أَمِن الغرب النصراني الحاقد عاقبة سب رسول الله والطعن فيه والسخرية منه؛ فأعادت “شارل إيبدو” نشر رسومها الوقحة، وقال “ماكرون” أنه لا يستطيع منعها، لكنه لا يجرؤ على الطعن في “الهولوكست” حيث لا حرية عندئذ..! ما أوقح القوم..!!

مقدمة

ليس حديثنا اليوم عن عالِم أو داعية بُغي عليه، ولا عن منكرات سلوكية، ولا عن قضايا معيشية، لا، ليس ذلك كله؛ الواقعة اليوم أكبر من ذلك، إنه عِرض رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فداه نفسي وأبي وأمي وولدي، صلى الله عليه وبارك وسلم سلاماً كثيراً إلى يوم الدين.

إنه رسول الله الذي سأل عنه ملك النصارى هرقل، ثم قال وهو في أبهة ملكه: «قد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمتُ لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه». (1البخاري:7)

إنه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الذي جعله الله منّة علينا، يمتن بها الله سبحانه علينا، يتمدح ربنا سبحانه بأنه أرسل لنا محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم، حيث يقول الله: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ﴾ [آل عمران:164].

بل إن الله في كتابه وصف الشمس بأنها سراج كقوله: ﴿وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا﴾ [نوح:16]، وفي القرآن نفسه وصف الله محمداً، صلى الله عليه وسلم، بأنه “سراج منير” لشروق شمس رسالته على البشرية كما قال الله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا﴾ [الفرقان:61].

قال الإمام ابن رجب:

“سمى الله محمداً، صلى الله عليه وسلم، سراجا منيرا؛ لأن نوره للدنيا كنور الشمس وأتم وأعظم وأنفع”. (2فتح الباري:4/ 340)

وميّزه الله سبحانه بالسيادة في الدنيا والآخرة، وجعله (الأول) في مقامات كثيرة بين الناس جميعاً، فهو «سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفع». (3مسلم:2278)

وكل الرسالات والنبوات قبله كانت مبنية على الخصوصية لقوم يرسل اليهم كل رسول؛ إلا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، شرّفه الله بعالمية الرسالة للبشرية كلها «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة». (4البخاري:335)

بل إن الله جل وعلا اختار لنبيه أشرف (مكان) وأشرف (زمان) وأشرف (نسب)؛ فجمع له الشرف من أطرافه مكاناً وزماناً ونسباً. فقال صلى الله عليه وسلم: «بُعثت من خير قرون بني آدم، قرنا فقرنا». (5البخاري:3557) وقال: «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم». (6مسلم:2276)

ولا يُعرف رجل في البشرية كلها من أولهم إلى آخرهم نُقلت أخباره وسيره وأيامه، حدَثاً حدَثاً، مثل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حتى أنهم نقلوا الخوارق التي وقعت يوم مولده، ومرضعاته، وحواضنه، وأول بعثته، وأسمائه، وهجرته، وأولاده، وزوجاته، وأعمامه وعماته، وسراريه ومواليه وخدمه وكتّابه، ومؤذنيه، وأمرائه، وحرسه، وشعرائه وحُداته، وكتبه التي أرسلها إلى الملوك، بل حتى مَن يضرب الأعناق بين يديه، وطريقة عبادته في وضوئه وصلاته وصيامه وحجه، ومعاملاته وقروضه ورهنه، وطعامه ولباسه، وشمائله، بل حتى أسماء الدواب التي ركبها، وغير ذلك كثير. وكل ذلك مكتوب في السير والشمائل والمغازي ودلائل النبوة.

ومن هذه الكتب: زاد المعاد وهو أعذبها، وشرح الزرقاني على المواهب اللدنية وهو أوعبها، والشفا للقاضي عياض، والعجالة السنية للمناوي شرح ألفيه السيرة للعراقي وهو أكثفها، وفصول مهمة في الجواب الصحيح لابن تيمية، وغيرها.

وقد قال الإمام ابن تيمية:

“كان الذين رأوا محمدا، صلى الله عليه وسلم، ونقلوا ما عاينوه من معجزاته، وأفعاله، وشريعته، وما سمعوه من القرآن، وحديثه؛ ألوفاً مؤلفة”. (7الجواب الصحيح:3/ 21)

من أخبار المتعرضين للجناب المحمدي

في مدينة دمشق، وفي عام (704هـ) كان هناك شخص يقال له “الكمال الأحدب”، وفي أثناء نقاش حاد ألقى هذا الكمال الأحدب عبارة تتضمن الغض من مقام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حيث قال لخصمه أثناء النزاع: “تكذب ولو كنت رسول الله”.

فتطور الأمر قضائياً بصورة لم يتوقعها هذا الرجل بتاتاً؛ حيث كان قاضي دمشق حينها هو العلامة الفقيه جمال الدين المالكي، وقد مكث قاضياً لدمشق ثلاثين سنة، وكان ممن درس على الإمام العز بن عبد السلام (صاحب قواعد الأحكام).

ولندَع المؤرخ ابن العماد الحنبلي يروي لنا القصة بأسلوبه المختصر حيث يقول:

“وفي هذه السنة ـ أي سنة 704هـ ـ ضربت رقبة الكمال الأحدب، وسببه أنه جاء إلى القاضي جمال الدين المالكي يستفتيه، وهو لا يعلم أنه القاضي، فقال: ما تقول في إنسان تخاصم هو وإنسان فقال له الخصم “تكذب ولو كنت رسول الله”؟. فقال له القاضي: من قال هذا؟ قال: أنا. قال فأشهد عليه القاضي من كان حاضراً، وحبسه، وأحضره من الغد إلى دار العدل وحكم بقتله”. (8شذرات الذهب، لابن العماد الحنبلي، 6/ 9)

وأما في عصر الإمام ابن تيمية فقد كانت أشهر قضية شارك فيها ابوالعباس ابن تيمية نفسه هي قضية “الكاتب عساف” الذي ألقى عبارة فيها غض من مقام النبوة، فنقل خبر الحادثة لابن تيمية، فجمع ابن تيمية مجموعة من المحتسبين وتحرك لدى القضاء الشرعي، وتعرض ابن تيمية لمصاعب جمة في هذه القضية، حتى أنه اعتُقل وجُلد رحمه الله، وألف فيها كتاباً موسعاً انتصاراً لجناب النبي من أن يُنال بتعريض أو انتقاص، ولندَع ابن كثير يروي لنا الحادثة بطريقته السلسة رحمه الله:

“واقعة عساف النصراني.

كان هذا الرجل من أهل السويداء قد شهد عليه جماعة أنه سب النبي، صلى الله عليه وسلم، وقد استجار عساف هذا بابن أحمد بن حجي أمير آل علي، فاجتمع الشيخ تقي الدين بن تيمية، والشيخ زين الدين الفارقي شيخ دار الحديث، فدخلا على الأمير عز الدين أيبك الحموي، نائب السلطنة؛ فكلماه في أمره فأجابهما إلى ذلك، وأرسل ليحضره فخرجا من عنده ومعهما خلق كثير من الناس، فرأى الناس عسافا حين قدم ومعه رجل من العرب فسبّوه وشتموه، فقال ذلك الرجل البدوي: هو خير منكم ـ يعني النصراني ـ فرجمهما الناس بالحجارة، وأصابت عسافا ووقعت خبطة قوية، فأرسل النائب فطلب الشيخين ابن تيمية والفارقي فضربهما بين يديه، ورسم عليهما ـ أي اعتقلهما ـ في العذراوية، وقدم النصراني فأسلم وعُقد مجلس بسببه، وأثبت بينه وبين الشهود عداوة، فحُقن دمه، ثم استدعى بالشيخين فأرضاهما وأطلقهما، ولحق النصراني بعد ذلك ببلاد الحجاز، فاتفق قتله قريبا من مدينة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قتله ابن أخيه هنالك، وصنف الشيخ تقي الدين بن تيمية في هذه الواقعة كتابه الصارم المسلول على ساب الرسول”. (9البداية والنهاية، لابن كثير، 13/ 396)

وأما الكتاب الذي ألفه ابن تيمية في هذه الأزمة وهو “الصارم المسلول على شاتم الرسول” فقد قال في مطلعه:

“اقتضاني لحادث حدث أدنى ما له ـ أي رسول الله ـ من الحق علينا، بل هو ما أوجب الله من تعزيزه ونصره بكل طريق، وإيثاره بالنفس والمال في كل موطن، وحفْظه وحمايته من كل مؤذٍ، وإن كان الله قد أغنى رسوله عن نصر الخلق، ولكن ليبلوا بعضكم ببعض، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب”. (10الصارم المسلول:ص 2)

والحقيقة أن جوهرة كتاب ابن تيمية هي هذه الجملة المضمخة بكل معاني العزة والاستعلاء بهذا الدين وتوقير نبيه، صلى الله عليه وسلم في القلوب؛ حيث يقول رحمه الله:

“فإن الكلمة الواحدة من سب النبي، صلى الله عليه وسلم، لا تحتمل بإسلام ألوف من الكفار، ولأن يظهر دين الله ظهورا يمنع أحدا أن ينطق فيه بطعن؛ أحب إلى الله ورسوله من أن يدخل فيه أقوام وهو منتهَك مُستهان”. (11الصارم المسلول:ص 505)

هكذا كانت منزلة جناب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في نفوس المسلمين..

لا مساومة بتاتاً على جناب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ومهابته في النفوس، وهكذا كانت سيرة أئمة وفقهاء وقضاة المسلمين، لم يكونوا يعتبرون أي عبارة فيها غض من مقام النبوة مسألة “خلاف فكري” و”وجهات نظر” تتم مناقشتها على طاولة الحوار، بل كانوا يعتبرونها قضية تعرض على سيف القضاء الشرعي.

وهؤلاء الذين يتعرضون للجناب المحمدي تحت غطاء (الفكر يواجَه بالفكر) يذكرونني بعبارة تضطرم بعزة الإسلام يقول فيها ابن العربي عن نظير هذه الزندقات:

“هذا كفر بارد لا تسخنه إلا حرارة السيف، فأما دفء المناظرة فلا يؤثر فيه”. (12العواصم:ص247)

خاتمة

وعلى هذا فإنه لمّا أَمِن الكفار من عاقبة سب رسول الله والطعن فيه والخوض في عرضه، أعادوا نشر الرسوم المسيئة وتجرأ كل مغمور وحاقد، وسياسي فاشل، ولص سارق فاسد.. كل هؤلاء لم يجدوا رادعا من المسلمين أو من قومهم خوف غضبة المسلمين؛ أن يضربوا على ايديهم فلا يجترئون على أكرم الخلق وسيدهم، صلى الله عليه وسلم.

إن التقصير جلل، وإن التفريط عظيم، ولا بد من لملمة الأمة لشتاتها وشملها وجمع كلمتها ومعرفة ورؤية المصادر التي تتهددها.

………………………..

الهوامش:

  1. البخاري:7.
  2. فتح الباري:4/340.
  3. مسلم:2278.
  4. البخاري:335.
  5. البخاري:3557.
  6. مسلم:2276.
  7. الجواب الصحيح:3/21.
  8. شذرات الذهب، لابن العماد الحنبلي، 6/9.
  9. البداية والنهاية، لابن كثير، 13/396.
  10. الصارم المسلول:ص 2.
  11. الصارم المسلول:ص 505.
  12. العواصم:ص247.

المصدر:

  • إبراهيم السكران. كتاب ” الاحتساب على شاتم سيد البشرية ” ومقال “من أخبار المتعرضين للجناب المحمدي“.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة