نستعرض بعض المواقف الصادقة التي أثمرها الصدق مع الله عز وجل والصدق مع دينه سبحانه، وهي على سبيل المثال لا الحصر وإلا فمواقف أنبياء الله عز وجل والتابعين لهم بإحسان كلها مواقف صدق وإخلاص وتضحية.

أمثلة في الصدق مع الله عز وجل في الجهاد والوفاء بالعهد

صديق الأمة الأكبر رضي الله عنه

إنه أبو بكر الصديق رضي الله عنه والذي اتسمت حياته كلها بالصدق والإخلاص والتضحية والبذل والمحبة الصادقة لله عز وجل ولنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ومن أجل ذلك استحق هذا اللقب الشريف من رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي سبق به غيره من المؤمنين، ومن أجل ذلك فاق إيمانه إيمان الأمة، وبه فضل على الناس جميعا سوى الأنبياء .

ولا يعني هذا أن ليس في الأمة صديق إلا أبا بكر رضي الله عنه ، کلا ، بل الصديقون في هذه الأمة كثير ، وفي مقدمتهم الخلفاء الراشدون والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، ولكن أبا بكر رضي الله عنه قد حاز الكمال في الصديقية، وكل من وصل إلى رتبة الصديقية فهو دون أبی بکر عدا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

مثال في صدق العزائم

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «غزا نبي من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، فقال لقومه: لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولا يبن بها، ولا أحد بنى بيوتا لم يرفع سقوفها، ولا آخر اشترى غنما أو خلفات وهو ينتظر ولادها . فغزا فدنا من القرية صلاة العصر أو قريبا من ذلك، فقال للشمس: إنك مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علينا، فحبست حتى فتح الله عليه، فجمع الغنائم فجاءت – يعني النار – لتأكلها فلم تطعمها ، فقال: إن فيكم غلولا فليبايعني من كل قبيلة رجل، فلزقت يد رجل بيده فقال : فيكم الغلول فلتبايعني قبيلتك، فلزقت يد رجلين أو ثلاثة بيده فقال: فيكم الغلول. فجاءوا برأس بقرة من الذهب، فوضعها فجاءت النار فأكلتها، ثم أحل الله لنا الغنائم؛ رأى ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا»1(1) البخاري ك الخمس (3124)/ فتح (6/ 254)، مسلم ك الجهاد (1747)/ (3/136). متفق عليه. الخلفات، بفتح الخاء المعجمة وكسر اللام : جمع خلفة وهي الناقة الحامل.

أنس بن النضر رضي الله عنه

– قصة أنس بن النضر في غزوة أحد وما نزل فيه من القرآن في قوله تعالى: ﴿مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ… الآية﴾ [الأحزاب:23] .

عن شداد بن الهاد أن رجلا من الأعراب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه ثم قال: أهاجر معك، فأوصى به النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه ، فلما كانت غزوة غنم النبي صلى الله عليه وسلم سبيا فقسم وقسم له، فأعطى أصحابه ما قسم له وكان يرعى ظهرهم فلما جاء دفعوه إليه فقال: ما هذا؟ قالوا: قسم قسمه لك النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخذه فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال ما هذا؟ قال: قسمته لك، قال: ما على هذا اتبعتك، ولكن اتبعتك على أن أرمى إلى ماهنا – وأشار إلى حلقه – بسهم فأموت فأدخل الجنة . فقال: «إن تصدق الله يصدقك.. فلبثوا قليلا ثم نهضوا في قتال العدو فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم يحمل قد أصابه سهم حيث أشار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أهو هو؟»، قالوا: نعم، قال: «صدق الله فصدقه»، ثم كفنه النبي صلى الله عليه وسلم في جبته ثم قدمه فصلى عليه، فكان فيما ظهر من صلاته : «اللهم هذا عبدك خرج مهاجرا في سبيلك فقتل شهيدا، أنا شهيد على ذلك»2(2) النسائي ك الجنائز ب الصلاة على الشهداء (4/ 60)..

وفي هذه القصة فضل احتساب جميع الأجر من الله في الآخرة والعزوف عن كل عرض دنیوي يأتي من وراء الدعوة والجهاد .

البكاؤون

وهم الذين جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليحملهم معه في غزوة تبوك فاعتذر منهم بعدم الكفاية في الظهر، فانصرفوا باكين لا لفوات دنیا ولكن لتخلفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجهاد معه والفوز بالثواب والأجر العظيم، فقال تعالى عاذرا لهم: ﴿وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ﴾ [التوبة: 92].

واثلة بن الأسقع رضي الله عنه

– ومن ترجمة واثلة بن الأسقع رضي الله عن: عن محمد بن سعد قال: «أتي واثلة رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى معه الصبح. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلی وانصرف تصفح أصحابه . فلما دنا من واثلة قال: من أنت؟ فأخبره فقال: ما جاء بك؟ قال: جئت أبايع . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيما أحببت وكرهت؟ قال : نعم. قال: فيما أطقت؟ قال: نعم. فأسلم وبايعه.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز يومئذ إلى تبوك فخرج واثلة إلى أهله فلقي أباه الأسقع فلما رأى حاله قال : قد فعلتها؟ قال نعم. قال أبوه : والله لا أكلمك أبدا. فأتی عمه فسلم عليه فقال: قد فعلتها؟ قال: نعم. قال: فلامه أيسر من ملامة أبيه وقال: لم يكن ينبغي لك أن تسبقنا بأمر . فسمعت أخت واثلة كلامه فخرجت إليه وسلمت عليه بتحية الإسلام. فقال واثلة: أني لك هذا يا أخية؟ قالت: سمعت كلامك وكلام عمك فأسلمت. فقال: جهزي أخاك جهاز غاز فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم على جناح سفر. فجهزته فلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم قد تحمل إلى تبوك وبقي غبرات من الناس وهم على الشخوص فجعل ينادي بسوق بني قينقاع: من يحملني وله سهمي؟ قال: وكنت رجلا لا رحلة بي . قال : فدعاني کعب بن عجرة فقال: أنا أحملك عقبة بالليل وعقبة بالنهار ويدك أسوة يدي وسهمك لي. فقال واثلة: نعم . قال واثلة: جزاه الله خيرا لقد كان يحملني ويزيدني وآكل معه ويرفع لي، حتى إذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك بدومة الجندل خرج کعب في جيش خالد وخرجت معه فأصبنا فيئا كثيرا فقسمه خالد بيننا فأصابنی ست قلائص، فأقبلت أسوقها حتى جئت بها خيمة كعب بن عجرة فقلت: اخرج رحمك الله فانظر إلى قلائصك فاقبضها، فخرج وهو يبتسم ويقول: بارك الله لك فيها ما حملتك وأنا أريد أن آخذ منك شيئا»3(3) صفة الصفوة (1/ 674)..

عبد الله بن المبارك

– وقال محمد بن المثنى: حدثنا عبد الله بن سنان قال: «كنت مع ابن المبارك، ومعتمر بن سليمان بطرسوس، فصاح الناس: النفير ، فخرج ابن المبارك والناس، فلما اصطف الجمعان، خرج رومي، فطلب البراز، فخرج إليه رجل، فشد العلج عليه فقتله، حتى قتل ستة من المسلمين، وجعل يتبختر بين الصفين يطلب المبارزة، ولا يخرج إليه أحد، فالتفت إلى ابن المبارك ، فقال : يا فلان، إن قتلت فافعل كذا وكذا، ثم حرك دابته، وبرز للعلج، فعالج معه ساعة، فقتل العلج، وطلب المبارزة، فبرز له علج آخر فقتله حتى قتل ستة علوج، وطلب البراز، فكأنهم کاعوا عنه، فضرب دابته، وطرد بين الصفين، ثم غاب ، فلم نشعر بشيء، وإذا أنا به في الموضع الذي كان، فقال لي: يا عبد الله لئن حدثت بهذا أحدا، وأنا حي، فذكر كلمة4(4) سير أعلام النبلاء (8/ 408). .

صاحب عبد الله بن قيس

– وعن عبد الله بن قيس أبو أمية الغفاري قال: «كنا في غزاة لنا فحضر عدوهم، فصيح في الناس، فهم يثوبون إلى مصافهم، إذا رجل أمامي، رأس فرسي عند عجز فرسه، وهو يخاطب نفسه ويقول: أي نفس ألم أشهد مشهد كذا وكذا فقلت لي: أهلك وعيالك، فأطعتك ورجعت؟ ألم أشهد مشهد كذا وكذا فقلت: أهلك وعيالك، فأطعتك ورجعت؟ والله لأعرضنك اليوم على الله، أخذك أو تركك. فقلت: لأرمقنه اليوم. فرمقته فحمل الناس على عدوهم فكان في أوائلهم. ثم إن العدو حمل على الناس فانكشفوا فكان في حماتهم، ثم إن الناس حملوا فكان في أوائلهم، ثم حمل العدو وانكشف الناس فكان في حماتهم. قال: فوالله مازال ذلك دأبه حتى رأيته صريعا. فعددت به وبدابته ستين، أو أكثر من ستين، طعنة5(5) صفة الصفوة (4/ 421)..

الهوامش

(1) البخاري ك الخمس (3124)/ فتح (6/ 254)، مسلم ك الجهاد (1747)/ (3/136).

(2) النسائي ك الجنائز ب الصلاة على الشهداء (4/ 60).

(3) صفة الصفوة (1/ 674).

(4) سير أعلام النبلاء (8/ 408).

(5) صفة الصفوة (4/ 421).

اقرأ أيضا

نظرات تربوية في خلق الصدق .. حقيقته وأنواعه

خُلق الصدق .. فضله وأهميته

علاج القرآن .. لمرض “افتقاد الصدق”

من مجالات الصدق: صدق النية

 

التعليقات غير متاحة