينزل الأكواخ، فقال له : بلغنا أنك قلت : إذا كان مع الرجل عشرة أسهم، وجب أن يرمي في الروم سهما، وفينا تسعة، قال : ما قلت هذا، بل قلت : إذا كان معه عشرة أسهم، وجب أن يرميگم بتسعة، وأن يرمي العاشر فيكم أيضا، فإنكم غيرتم الملة، وقتلتم الصالحين، وادعيتم نور الإلهية، فشهره ثم ضربه، ثم أمر يهوديا فسلخه».

وقال الذهبي في ترجمته لأبي بكر النابلسي: «قال أبو ذر الحافظ : سجنه بنو عبيد، وصلبوه على السنة، سمعت الدارقطني يذكره، ويبكي، ويقول : كان يقول وهو يسلخ : ﴿كَانَ ذَٰلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا﴾ [الإسراء: 58] »5(5) سير أعلام النبلاء ( 16/148). .

الصدق مع الله عز وجل في الثبات على الإيمان والصبر على البلاء

أ- قصة أصحاب الأخدود والساحر والراهب والغلام

وفي هذه القصة من الصدق والإيمان الحق الشيء العظيم، فإن شئت رأيت ذلك في الراهب الذي قطع بالمنشار ليرجع عن دينه فلم يرجع، وإن شئت رأيت ذلك في جليس الملك الذي فعل به ما فعل بالراهب، وإن شئت وجدت ذلك في الغلام الذي هدد بجميع أصناف القتل فاستعلى على ذلك وأنجاه الله، حتى إذا رأى أن في قتله إيمان الناس من حوله فتح ذراعيه للقتل باذلا نفسه لربه عزوجل، وإن شئت وجدت ذلك الصدق العظيم في المؤمنين الذين حرقوا بالنار ليرجعوا عن دينهم فاستعلوا على ذواتهم وعلى الحياة بأسرها وأقدموا على النيران المتأججة ليسقطوا فيها فداء لدينهم وشراء الرضوان الله عزوجل وجنته.

والقصة طويلة أوردها الإمام مسلم في الحديث (3005) في كتاب الزهد والرقائق، نقتطع الشاهد منها، وذلك من قوله : «فجيء بالراهب فقيل له: ارجع عن دينك فأبی. فدعا بالمنشار . فوضع المنشار في مفرق رأسه. فشقه حتى وقع شقاه. ثم جيء بجليس الملك فقيل له : ارجع عن دينك فأبي. فوضع المنشار في مفرق رأسه. فشقه به حتى وقع شقاه . ثم جيء بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك فأبی. فدفعه إلي نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا . فاصعدوا به الجبل. فإذا بلغتم ذروته، فإن رجع عن دينه، وإلا فاطرحوه. فذهبوا به فصعدوا به الجبل. فقال : اللهم أكفنيهم بما شئت. فرجف بهم الجبل فسقطوا .

وجاء يمشي إلى الملك . فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله. فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور، فتوسطوا به البحر . فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه. فذهبوا به . فقال: اللهم أكفنيهم بما شئت. فانكفأت بهم السفينة فغرقوا. وجاء يمشي إلى الملك. فقال له المي: ما فعل أصحابك ؟ قال: كفانيهم الله. فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به . قال : وما هو ؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد. وتصلبني على جذع. ثم خذ سهما من كنانتي . ثم ضع السهم في كبد القوس . ثم قل: بسم الله رب الغلام، ثم ارمني ؛ فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني. فجمع الناس في صعيد واحد، وصلبه على جذع، ثم أخذ سهما من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس، ثم قال : بسم الله رب الغلام، ثم رماه فوقع السهم في صدغه ، فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات. فقال الناس: آمنا برب الغلام. آمنا برب الغلام. آمنا برب الغلام. فأتي الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر؟ قد والله نزل بك حذرك ؛ قد آمن الناس. فأمر بالأخدود في أفواه السكك فخدت وأضرم النيران، وقال: من لم يرجع عن دينه فاحموه فيها. أو قيل له: اقتحم. ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها ، فتقاعست أن تقع فيها ، فقال لها الغلام: يا أماه اصبري، فإنك على الحق»6(6) مسلم ك الزهد (3005) / (4/2299)..

ب – ماشطة ابنة فرعون

عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «لما كانت الليلة التي أسري بي فيها وجدت رائحة طيبة فقلت: ما هذه الرائحة الطيبة يا جبريل؟

قال: هذه رائحة ماشطة بنت فرعون وأولادها قلت: ما شأنها ؟ قال: بينما هي تمشط بنت فرعون ذات يوم إذ سقطت المدرى من يدها، فقالت: بسم الله، قالت بنت فرعون: أبي؟ فقالت: لا ولكن ربي ورب أبيك الله ، قالت: أخبره بذلك؟ قالت: نعم، فأخبرته فدعاها، وقال: يا فلانة وإن لك ربا غيري؟!! قالت: نعم ربي وربك الله، فأمر ببقرة من نحاس فأحمیت، ثم أمر أن تلقى هي وأولادها فيها، قالت له: إن لي إليك حاجة ، قال: وما حاجتك؟ قالت: أحب أن تجمع عظامي وعظام ولدي في ثوب واحد وتدفننا، قال: ذلك لك علينا من الحق، قال: فأمر بأولادها فألقوا بين يديها واحدا واحدا، إلى أن انتهى ذلك إلى صبي لها مرضع وكأنها تقاعست من أجله ، قال: يا أمه اقتحمي؛ فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فاقتحمت»7(7) أحمد (1/309 ) وصححه أحمد شاكر (2822) (4/295). .

الهوامش

(1) سير أعلام النبلاء (8/396).

(2) البخاري ك الإيمان (57)/ فتح (1/166 )، ومواضع أخرى، ومسلم ك الإيمان (56)/(1/75).

(3) صفوة الصفوة ( 3/303).

(4) هو أحد قادة دولة بني عبيد الباطنية في مصر.

(5) سير أعلام النبلاء ( 16/148).

(6) مسلم ك الزهد (3005) / (4/2299).

(7) أحمد (1/309 ) وصححه أحمد شاكر (2822) (4/295).

اقرأ أيضا

الإخلاص والصدق من علامات صلاح السريرة

علاج القرآن .. لمرض “افتقاد الصدق”

نظرات تربوية في خلق الصدق .. حقيقته وأنواعه

خُلق الصدق .. فضله وأهميته

 

التعليقات غير متاحة