في الجزء الأول من المقال تم بيان مصطلح الشيعة ثم مصطلح الرافضة وإشارة الى حجم التشويه والروايات المكذوبة في ذلك، وموقف المسلم من حجم التشويه المكذوب..

سـبـل المعـالـجـة

أما سبل المعالجة لهذه القضية فتتمثل في تذكير المسلمين بالمنهج الواجب اتباعه عند النظر في فقه تاريخ الصحابة بدلا من الاستغراق في مناقشة مسائل جزئية والدخول في جدل الإثبات والنفي مع أصحاب الأهواء والنزعات المختلفة.

وهذا المنهج قام بتأصيله علماء أهل السنة تأصيلا فقهيا على أساس الكتاب والسنة، كما تؤصل جميع الأحكام الشرعية.

وبذلك أصبح تاريخ الصحابة والحكم فيه من عمل المحدّثين والمؤرخين المسلمين، وأصبح لزاما على كل باحث ومؤرخ مسلم أن يرد جميع ما جاءت به الأخبار عن الأصحاب والعلاقة بينهم وبين آل البيت إلـى هذا المنهج وعلى شرطه.

لا سيما وأن هذا الأمر غدا في العصر الحاضر ضرورة يفرضها جهل كثير من المسلمين بذلك المنهج، وما يؤدي إليه هذا الجهل من شك واضطراب في الموازين وبلبلة في الأفكار، مما يدفع إلى الإقرار بما يُفترى به على الصحابة وآل البيت، بل إلى الوقوع فيهم مع الواقعين، فيقع المسلم في الإثم أو تحت حد من حدود الله وهو لا يدري.

ويعني منهج فقه تأريخ الصحابة تلك الضوابط والأحكام الشرعية التي يمكن من خلالها التعامل مع تاريخ الصحابة، ويتكون هذا الفقه من مجموعة من الأحكام المستمدة من مصادر التشريع الأساسية وهي الكتاب والسنة والإجماع.

وللاستدلال على هذه الأحكام أو على هذا الفقه، نظر الفقهاء والمحدثون في كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) فوجدوا جملة من هذه النصوص منصوصا عليها بنصوص صريحة قطعية الدلالة فأخذوها كما هي، وبعضها الآخر استنبطوه من جملة النصوص الشرعية أو بعضها.

من أحكام التعامل مع تاريخ الصحابة

منزلة آل البيت، وعدالة الصحابة، والواجب لهم على المسلمين، وتعريف سبهم، وحكم من سبهم، والخائضون في هذا السب باسم النقد العلمي وحرية البحث. وسأذكر هذه الأحكام بإيجاز..

 أولا: منزلة آل بيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم)

لا ينكر الوصية بأهل بيت النبي (صلى الله عليه وسلم) وهم قرابته وأزواجه إلا جاهل بمكانتهم في الكتاب و السنة. إذ أمر الله تعالى ونبيه (صلى الله عليه وسلم) بالإحسان إليهم واحترامهم وإكرامهم؛ فإنهم من ذرية طاهرة، من أشرف بيت وجد على وجه الأرض فخرا وحسبا ونسبا، ولاسيما إذا كانوا متبعين للسنة متمسكين بها، كما كان عليهم سلفهم : كالعباس وبنيه، وآل علي، وآل عقيل، وآل جعفر.. رضي الله عنهم أجمعين.

قال الله عز وجل: ﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ﴾ [الشورى:23]. وهم قرابة النبي (صلى الله عليه وسلم) كما رواه ابن جرير الطبري في تفسيره(1).

وقال تقدست أسماؤه: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ [الأحزاب:33].

وهذا نص في دخول أزواج النبي (صلى الله عليه وسلم) في أهل البيت ها هنا؛ لأنهن سبب نزول هذه الآية، كما ذكر ابن كثير في تفسيره(2).

وهذا النص القرآني يدحض ما ذهب  إليه أصحاب الأهواء بأن نساء النبي لسن من أهل البيت. وقد ثبت في الصحيح أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال في خطبته بغدير خم: “إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي، وإنما لم يفترقا حتى يردا على الحوض”(3).

ولأجل ذلك، فلا جدال بأن آل البيت كانوا قدوة لكل مسلم فيما يتعلق بأمور الدين. ولا مجال للطعن في تدينهم، وصحة عقيدتهم، وسلامة أخلاقهم، كما يفعل النواصب.

ثانيا: منزلة الأصحاب وعدالتهم

لقد دلت النصوص المتواترة على وجوب حبهم وتعظيمهم وتوقيرهم، والاحتجاج بإجماعهم، والاستنان بآثارهم، وحرمة سب أحد منهم، لما شرفهم الله تعالى به من صحبة نبيه (صلى الله عليه وسلم)، والجهاد معه، والصبر على أذى المشركين، والهجرة عن أوطانهم وأموالهم وأولادهم، وتقديم حب الله ورسوله على ذلك كله..

فاستحقوا بذلك الثناء عليهم، والتجاوز عما فرط منهم، إذ نزل الوحي من الله تعالى بأنه رضي عنهم ووعدهم الجنة، وبشرهم الرسول (صلى الله عليه وسلم) بها، ونادى بإجلالهم وتوقيرهم، وأخبر أنهم أمنة أمته ونجومها الذين يقتدى بهم.

ثالثا: الموقف مما روي في قدح الصحابة

من المعلوم أن مذهب أهل السنة والجماعة في أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وسط عدل بين طرفي الإفراط و التفريط، وسط بين الغلاة الذين يرفعون من يعظمونهم من الصحابة من آل البيت إلى مصاف النبيين والمرسلين، ويوجبون لهم العصمة، وبين الجفاة الذين ينتقصون أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) ويشتمونهم ولا يعرفون لهم قدرهم ولا مكانتهم. والرافضة في هذا السياق غلاة وجفاة في آن واحد.

فأهل السنة والجماعة وسط بين أهل الغلو والجفاء يحبون أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) وينزلونهم منازلهم التي يستحقونها بالإنصاف والعدل، فيعرفون لكل فضله وقدره، فلا يرفعونهم إلى ما لا يستحقون، ولا يقْصُرون بهم عما يليق بهم.

وما صح فيما جرى بينهم فهم فيه مجتهدون، إما مصيبون لهم أجران: أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، وإما مخطئون لهم أجر الاجتهاد، وخطؤهم مغفور؛ لأنهم اجتهدوا عن حسن نية. وأنهم ليسوا معصومين، بل هم بشر يصيبون ويخطئون، وقد وعدهم الله تعالى المغفرة والرضوان.

ولأجل ذلك ينبغي صيانة القلم عن ذكر ما نسب إليهم من مساوئ، وإحسان الظن بهم، والترضي عنهم أجمعين، ومعرفة حقهم ومنزلتهم، والتماس أحسن المخارج لما ثبت صدوره من بعضهم.

ثم إن الأخبار المروية عنهم في بعض القضايا المشتبهة لم توضع في سياقاتها الصحيحة، فمنها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه أو نقص منه، حتى تحرف عن أصله وتشوه مضمونه.

ولذلك وجب الإمساك عما شجر بينهم إذا كان الخوض فيما وقع بينهم على سبيل التوسع في الجزئيات وتتبع الظنون والتنقص لفئة والانتصار لأخرى، ونشر ذلك بين العامة وتلاميذ المدارس وطلاب الجامعات الذين التبس عليهم الأمر بسبب الشبهات التي يثيرها أصحاب الأهواء من الرافضة وغيرهم.

أما في ظل الموازين العلمية المستقيمة والمهتدية بالنصوص الشرعية، فان البحث في تاريخ الصحابة لا يمتنع إذا قصد به بيان بعض الأحكام الشرعية، وبيان المواقف الصحيحة، وتصحيح الأخطاء التاريخية التي أثيرت حول مواقف بعضهم من بعض، أو مواقفهم من حروب الفتنة وغيرها.

[للمزيد: عبد الله بن سبأ ـ رأس الرفض ـ خطورة عقائد السبئية وانحرافهم]

رابعا: تعريف سبّ الصحابة وحكمه

والخائضون فيه باسم النقد العلمي وحرية البحث..

فسر القاضي أبو يعلى السبّ الذي يطعن في عدالة الصحابة بقول أنهم ظلموا وفسقوا بعد النبي (صلى الله عليه وسلم)، وأخذوا الأمر بغير حق.(4)

أما حكمه، فيتراوح حسب العلماء. بين التعزير والحبس؛ فقد روي عن الإمام مالك قوله: “من شتم النبي (صلى الله علبه وسلم) قتل، ومن سبّ أصحابه أدب”(5).

وقال الإمام أحمد: “إنه يجب على السلطان تأديبه وعقوبته، وليس  له أن يعفو عنه، بل يعاقبه ويستتيبه”(6).

وقال القاضي عياض: “فسب أحدهم (أي الصحابة) من المعاصي والكبائر، ومذهب الجمهور أن من فعل ذلك يعزر.”(7)

والسبّ المذكور آنفا هو ما أصبح يسميه البعض في العصر الحاضر بالنقد العلمي لتاريخ الصحابة، وهو بعينه السب الذي سب به الروافض والسبئية والباطنية والزنادقة أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم).

وهو السب الذي دسّه الرواة الكذابون، خصوصا من الرافضة في كتب التاريخ الإسلامي.

وهو الطعن الذي نفاه أهل العدل والحق من أهل السنة في تأريخهم للصحابة (رضوان الله عليهم) وهو السب الذي يستحق به أصحابه اللعن من الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وسلم) والبراءة من المسلمين، والحكم عليهم بالجلد أو الحبس وفق ما تقرر آنفا عند العلماء.

[للمزيد: جهود العلماء في تدوين السيرة النبوية، الإفادة من مناهج أهل الحديث]

خدعة “النقد الموضوعي” للصحابة

في الختام أقول إن ما يسمى اليوم بالنقد العلمي الموضوعي لتاريخ صدر الإسلام، والتعريض بالصحابة ولمْزهم لم يخرج قيد أنملة عن السَبّ القديم، وكل ما فعله الطاعنون الجدد هو أنهم أحيوا السبّ الذي أماته أهل السنة لما كانت الدولة دولتهم والسلطان سلطانهم، وكان أهل البدع والزندقة مقموعين.

وهذا السب إنما أُحيي حديثا على يد الرافضة والمعاصرين، وطوائف من الشيوعيين واليهود والصليبيين، لاسيما المستشرقين منهم الحاقدين على الإسلام، ومن قلدهم من العلمانيين افتتانا بالغرب والشرق ومناهجهما المادية، الواقعين في حرمات الله باسم حرية الرأي والبحث العلمي، جاهلين أن للمنهج العلمي في الإسلام وتاريخه قواعد وأصولا وضوابط شرعية يجب على الباحث أن يلتزم بها، ويكون بحثه واجتهاده في نطاقها، حتى لا تأتي نتائج أبحاثه ودراساته مناقضة للواقع وللقواعد الشرعية والأحكام الإسلامية.

أهداف اصطناع العداوة بين الصحابة وآل البيت

إن أهل الأهواء من الرافضة سواء القدماء منهم أو المعاصرون، ومن سار على خطاهم من العلمانيين في ديار الإسلام، إنما يهدفون من وراء شتم الصحابة وسبهم، والتفريق بينهم وبين آل البيت، واصطناع العداوة بينهم إلى عده أمور:

الأول: أن انتشار الإسلام وامتداد الفتوح الإسلامية في عصر الخلافة الراشدة أثار حفيظة أعداء الإسلام من الفرس الذين راموا الكيد للإسلام والنيْل من المسلمين، إذ لما باءت جهودهم بالفشل في ميادين القتال، رأوا أن الكيد بالحيلة والوقيعة أنجع، فأظهر قوم منهم الإسلام ورفعوا شعار محبة آل البيت واستشناع ظلم عليّ وصي النبي (صلى الله عليه وسلم) في زعمهم، ليدقوا إسفينا بين آل البيت والأصحاب.

الثاني: تجريح شهادة الصحابة والطعن في عدالتهم، ومن ثم التشكيك في الكتاب والسنة، إذ إن الصحابة هم حملة الشريعة ونقلة هذين الأصلين الضابطين لدين الله.

الثالث: إثبات عجز الإسلام عن الصمود للتجربة والتطبيق والعمل، وإثبات عدم صلاحيته في هذا العصر.

فإذا ثبت أنه عجز عن تقويم أخلاق الصحابة وسلوكهم وإصلاح جماعتهم بعد أن فارقهم النبي (صلى الله عليه وسلم) بمدة يسيرة، فهو عاجز ليكون منهج حياة ووسيلة للإصلاح في عصرنا هذا.

إن المصادر التاريخية تعتمد على روايات الإخباريين الرافضة في تدوين التاريخ الإسلامي؛ وهؤلاء شوهوا وزيفوا كثيرا من الأخبار المتعلقة بتاريخنا، وتأثر بهم كُتاب التاريخ قديما وحديثا.

ولذلك ينبغي مراجعة كثير من الأخبار المشهورة للتأكد من صحتها، وقراءة هذا التاريخ قراءة واعية متفحصة، لنقدم للنشء وللناس على العموم تاريخا صحيحا موضوعيا ينسجم مع بناء الأمة العقدي والحضاري، مساهَمة منا في تصحيح الأفكار والمفاهيم، لأن التاريخ الإسلامي هو ذاكرة الأمة، وهو بمثابة عرضها وشرفها، إذ هو القناة التي أوصلت هذا الدين جملة وتفصيلا.

……………………………………………..

هوامش:

  1. أنظر: تفسير ابن كثير، ج4، ص 162.
  2. المصدر السابق، ج 3، ص 762.
  3. أنظر: صحيح مسلم، كتاب الصحابة
  4. ابن تيمية: حكم سب الصحابة،ص36- 35.
  5. القاضي عياض: الشفا بتعرف حقوق المصطفى؛ج2؛ص652 .
  6. الإمام أحمد: السنة،ص78.
  7. صحيح مسلم بشرح النووي،ج16،ص93.

لتحميل البحث كاملا على الرابط التالي:

اقرأ أيضا:

  1. الجزء الأول من المقال
  2.  الفرق الباطنية .. التاريخ والمنهاج بالتستر بالرفض
  3. إخوان الصفا جناح فكري للباطنية

التعليقات غير متاحة