بدأ بزوغ الأمة الإسلامية من خلال صفوة اعتنقت العقيدة وتربّت عليها تربية عميقة، لها سِمات يجب استلهامها من أجل العودة المرتقَبة.

رسالة متجذرة

لا تستطيع أمة من الأمم أن تحمل رسالتها للعالم إلا إذا وصل أفرادها إلي قدر مشترك من الاتفاق والتوافق حول القضايا الأساسية لهذه الأمة.

والتربية ـ وحدها ـ هي القادرة علي تكوين ذلك القدر المشترك من الاتفاق والتوافق بين أفراد الأمة،  بل إن التربية هي التي تتحمل المسؤولية الكبيرة في بلورة “رسالة” الأمة، وفي غرس “الولاء” لتلك الرسالة.. وفي إطار “الولاء للرسالة” تتلاحم الأمة وتترابط وتتماسك فتصبح كالكتل الصخرية التي تتحدى الأمواج العاتية..

والأمة الإسلامية تحمل رسالة عظيمة تعلن بها ميلاد الإنسان الجديد. الإنسان المتحرر المتطهر الكريم. الإنسان الذي لا إله له إلا الله، ولا معبود له إلا الله، ولا حاكم له إلا الله . “هذه الرسالة التي عبّر عنها في بساطة عجيبة، ربعّي بن عامر، رسول قائد المسلمين إلي رستم قائد الفرس ـ وهذا يسأله: ما الذي جاء بكم؟ فيجيبه للتّو واللحظة في هذه البساطة الجامعة: “الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلي عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلي سعتها، ومن جور الأديان إلي عدل الإسلام “. (1)

ولاشك أنه ما كان لرجل من عامة المسلمين أن يتحدث عن رسالة أمته عفو الخاطر، بهذه البساطة العابرة إلا أن تكون التربية التي أخْرَجَته تربية شاملة وشامخة.. تربية تجعل من رسالة الأمة حقيقة مستقرة في نفس الفرد استقرار الفطرة المكينة العميقة !!

رحلة التربية المستمرة

لقد بدأت التربية الإسلامية في مكة وقبل أن تكون للإسلام كلمة نافذة في المجتمع، بل حين كانت الفئة المؤمنة هي المستهدفة بالفتنة والأذى.. واستكمل البناء التربوي الإسلامي في المدينة حيث الأمن والعافية وإقامة الدولة.. ولم يكفّ النبي صلي الله عليه وسلم عن تربية الأمة حين قامت الدولة، بل استمر يربي الأمة حتى آخر لحظة. (2)

التربية في مكة

فأمّا في مكة: فبينما الجاهليون يقاومون دعوة التوحيد ويطوفون حول آلهة صنعوها بأيديهم ويُرسخون الفوارق بين الناس في المجتمع، وبينما الفئة المؤمنة تواجه الأذى والاضطهاد..

“كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يلقي أصحابه في دار الأرقم: يربيهم ويعلمهم؛ يعلمهم العقيدة الصحيحة، ويربيهم عليها.

وحين كان رسول الله صلي الله عليه وسلم “يربّي” أصحابه على العقيدة الصحيحة، كان ينشئ ـ بقدَر الله ـ تلك النفوس العجيبة التي صنعت ما شاء الله لها أن تصنع من عجائب التاريخ.

بالقرآن.. بتوجيهاته الدائمة صلى الله عليه وسلم.. بقيام الليل.. بالقدرة العملية في شخصه صلي الله عليه وسلم.. برعايته لهم في المحنة.. بالحب الفياض من قلبه العظيم لهم.. بكل تلك الوسائل مجتمعة، تأصّلت العقيدة في قلوب ذلك الجيل المتفرد، فكانت تلك “الطاقة” الهائلة التي صنعت الأعاجيب..”. (3)

سمات التربية في المدينة

ومرّت ثلاثة عشر عاماً في مكة في تربية الأمة على الضبط والإحكام، ومهدت هذه الأعوام من التربية للأعوام العشرة المدنية التي تلتها..

“وفي مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تربية ثانية يُؤخذ بها المؤمنون، تختلف عن التربية الأولى قليلاً فى مظهرها واتجاهها لا في روحها وحقيقتها.

كانت التربية الأولى ضبطاً للنفس وصبراً على الأذى وتبليغاً وإعدادا للعُدّة مع حبس دواعي الانطلاق وكفّ حِدة الإقدام.

أمّا التربية الثانية فهي تَبنى على الأسس السابقة، ثم تدفع المؤمنين دفعاً قوياً إلي الانطلاق في سبيل الله للضرب على أيدي أعداء الله بقوة لا تعرف الضعف، وعزيمة لا تعرف الوهن”. (4)

ومهّدت هذه الأعوام من التربية في المدينة للأعوام التي تلتها، والتي امتد فيها الإسلام إلي أقصى المشرق وأقصى المغرب على أيدي “الربّانيين” الذين هم الترجمة الحيّة للعقيدة الإسلامية الصحيحة، والتربية الإسلامية الشاملة.

ثغرات في التربية المعاصرة

لقد استطاعت التربية الإسلامية الأولى أن تصوغ أفراد الأمة عقائدياً وفكرياً وسلوكياً في الصورة الإسلامية بكل أبعادها، وبالتصور الشامل للحياة في نواحيها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها، واستطاعت أن تغرس في نفوس الأفراد “الانتماء” لدينهم وأمتهم، واستطاعت أن تعدّ جيلاً إسلامياً يحمل “رسالة الأمة الإسلامية” إلي كل الأرض، ويتحمل في سبيل ذلك الآلام الجسام.

واليوم، وعلى الرغم من “مرور أربعة عشر قرناً أو يزيد على المدرسة التربوية والمؤسسة التطبيقية الأولى في دار الأرقم بن أبي الأرقم، والتي بدأت منها خطوات المسلم “الإنسان الجديد”، مع ذلك، نرى اليوم الكثير من الثغور التربوية التي يقتضيها إخراج “الإنسان” و”الأمة” لتحقيق الشهود الحضاري “الشهادة علي الناس والقيادة لهم” لا تزال مفتوحة، ولا نزال نُؤتى من قبلها، لأنها تفتقد “المرابطين” من أهل الدراية والفقه التربوي”(5) القادرين علي اكتشاف طاقات الفرد، والتعرف على إمكاناته، ثم تزويده ـ عبر التربية ـ بالمهارات التي تجعل منه إنساناً قادراً على تغيير الواقع، والوصول إلي الأهداف المنشودة.

إن الكثرة الكاثرة من جماهير الأمة الإسلامية يجذبها ضغط الجاهلية المعاصرة إلى الأرض، وتقف أمام واقع الأمة الإسلامية مستسلمة له، كما لو كان لا سبيل إلي تغييره، أو زحزحته أو التمرد عليه !!

وانقلب معنى “الصبر” في نفوس هذه الجماهير “من الصبر على مواجهة التحديات، ومقارعة الشر، إلى الصبر على المرض، والجهل، والفقر، والظلم، والهزيمة، والتخلف.

وانقلب معنى “الزهد” من زهد الأغنياء والأقوياء بالثروة والجاه في سبيل الله، فصار عجز الفقراء والقاعدين عن العمل والراضين بالضعف والهوان.

وانقلب معنى “التوكل” من الثبات بعد استكمال الاستعداد والتخطيط فصار تبريراً للارتجالية والفوضى وعدم الإعداد !!”. (6)

معالم التربية الإسلامية المستهدَفة

ولذلك فإنه لم يعد يكفي أن نُطْلِق الصيحات الخطابية في الكتب، والمجلات والصحف والندوات، وفوق المنابر:

“عودوا إلى الإسلام”، “عودوا إلى الإسلام”

وإنما لا بد أن نمتلك منهاجاً تربوياً شاملاً يسد الثغور على فتنة الجاهلية المعاصرة، ونستطيع من خلاله إعادة صياغة الفرد المسلم بما يتفق وأهداف الإسلام، ويلبّي حاجات الأمة الإسلامية.

ولا شك أنه لا بد من “معالم” يُصاغ من خلالها ذلك المنهاج التربوي الشامل الذي يعين الأمة على الرشاد والترشيد، ويجعلها محاطة بسياج تربوي متين يحفظ عليها تماسكها، ويحميها من الانهيار مهما تغيرت الظروف والأحوال..؟!

ومن هذه المعالم:

الشمولية

فالبناء التربوي الإسلامي بِناء شامل ومتكامل: ﴿صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ﴾ (البقرة:138).

ويجب أن يتم هذا المنهاج التربوي الشامل في إطار المرجعية الإسلامية، ومصادر المعرفة الإسلامية في الكتاب والسنة. مع الإفادة من جهود الآخرين التي تأتي من نفس المنطلقات، وتنبُت في نفس التربة.

الواقعية

“فالمنهاج التربوي الإسلامي، إنما يصاغ لينزل في واقع الناس ويعايشهم أحداث هذا الواقع ومشاكله، بل إن المنهاج التربوي الإسلامي منبثق من هذا الواقع، فهو لم ينشأ من فراغ، فينبغي أن لا يطبق في فراغ”. (7)

وإذا بُتِر هذا المنهاج التربوي الإسلامي عن الواقع، فإنه يصبح في الحقيقة “صورة” بلا روح، لأنه يصبح عبارة عن نظريات مجردة، أو حقائق ومعارف باردة، لا نصيب لها من التنزيل على الواقع ليتعامل معها..؟!

التدرج

فالمنهاج التربوي الإسلامي يقوم علي المرحلية والتدرج ولا يضع الفروع مكان الأصول بل يبدأ من ترسيخ الجانب العقدي في قلب الفرد، ليصل بشكل “هرمّي” إلي تهذيب أخلاقه؛ فتكون العقيدة هي التي تبنى في صميم الوجدان: أخلاق الفكر، وأخلاق النفس، وأخلاق السلوك.. ﴿كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ﴾ (الفتح:29).

ويكون التدرج هو الذي يحمي الفرد المسلم من الانقطاع أو القعود أو على الأقل الفتور والتواني، لا سيما في هذا العصر الذي تنمّرت فيه الجاهلية.

من أجل القيام بالرسالة

لا تستطيع الأمة الإسلامية حمل رسالتها للعالم، وإخراج من شاء الله من عبادة العباد إلي عبادة الله وحده.. لا تستطيع ذلك إلا برجال من رجالها يبلغون دعوة الله، ويؤدون أمانته، ويقاتلون بمن أطاعهم من عصاهم حتي يأتي الله بالفتح أو أمر من عنده..؟!

ولاشك أن السبيل إلي بناء هذا الصنف من الرجال وإحياء الأمة هو التربية العميقة الهادئة التي تصل بها قضايا الإسلام إلي القلوب؛ فتستعلي بأصحابها علي الشهوات والأهواء، وتكون حركتهم طبقاً لحدود الله، فيصمدون في وجه كل قوى الباطل التي تستهدف الإسلام وأمة الإسلام .

إحياء الأمة

لكي تصل التربية الإسلامية إلي أهدافها من تربية الفرد وإحياء الأمة، لا بد لها من منهاج تربوي شامل يسد الثغور على فتنة الجاهلية؛ فيرابط على ثغر التوحيد ويدفع عنه شرك الأموات وشرك الأحياء.

ويرابط على ثغر القيم فيفصل الأمة عن القيم الجاهلية، ويصلها بالقيم الإسلامية.

ويرابط على ثغر الأخلاق فيقوم بـ “الإعداد الأخلاقي” الذي يضمن ـ إن شاء الله ـ اجتياح الإسلام للجاهلية في كل أرض.. ذلك الاجتياح الذي كان سبيله الأول ـ ولا يزال ـ التربية الشاملة وإحياء الربانية.

…………………………………

الهوامش:

  1. مقومات التصور الإسلامي – سيد قطب ص 180،179.
  2. أنظر مثلاً خطبته صلي الله عليه وسلم في حجة الوداع.
  3. واقعنا المعاصر – محمد قطب ص 489،488.
  4. سبيل الدعوة الإسلامية – د. محمد أمين المصري ص 113،112.
  5. عمر عبيد حسنة في التقديم لكتاب : مقومات الشخصية المسلمة.
  6. مقومات الشخصية المسلمة – د. ماجد عرسان الكيلاني ص 146.
  7. طريق البناء التربوي الإسلامي – د. عجيل النمشي ص 47.

لقراءة البحث كاملا:

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة