الترهيب من عذاب الله نعمة يجهلها المنافقون ويستنكرونها؛ بينما يعرف المؤمن عظيم رحمة الله في تحذيره من وخيم العاقبة، وتحفيزه للفوز برضاه والجنة.

مقدمة

ذكر تعالى عقب بعض مشاهد النار في كتابه قوله تعالى ﴿ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ﴾ (الزمر: 16) فالله تعالى يخوف عباده للوصول الى التقوى، والتقوى من الأوصاف المنوط بها دخول الجنة.. ومن تدبر فيما ذكر تعالى من مشاهد تعذيب أعدائه في النار وجدها قد أعقبت أو سُبقت ببيان الجريمة، وفي هذا وغيره إن تدبرها الناظر في كتاب الله وجد مقاصد واضحة من ذكر الترهيب وقد ذكرنا بعضها في مقال (الترهيب في كتاب الله .. عبيد أمام نبأ عظيم) نستكمل هنا النظر فيها..

الرحمة والنعمة في خطاب الترهيب

المقصد الرابع من مقاصد ذكر الترهيب في كتاب الله تعالى هو الرحمة والنعمة في هذا الخطاب؛ ففي خطاب الترهيب قصد رحمة الخلق والإنعام عليهم بتحذيرهم أسوأ المهالك على الإطلاق. وقد يعجب الناس من وجود الرحمة في هذا.

والعجب منهم هم ـ لأن “الإنذار من أعظم المخاوف” هو من أعظم الرحمات وأجلّ النعم.

وقد عده رب العالمين من الآلاء الكبار التي يمن بها على الإنس والجن: قال تعالى: ﴿فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكَ تَتَمَارَى * هَذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الْأُولَى﴾ [فاطر: 37].

وقال تعالى: ﴿سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنتَصِرَانِ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ [الرحمن: 31 – 45].

فمع كل تخويف وذكْر لآيات العذاب يسأل ربنا سبحانه: ﴿فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾، على أن هذا من الآلاء التي يمتن الله تعالى علينا بها، قد نفهم معنى هذه الآية المكررة فى سرد النعم الدنيوية قبل هذا المقطع وقد نفهمها فى سرد وصف الجنة بعده، أما هنا فوجه الامتنان هو الإنذار وقت التكليف وإمكانية النجاة.

وهذا توجيه البغوي وطائفة من المفسرين ذكره عنه شيخ الإسلام ووافقه عليه، يقول رحمه الله:

“وفي سورة الرحمن يذكر: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾، ونحو ذلك ويقول عقبه: ﴿فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾، قال طائفة واللفظ للبغوي ثم ذكر قوله: ﴿يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ﴾، قال كلما ذكر الله عز وجل من قوله: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾، فإنه مواعظ وهو نعمة لأنه يزجر عن المعاصي، وقال آخرون منهم الزجاج وابن الجوزي في الآيات أي: فبأي آلا ربكما تكذبان بهذه الأشياء لأنها كلها نعم في دلالتها إياكم على توحيده ورزقه إياكم ما به قوامكم. هذا قالوه في سورة الرحمن.

وقالوا في قوله: ﴿فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكَ تَتَمَارَى﴾، فبأي نِعَم ربك التي تدل على وحدانيته تشكك، وقيل: تشك وتجادل، وقال ابن عباس: تكذب.

قلت: ضمَّن تتمارى معنى تكذب ولهذا عداه بالتاء فإنه تفاعل من المرآه يقال تمارينا في الهلال ومرآء في القرآن كفر وهو يكون لتكذيب وتشكيك، ويقال لما كان الخطاب لهم قـال: ﴿تَتَمَارَى﴾ أي يتمارون ولم يقل تمتري لأن التفاعل يكون بين اثنين. قالوا: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾، قيل: الوليد بن المغيرة فإنه قال: ﴿أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾، ثم التفت إليه فقال: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾، كما قال: ﴿خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾.

ففي كل ما خلقه إحسان إلى عباده يشكر عليه وله فيه حكمة تعود إليه يستحق أن يحمد عليها لذاته فجميع المخلوقات فيها إنعام إلى عباده كالثقلين المخاطبين بقوله: ﴿فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾، من جهة أنها آيات يحصل بها هدايتهم وتدل على وحدانيته وصدق أنبيائه ولهذا قال عقيبه: ﴿هَذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الْأُولَى﴾، قيل: محمد، وقيل: القرآن وهما متلازمان يقول هذا نذير أنذر بما أنذرت به الرسل والكتب الأولى وقوله:  ﴿مِّنَ النُّذُرِ الْأُولَى﴾ أي: من جنسها فأفضل النعم نعمة الإيمان، وكل مخلوق فهو من الآيات التي يحصل بها ما يحصل من هذه النعمـة قـال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾، وقـال: ﴿تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ﴾». (1مجموع الفتاوى، جـ 8، ص207 – 209)

فالإنذار في وقت الإمهال من أعظم نعم رب العالمين طالما أنك تمتلك فرصة النجاة، ولذلك فأعظم رأس مال للعبد هو عمره وأنفاسه وإبقاؤه وقت التكليف بحيث يملك فرصة الهروب والفوز بالقرب فإن لم تكن هذه نعمة فأي نعمة إذًا..؟

ولهذا امتنّ الله علينا باستنقاذنا من النار والشرك: ﴿وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا﴾ [آل عمران: 103].

قال تعالى: ﴿حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [الدخان: 1 – 6].

الــردع عن معصية الله

فكل هذه المشاهد جاءت عقب أو قبل ذكْر انحراف ما؛ فقصدها الأساس الردع وليس النواح. وليس المقصود بها أن يتألم الناس فحسْب بل وظيفتها الأساسية كما قال تعالى: ﴿ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ﴾ [الزمر: 16]، فالتخويف للوصول إلى غاية معينة. ولتصحيح انحراف معين. ولتغيير واقع معين. وللقيام بأمر مقصود، أو الردع عن صفة مذمومة أو منهج مختل.

فليس المقصود هو العويل والندب والصراخ؛ بل الإيقاظ بشكله وبمضمونه السُنّي: (وجل القلب ودمع العين وقشعريرة الجلد). وهذا كله لا ينتهي عند هذا الحد وإنما لتغيير واقع معين. وانظر إلى بعض الأمثلة لتبين هذه القاعدة:

في آيات سورة الصافات في الوعيد الشديد:

﴿أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ * فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِّنْ حَمِيمٍ * ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ﴾.

أُعقبت بعد وصف هذا العذاب بإيراد سببه وموجِبه وما هو مطلوب تصحيحه والنهي عنه فقال تعالى: ﴿إِنَّهُمْ أَلْفَوْا﴾ يعني: وجدوا ﴿آبَاءهُمْ ضَالِّينَ  فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ﴾ [الصافات: 62 – 70]، يعني: يسرعون، وعُبر بصيغة الباء للمجهول للدلالة على سرعة الاتباع والاندفاع الباطل خلف آباء مبطلين، كأنَّ غيرهم يدفعهم دفعًا فلا يملكون التوقف، فهو عناد الحق ومتابعة الباطل اتباعًا لآبائهم وتنازلا عن إرادتهم.. فسيقت الآيات لإيقاظ هؤلاء لمتابعة الحق بأدلته، ولترْك الجري وراء عماية وجهالة لمجرد فعل الآباء الباطل.

خاتمة

وهكذا الشأن في كل موضع ذُكر فيه الوعيد ومشاهده العظيمة فإنك ترى قبلها أو بعدها ذكر سببها وموجِبها؛ مما يوضح أن المقصود هو “الردع” عن انحراف معين وتحصيل استقامة مطلوبة. فالخوف ليس مقصودا لِذاته بل لما يترتب عليه من الخير.

……………………………….

الهوامش:

  1. مجموع الفتاوى، جـ 8، ص207 – 209.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة