في الجزء الأول كان بيان أن سيف بن عمر لم ينفرد بذكر شخصية عبد الله بن سبأ بل ذكره مؤرخون وإخباريون غيره..

وهنا توضيح حقيقة ادعاء أن ابن سبأ لم يكن شخصية حقيقية وأن السبئية ترمز الى نحلة معينة لا تستلزم الذم والتعيير..

ادعاءات بلا دليل

ادعاء أن السبئية نِحلة وليست للذم والتعيير فقط

بعد أن ذكر المؤلف نصوصا نثرية وشعرية ورد فيها ذكر السبئية، قال:

“وبناء على هذا فلا يمكن الاستنتاج من النصوص السابقة أن السبئية تعني فئة لها هوية سياسية معينة، أو مذهب عقائدي محدد، ولكن المؤكد أنها عندما تطلق على قوم يقصد بها الذم والتعبير”(1).

إن هذا الاستنتاج للباحث لا يخلو من المغالطة والتمويه، فهو يحاول جاهدا التشكيك في السبئية إلى حد جعله يتأولها مجرد كلمة تستعمل للسب والذم!!

إني لأكاد أدهش حين يقول ذلك، وهو نفسه يذكر نصا شعريا للفرزدق(2) فيه إشارة واضحة إلى ابن سبأ اليهودي الأصل، الهمداني اليمني المنشأ.

   تــعرف همـدانية سـبئيـــــــــة                       وتكره عينيها على ما تنكرا

    ولو أنهم إذا نافقوا كان منهــــم                       يهوديهم كانوا بذلك أعــذرا(3)

على أن وجود عبد الله بن سبأ وارتباط السبئية به مما أطبقت عليه المصادر، فذكرته كتب التاريخ والحديث والطبقات والرجال والأنساب والأدب واللغة، وجزم بذلك علماء الفرق والمقالات.

استقراء ذِكر أهل العلم لشخصية ابن سبأ

فقد نقل القمي المتوفى عام 301 هـ (913 م) أن عبد الله بن سبأ أول من أظهر الطعن على أبي بكر وعمر وعثمان والصحابة، وتبرأ منهم وادعى أن عليا أمره بذلك(4).

وأما الإمام الطبري المتوفى عام (310 هـ/922م) فقد أفاض في تاريخه في ذكر أخبار ابن سبأ ومكائده معتمدا على روايات الإخباري سيف بن عمر التميمي عن شيوخه(5).

ويتحدث النوبختي المتوفى عام 310 هـ (922 م) عن أخبار ابن سبأ فيذكر أنه لما بلغ نعي علي بالمدائن قال للذي نعاه: كذبت لو جئتنا بدماغه في سبعين صرة، وأقمت على قتله سبعين عدلا لعلمنا أنه لم يمت ولم يقتل، ولا يموت حتى يملك الأرض(6).

ويقول أبو حاتم الرازي المتوفى عام 322 هـ (933 م) أن عبد الله بن سبأ ومن قال لقوله من السبئية كانوا يزعمون أن عليا هو الإله، وأنه يحيي الموتى وادعوا غيبته بعد موته(7).

وأكد ابن عبد ربه المتوفى عام 328 هـ ( 939 م) أن سبأ وطائفته السبئية قد سلكوا مسلك الغلو في علي حينما قالوا هو الله خالقنا، كما غلت النصارى في المسيح بن مريم(8).

ويذكر أبو الحسن الأشعري المتوفى عام 330 هـ (941 م) عبد الله بن سبأ وطائفته من ضمن أصناف الغلاة، إذ يزعمون أن عليا لم يمت، وأنه سيرجع إلى الدنيا فيملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا(9).

وروى الكشي المتوفى عام 340 هـ (951م) بسنده إلى أبي جعفر محمد الباقر قوله : إن عبد الله بن سبأ كان يدعي النبوة، ويزعم أن أمير المؤمنين عليه السلام  هو الله ـ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ـ(10).

كما روى بسنده إلى علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب قال: “لعن الله من كذب علينا، إني ذكرت عبد الله بن سبأ فقامت كل شعرة في جسدي، لقد ادعى أمرا عظيما، ما له لعنه الله”(11).

ويقول ابن حبان المتوفى عام 354 هـ (965م): “وكان الكلبي ـ محمد ابن السائب الإخباري – سبئيا من أصحاب عبد الله بن سبأ، من أولئك الذين يقولون : إن عليا لم يمت، وإنه راجع إلى الدنيا قبل قيام الساعة، وإن رأوا سحابة قالوا: أمير المؤمنين فيها”(12).

ويقول المقدسي المتوفى عام 355 هـ (965م) في كتابه “البدء والتاريخ”: إن عبد الله بن سبأ قال ـ عندما بلغه موت علي بن أبي طالب: لا يموت حتى يسوق العرب بعصاه(13).

ويكشف الملطي المتوفى عام 377هـ (989م) عن عقيدة السبئية فيقول: “ففي عهد علي  رضي الله عنه جاءت السبئية إليه وقالوا: أنت أنت! قال: من أنا؟ قالوا: الخالق البارئ، فاستتابهم، فلم يرجعوا، فأوقد لهم نارا عظيمة فأحرقهم(14).

[للمزيد: الفرق الباطنية .. المنهاج والتاريخ]

ويذكر كبير محدثي الشيعة ابن بابويه القمي المتوفى عام 381 هـ (991 م) موقف ابن سبأ وهو يعترض على علي  رضي الله عنه في رفع اليدين إلى السماء أثناء الدعاء (15).

وفي “مفتاح العلوم” للخوارزمي المتوفى عام 378 هـ (997 م): “السبئية أصحاب عبد الله بن سبأ”(16).

وذكر البغدادي المتوفى عام 499 هـ (1037 م) أن فرقة السبئية أظهروا دعوتهم في زمان علي  رضي الله عنه  فأحرق قوما منهم، ونفى ابن سبأ إلى سباط المدائن، إذ نهاه ابن عباس رضي الله عنهما عن قتله حينما بلغه غلوه فيه، وأشار عليه بنفيه إلى المدائن حتى لا يختلف عليه أصحابه، لا سيما وهو عازم على العود إلى قتال أهل الشام(17).

وقال أبو جعفر الطوسي المتوفى عام 460 هـ (1067م): إن ابن سبأ رجع إلى الكفر وأظهر الغلو(18).

ويقول الاسفراييني المتوفى عام 471 هـ (1078 م): إن ابن سبأ قال بنبوة علي في أول أمره، ثم دعا إلى ألوهيته، ودعا الخلق إلى ذلك، فأجابته جماعة إلى ذلك في وقت علي(19).

ويتحدث الشهرستاني المتوفى عام 548 هـ (1153 م) عن ابن سبأ فيقول: “ومنه انشعبت أصناف الغلاة”(20). ويقول أيضا: “إن ابن سبأ أول من أظهر القول بالنص بإمامة علي”(21).

كما أن كتب الأنساب هي الأخرى تؤكد نسبة السبئية إلى عبد الله بن سبأ، ومنها كتاب الأنساب للسمعاني المتوفى عام 562 هـ ( 1167 م)(22).

وعرف ابن عساكر المتوفى عام 571 هـ (1176 م) ابن سبأ بقوله: “عبد الله بن سبأ الذي تنسب إليه السبئية، وهم الغلاة من الرافضة، أصله من اليمن، كان يهوديا وأظهر الإسلام”(23).

وفي “اللباب في تهذيب الأنساب” يذكر ابن الأثير المتوفى عام 630 هـ (1232م) ارتباط السبئية من حيث النسبة بعبد الله بن سبأ (24).

وذكر ابن أبي الحديد المتوفى عام 655 هـ (1257 م) في “شرح نهج البلاغة ما نصه: “فلما قتل أمير المؤمنين عليه السلام أظهر ابن سبأ مقالته وصارت له طائفة وفرقة يصدقونه ويتبعونه”(25).

وذكر السكسكي المتوفى عام 683 هـ (1284 م) أن ابن سبأ وجماعته أول من قالوا بالرجعة إلى الدنيا بعد الموت(26).

ويذكر شيخ الإسلام ابن تيمية المتوفى عام 728 هـ (1327م) أن أصل الرفض من المنافقين الزنادقة، فإنه ابتدعه ابن سبأ الزنديق، وأظهر الغلو في علي بدعوى الإمامة والنص عليه، وادعى العصمة له(27).

وأشار الحسن الحلبي المتوفى عام 740 هـ (1339م) إلى أن ابن سبأ ضمن أصناف الضعفاء(28).

وعند الحافظ الذهبي المتوفى عام  748 هـ  (1347 م): “عبد الله بن سبأ من غلاة الشيعة، ضال مضل”(29).

[اقرأ ايضا: إخوان الصفا جناح فكري للباطنية]

أما الصفدي المتوفى عام 764 هـ (1363 م) فقد قال في ترجمته: “عبد الله بن سبأ رأس الطائفة السبئية … فلما قتل علي زعم ابن سبأ أنه لم يمت لأن فيه جزءا إلهيا، وابن مُلجم إنما قتل شيطانا تصور بصورة علي، وأن عليا في السحاب، والرعد صوته، والبرق صورته، وأنه سينزل إلى الأرض”(30).

ويشير الشاطبي المتوفى عام 790هـ (1388م) إلى أن بدعة السبئية من البدع الاعتقادية المتعلقة بوجود إله مع الله ـ تعالى الله ـ وهي بدعة تختلف عن غيرها من المقالات (31).

ويعرف الجرجاني المتوفى عام 816 هـ (1413 م) عبد الله بن سبأ بأنه رأس الطائفة السبئية… وأن أصحابه عندما يستمعون الرعد يقولون: عليك السلام يا أمير المؤمنين(32).

وفي خطط المقريزي المتوفى عام 845 هـ (1441 م) أن عبد الله بن سبأ قام في زمن علي رضي الله عنه محْدثا القول بالوصية والرجعة والتناسخ(33).

وسرد الحافظ ابن حجر المتوفى عام 852 هـ (1448 م) في كتابه: “لسان الميزان” عن ابن سبأ أخبارا غير روايات سيف بن عمر، ثم قال في النهاية : “وأخبار عبد الله بن سبأ شهيرة في التواريخ، وليس له رواية والحمد لله”(34).

وفي عقد الجمان للعيني المتوفى عام 855هـ (1451م) أن ابن سبأ دخل مصر وطاف في كورها، وأظهر الأمر بالمعروف، وتكلم في الرجعة، وقررها في قلوب المصريين(35).

وأكد السيوطي المتوفى عام 911 هـ (1505م) في كتاب “لب الألباب في تحرير الأنساب” نسبة السبئية إلى عبد الله بن سبأ(36).

قيمة المصادر المتأخرة

وتحسن الإشارة إلى أنه لا ينبغي الغض من قيمة المصادر المتأخرة التي ذكرت السبئية، ذلك أن أصحابها كابن كثير والذهبي وابن حجر والسيوطي وغيرهم من الأئمة الحفاظ، كانوا يستقون معلوماتهم من مصادر قديمة وقيمة بعضها الآن في عداد المفقود.

كما عُرفوا بسعة اطلاعهم وغزارة معارفهم وتقصّيهم الدقيق للأخبار، حتى إن الباحث يندهش مثلا عندما يطلع على كثرة الطرق وتنوعها في رواية ابن حجر لأحداث تاريخية، ومن مصادر متقدمة: كأخبار البصرة لابن شبة، وكتاب صفين لحيي بن سليمان الجعفي، والمعرفة والتاريخ للفسوي، وتاريخ أبي زرعة الدمشقي، وغيرها من كتب التاريخ.

……………………………….

هوامش:

  1. الهلابي : عبد الله بن سبأ، ص 48.
  2. المرجع السابق، ص47.
  3. الفرزدق، ديوان، ص 242.
  4. القمي المقالات والفرق، ص 20
  5. الطبري: تاريخ الرسل، ج4، ص 283، 326، 331،340..
  6. النوبختي: فرق الشيعة، ص 23.
  7. أبو حاتم الرازي (أحمد بن حمدان): الزينة في الكلمات الإسلامية، 305.
  8. ابن عبد ربه: العقد الفريد، ج2 ص405.
  9. أبو الحسن الأشعري : مقالات الإسلاميين ج1، ص 85.
  10. أبو عمرو الكشي : الرجال، ص 98.
  11. المصدر السابق، ص 100.
  12. ابن حبان : كتاب المجروحين، ج 2، ص 253.
  13. المقدسي: البدء والتاريخ، ج 5، ص 129.
  14. الملطي: التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع، ص 18.
  15. ابن بابويه القمي : من لا يحضره الفقيه، ج 1، ص 213.
  16. الخوارزمي : مفاتيح العلوم، ص 22.
  17. البغدادي : الفرق بين الفرق، ص 15، 225.
  18. أبو جعفر الطوسي : تهذيب الأحكام، ج 2، ص 322.
  19. الأسفراييني : التبصير في الدين، ص 108.
  20. الشهرستاني : الملل والنحل، ج 2، ص 116.
  21. المصدر السابق، ج 1 ، ص 155.
  22. السمعاني : الأنساب، ج 7، ص 24.
  23. ابن عساكر : المصدر السابق، ج 9، ص 328.
  24. ابن الأثير : اللباب في تهذيب الأنساب، ج2، ص98.
  25. ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 2، ص99.
  26. السكسكي: البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان ، ص 50.
  27. ابن تيمية: مجموع الفتاوى، ج 4، ص435.
  28. الحلي : الرجال، ج 2، ص 71.
  29. الذهبي : المغني في الضعفاء، ج 1، ص339.
  30. الصفدي : الوافي بالوفايات، ج 17، ص20.
  31. الشاطبي : الاعتصام، ج2 ، ص197.
  32. الجرجاني : التعريفات، ص 79.
  33. المقريزي : المواعظ والاعتبار، ج 2، ص 356.
  34. ابن حجر : لسان الميزان، ج3، ص 290.
  35. العيني: عقد الجمات في تاريخ أهل الزمان، 9/1/ 168. (نقلا عن سليمان العودة: عبد الله ابن سبأ، ص 208).
  36. السيوطي : لب الألباب في تحريرالأنساب،ج1،ص132.

لتحميل البحث كاملا على الرابط التالي:

اقرأ أيضا:

  1. الجزء الأول من المقال  
  2. الجزء الثالث من المقال      
  3. الجزء الرابع من المقال
  4. الفرق الباطنية .. المنهاج والتاريخ

التعليقات غير متاحة