السعيد من الأشخاص من عاش بمنهج ربه، والسعيد من المجتمعات من نظَّم حياته وفق تلقيه عن الله، وكانت القيادة فيه لمن يؤمن بالله ويكفر بالطاغوت.

مقدمة

إن فطرة الأفراد، أو تكوينهم الذاتي، وتركيب المجتمعات، أو طبيعة العلاقات الاجتماعية، ومناهج البحث العلمي، تؤكد اليوم ـ وسيزداد تأكيدها ـ أطروحات الدين كضرورة نفسية، واجتماعية، وحضارية.

اليوم ندرك أكثر فأكثر إحدى مقولات القرآن الكريم: ﴿وَإذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾ [الأعراف: 172 – 173].

إنها الشهادة المركوزة في الأعماق على ربوبية الله؛ عهداً ومسؤولية والتزاماً، وإنه نسيج للفطرة قد تتشابك النزوع الديني في لُحمته وسداه.

إن فطرة الإنسان (متدينة) ابتداء، ولكن فقدانها التوازن لهذا السبب أو ذاك، وكنتيجة لسلسلة من الضغوط أو القسر أو غيرها، هو الذي يجنح بها باتجاه الإلحاد. والجنوح حالة مَرَضية، حالة استثنائية، ولن يؤخذ به مقياساً على أي وجه من الوجوه، إنما المقياس هو حالة التوازن، وحالة التوازن تلك قد محضت بالدين.

فمن خلال هزة نفسية عنيفة، أو خطر جاثم مخيف، أو نازلة مفجعة، أو خسارة مبهظة، ومن خلال إحساس مرير بالفراغ، أو التمزق، أو التشتت، أو الملل، أو التخمة، أو اليأس، أو الاكتئاب، أو الضيق، أو الاختناق؛ يجد الإنسان نفسه وهو يُهرَع لطرْق الأبواب التي أُقفلت على وجدانه الديني، وهز النوافذ التي سُدت على إحساسه الإيماني، وتمزيق الستائر التي أُسدلت على نزوعه الغيبي؛ حتى إذا ما فتحت الأبواب والنوافذ الموصدة، وأزيحت الستائر المسدَلة، وجد الإنسان نفسه يعود ثانية إلى فطرته التي فطر الله الناس عليها، ويتحقق ذلك بالتوازن المفقود.

وثمة حشود لا يحصيها عدٌّ لشهادات أناس عانوا من تجربة الجنوح المبهظة، ثم عادوا بعد فترات تطول أو تقصُر إلى مرافئ الإيمان في نفوسهم، فانقلب العالَم في أعينهم بعد أن اضطرب وتفكك وتأرجح طويلاً؛ إلى سلام وود ومحبة وثقة وسكينة واطمئنان وفرح وتعاطف وتناغم وانسجام.

معنى العودة الى الدين

إن العودة إلى الدين ليست عودة إلى النبع الصافي والجذور الموغلة في الأعماق فحسب، وليست لقاء بالفطرة النقية بعد ضياع وتخبط طويلين في دروب الضلال المترعة بالغبار فحسب، ولكنها ـ فوق هذا وذاك ـ لقاء بالناموس الذي يسيِّر السماوات والأرض والحياة والأشياء.. تجانسٌ معه ووفاق وتناغم؛ هنالك حيث يتوحد إيقاع الخليقة وهي تتحرك فاعلة معطاء، متوجهة صوب المصدر الواحد متعبدة إياه، مسبحة بحمده وجلاله.

ومن خلال هذا الإيقاع المتجانس.. هذا التوافق في الحركة، والتوجه المتوحد نحو المصدر والمصير يتحقق الكسب الكبير الواعد الذي يمنحه الله، سبحانه، لعباده الأوّابين إلى فطرتهم على مستويين:

مستوى الإحساس الذاتي بالانسجام والفرح والوفاق؛ وهو إحساس حلو المذاق يصعب وصفه.

ومستوى القدرة على الحركة والفاعلية والعطاء.

إن إنساناً يلتقي بالناموس في حركته المتوحدة غير ذلك الذي يرتطم به ويتعارض معه. هاهنا تجميع للطاقة، واستجاشة لها، واستمداد من ارتباطاتها الكونية التي ما لها من حدود.. وهناك تفتيت لها، وتجميد لفاعليتها، وقطيعة مريرة بينها وبين الكون على مداه.

إن المُنْبَتَّ لن يستطيع أن يفعل شيئاً؛ إنه مقطوع من شجرة الخليقة الكبرى، متيبس حتى النخاع؛ أينما توجَّه لا يأتي بخير.

وما لم يرجع الإنسان إلى فطرته، فلن يفضُلَ ـ بحال ـ ورقةً مهشمة صفراء لفظتها الشجرة الكبيرة التي لا تمنح نسغها إلا لمن تحس أنه منها وإليها.

دور الدين في علاقات المجتمع

فماذا عن البعد الديني في المجتمع؟ ماذا عن النزوع الإيماني في شبكة العلاقات الاجتماعية المعقدة الشاملة؟

لقد جرّبْنا وجرَّب الناس في مشارق الأرض ومغاربها حياة وعلاقات اجتماعية أريد للدين أن ينفّض يديه منها، طُلب منه حيناً وأُرغم أحياناً، على عدم التدخل في هذه المسألة أو تلك، وفي هذه المعضلة أو تلك.. وبمرور الوقت ازداد الطلب واتسع نطاق الإرغام، حتى جاء اليوم الذي ضيق فيه الخناق على (الحل الديني) للمشاكل الاجتماعية، و(الموقف الديني) من المعضلات العامة، ووجد الدين نفسه مضطراً للانزواء في المساجد والجوامع والتكايا؛ فإذا ما أتيح له أن يغادرها إلى الحياة العامة لم يُسمَح له بأكثر من الإدلاء برأيه في مسائل الأحوال الشخصية، ثم يقفل بعدها عائداً إلى زاويته لكي يأوي إليها..!

نتيجة ضآلة دور الدين

ماذا كانت نتيجة ضآلة دور الدين..؟

الفوضى، والفساد، ومن ورائهما حشود من الأخطاء والشرور والمآسي والمتاعب والمنغصات والآلام.

ابتداء بعلاقة الزوج بزوجته، والأب بأبنائه والرجل بالمرأة، وانتهاء بالعلاقة بين المجتمعات البشرية على مدى العالم كله، مروراً بشبكة واسعة معقدة من العلاقات الاجتماعية بين عدد لا يحصيه عد من الأطراف التي تعمل في المجتمع الواحد.

وكل النظم الوضعية المادية أو العلمانية التي سعت لتنظيم العلاقات الاجتماعية من خلال منظورها المذهبي أو التشريعي ما لبثت بعد فترة قد تطول وقد تقصر، أن وجدت تنظيمها يتعرض للاهتزاز والتفكك، وتنفتح فيه ثغرات تتسع يوماً بعد يوم لكي تدخل المزيد من الهواء الفاسد الذي يسمم الحياة الاجتماعية ويملؤها بالأكدار. وعبثاً حاولت سد تلك الثغرات وترصين السدود الاجتماعية كيلا يكتسحها الفيضان؛ ولكنه قدَرُ الله؛ فإن من اختار أن يتجاوز تشريعاته المعجزة للعلاقات الاجتماعية واستبدلها بقوانين بشرية تتسم بالنسبية والعجز والقصور والخضوع لمقولات الزمن والمكان المحدودين؛ لا بد أن يتلقى جرَّاء فعلته تلك اهتزازاً في النظام يفتح على من فيه ثغراتٍ يتسلل منها الماء الذي يكسر كل الموانع والحواجز ليغمر التجربة كلها بالفوضى والفساد.

ولقد حذَّر الرسول صلى الله عليه وسلم من هذا المصير المفجع عندما شبَّه التجربة الاجتماعية بمجموعة من الناس تبحر في سفينة إلى هدفها المنشود، ويبيح بعض ركابها لأنفسهم أن يعبثوا فيها حيث يجلسون؛ فإن لم يأخذ الآخرون على أيديهم هلكوا جميعاً، وإن أوقفوهم في اللحظة المناسبة نجوا جميعاً.

ولكن أحداً لم يسعَ إلى وقف أولئك الذين يعبثون في سفن حياتنا المعاصرة، أولئك الذين منعوا الدين من أن يقوم بدوره كاملاً في مجابهة تحديات الحياة، وأحلوا بدلاً منه أهواءهم ومصالحهم وظنونهم، فكانت الكسور، وكان تسلل الماء والغرق الوشيك.

ونقرأ في كتاب الله هذه الدعوة الحاسمة: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب﴾ [الأنفال: 25].. فنضع أيدينا على المفتاح، وندرك السر الذي يكمن وراء كل المتاعب والآلام التي تغطي حياتنا الاجتماعية وراء هذا البحر الطامي من الفوضى والفساد. إن أحداً لم يتحرك لوقف الفتنة، والذين تحركوا لم يُسمع لندائهم، وكان ما كان.

ونقرأ: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الروم: 41].

تحدي مواجهة الفساد

وإنه لتحدٍّ؛ هذا الفساد الذي يأخذ اليوم بخناق العالم، وإن بوادر الاستجابة الناجحة له قد لاحت في الأفق لحسن الحظ. إنها الرجوع إلى الدين؛ وذلك هو المؤشر الذي يَسِمُ الكثير من المواقف والدعوات والحركات في العقود الأخيرة من القرن الفائت.

ومعنى هذا أن التنظيم الديني للحياة الاجتماعية يمثل (حتمية) لا بد من الاعتراف بها والإذعان لمقولاتها؛ وإلا اكتسحَنا الفساد، وليس ثمة اختيار: إما هذا أو ذاك، إما (النظام) وإما (الفساد).

فما شرعه الله للمجتمعات البشرية هو غير ما يشرعه العبيد؛ وليس ثمة وجه للقياس والمقارنة على الإطلاق.

شريعة الله ـ سبحانه ـ تنبثق عن العلم الكامل المحيط والرؤية الشاملة والنفاذ إلى أعماق الأشياء والظواهر؛ إنها تضع النظم والضوابط والقيم والمعايير لجماعة هي من خلق الله وصنعه ﴿أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك: 14].

الصياغة المثلى للحياة الإجتماعية

إن شريعة الله هي الصياغة المثلى لحياة اجتماعية يسودها التوازن والعطاء. وما دونها من الشرائع الوضعية لا تعدو أن تكون محاولات يحكمها الهوى والظن والتخمين، وتسودها تجارب الخطأ والصواب، فتفقد بمرور الوقت توازنها وقدرتها على الإبداع.

وشتان بين تشريع الله ـ سبحانه ـ للعلاقات الاجتماعية وبين تقنين هذا الفرد أو ذاك من عباده ذوي القدرات المحدودة والرؤى النسبية والأحكام التي تطيش معها الموازين. شتان بين تشريع يمتلك ضمانات الحماية والرقابة والتنفيذ الأمين بسبب من انبثاقها من الداخل؛ من الضمير المؤمن الذي يستشعر رقابة خالقِه في كل ممارسة مهما كان حجمها صغيراً أم كبيراً، وبين تقنين لا يملك سوى ضمانات الرقابة الخارجية والحماية المادية والتنفيذ المنظور؛ وهي كلها لا تمنع (التجربة) من أن تنحرف عن مسارها الصحيح، وتتجاوز الخط المرسوم.

وكلنا يعرف ـ على سبيل المثال ـ ما حدث بالنسبة لواحدة من العلاقات الاجتماعية، بل بالنسبة لجانب صغير منها، تلك هي مسألة إباحة الطلاق وفق شروطها المعروفة؛ فإن النُظُم الوضعية وكهنتها أدانوا هذه الإباحة، وملأت إدانتهم آلاف الصفحات في بطون الكتب والدوريات، وعلَت أصواتهم في قاعات الدرس والمحاضرات.. وما حدث بعد هذا معروف؛ حيث عاد الكثير من هذه النُظم، بعد عشرات من تجارب الخطأ والصواب، وبعد مسيرة طويلة مترعة بالتخبط، لكي تبيح الطلاق.. وما قصة التصويت على الإباحة في البرلمان الإيطالي، على بعد خطوات من (الفاتيكان) معقل الكاثوليكية، عنا ببعيدة؛ صوّت أكثرية الأعضاء على الإباحة بعد سنوات من النقاش والجدل، واعتبر تحقيق الإباحة مكسباً شعبياً، ووصفته الصحف اليسارية بأنه خطوة تقدمية.

هذا مثَل واحد من مئات، ولن يتسع المجال للمزيد.

خاتمة

ثمة ما نقوله على وجه الجزم والحسم: إنه حيثما كانت هناك قضية أو معضلة اجتماعية، كان حلها الأوحد هو ذلك القادم من عند الله، وطاشَ ما عداها من محاولات؛ فأصحابها ﴿إن يَتَّبِعُونَ إلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى﴾ [النجم: 23]، والهدى واحد لا يتعدد، وما عداه فهو الضلال.

تبقى الصلة بالله والتلقي منه هو العاصم من الضلال والخبط والحيرة؛ سواء للفرد أو للمجتمع بعلاقاته المتشابكة وبحساسية القرارات في شأنه. فالسعيد من الأشخاص من عاش بمنهج ربه، والسعيد من المجتمعات من نظم حياته وفق تلقيه عن الله، وكانت القيادة فيه لمن يؤمن بالله ويكفر بالطاغوت.

………………………….

المصدر:

  • أ. د. عماد الدين خليل، مجلة البيان، العدد: 210.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة