إن للإسلام جديته بل وتضحياته في سبيل تحقيق “الأمن” بمفهومه الإسلامي الفريد، من أجل البشرية كلها وسعادتها؛ فعميت عين لا ترى هذا الحق الجليل.

مقدمة

لا بد من إلقاء نظرة على حقيقة الجاهلية واستكشاف جوانبها والوقوف على مجالات تردّيها؛ وذلك لكي ندرك دور العقيدة ومحورية هذا الدور، وأنه نقطة فارقة. إذ لم يكن تردي الجاهلية في مجال دون آخر، فالخلل العقدي تبعه الخلل القيمي والإنساني، والخلل الاجتماعي، والخلل الاقتصادي والسياسي.. وهكذا فلا يعرف الإسلامَ من لا يعرف الجاهلية؛ كما قال عمر رضي الله عنه.

حمأة الجاهلية وأوحالها

يعرض سيد قطب، رحمه الله تعالى، عرضه صورا من ركام الجاهلية ورجسها وعنتها في القديم والحديث فيقول:

“ومن أرجاسها ما حكته عائشة ـ رضي الله عنها ـ وهي تصور أنواع الاتصال بين الجنسين في الجاهلية كما جاء في صحيح البخاري في هذه الصورة الهابطة الحيوانية المزرية:

«إن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء؛ فنکاح منها نکاح الناس اليوم: يخطب الرجل إلى الرجل وليّته أو بنته، فيصدقها، ثم ينكحها.

والنكاح الآخر كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها: أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه..! ويعتزلها ولا يمسها أبدا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه..! فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب. وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الرجل..! فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع.

و نکاح آخر يجتمع الرهط ما دون العشرة، فيدخلون على المرأة، كلهم يصيبها. فإذا حملت ووضعت، ومر عليها ليالٍ بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع، حتى يجتمعوا عندها، تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت؛ فهو ابنك يافلان. تسمي من أحبت منهم باسمه؛ فيلحق به ولدها. ولا يستطيع أن يمتنع منه الرجل..!

والنكاح الرابع: يجتمع الناس الكثير، فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها ـ وهن البغايا، كن ينصبن على أبوابهن رایات تكون عَلَما ـ فمن أرادهن دخل عليهن؛ فإذا حملت إحداهن، ووضعت حملها، جمعوا لها. ودعوا لهم القافة. ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون، فالتاطَه. ودُعي ابنه، لا يمتنع من ذلك فلما بعث محمد، صلى الله عليه وسلم، بالحق هدَم نکاح الجاهلية كله؛ إلا نکاح الناس اليوم». (1البخاري (5127))

ودلالة هذه الصورة على هبوط التصور الإنساني وبهيميته لا تحتاج إلى تعليق.

إنه الوحل الذي طهر الإسلام منه العرب، وزكاهم ، وكانوا ـ لولا الإسلام ـ غارقين إلى الأذقان فيها. ولم يكن هذا الوحل في العلاقات الجنسية إلا طرفا من النظرة الهابطة إلى المرأة في الجاهلية؛ يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه القيم: “ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين”:

“وكانت المرأة في المجتمع الجاهلي عرضة غبن وحیف، تؤكل حقوقها، وتبتز أموالها، وتحرم من إرثها، وتعضل بعد الطلاق أو وفاة الزوج من أن تنکح زوجا ترضاه، وتورث كما يورث المتاع أو الدابة.

وكانت المرأة في الجاهلية يطفف معها الكيل، فيتمتع الرجل بحقوقه ولا تتمتع هي بحقوقها، يؤخذ مما تؤتَي من مهر، وتُمسَك ضرارا للاعتداء. وتلاقي من بعلها نشوزا أو إعراض، وتترك في بعض الأحيان کالمعلقة. ومن المأكولات ما هو خالص ومحرم على الإناث. وكان يسوغ للرجل أن يتزوج ما يشاء من غير تحديد.

وكانوا يقتلون البنات ويأدونهن بقسوة نادرة في بعض الأحيان، فقد يتأخر وأد المولودة لسفر الوالد وشغله، فلا يئدها إلا وقد كبرت، وصارت تعقل، وقد حكوا في ذلك عن أنفسهم مبكيات. وقد كان بعضهم يلقی الأنثى من شاهق…”

إن الجاهلية هي الجاهلية، ولكل جاهلية أرجاسها وأدناسها. لا يهمّ موقعها من الزمان والمكان. فحيثما خلَت قلوب الناس من عقيدة إلهية تحكم تصوراتهم، ومن شريعة ـ منبثقة من هذه العقيدة ـ تحكم حياتهم، فلن تكون إلا جاهلية في صورة من صورها الكثيرة. والجاهلية التي تتمرغ البشرية اليوم في وحلها، لا تختلف في طبيعتها عن تلك الجاهلية العربية أو غيرها من الجاهليات التي عاصرتها في أنحاء الأرض، حتى أنقذها منها الإسلام وطهرها وزكاها.

إن البشرية اليوم تعيش في ماخور كبير..! ونظرة إلى صحافتها وأفلامها ومعارض أزيائها، ومسابقات جمالها، ومراقصها، وحاناتها، وإذاعاتها، ونظرة إلى سعارها المجنون للحم العاري، والأوضاع المثيرة، والإيحاءات المريضة، في الأدب والفن وأجهزة الإعلام كلها، إلى جانب نظامها الربوي، وما يكمن وراءه من سعار للمال، ووسائل خسيسة لجمعه وتثميره، وعملیات نصب واحتيال وابتزاز تلبس ثوب القانون. وإلى جانب التدهور الخلقي والانحلال الاجتماعي، الذي أصبح يهدد كل نفْس وكل بيت، وكل نظام، وكل تجمع إنساني. نظرة إلى هذا كله تكفي للحكم على المصير البائس الذي تدلف إليه البشرية في ظل هذه الجاهلية.

إن البشرية تتآكل إنسانيتها، وتتحلل آدميتها، وهي تلهث وراء الحيوان، ومثيرات الحيوان؛ لتلحق بعالمه الهابط. والحيوان أنظف وأشرف وأطهر؛ لأنه محكوم بفطرة حازمة لا تتميع، ولا تأسَن كما تأسن شهوات الإنسان حين ينفلت من رباط العقيدة، ومن نظام العقيدة، ويرتد إلى الجاهلية التي أنقذه الله منها والتي يمتن الله على عباده المؤمنين بتطهيرهم منها”. (2في ظلال القرآن1 / 510 ـ مع تقديم وتأخير ـ واختصار)

تبعة تجاه البشرية

ونظرة خاصة للمجتمعات البشرية الكافرة اليوم ترينا حالة الشقاء والخوف، والحيرة والضنك التي تعيشها هذه المجتمعات؛ سواء على مستوى الأمن النفسي للأفراد؛ حيث القلق والأمراض النفسية والانتحارات، أو على مستوى الأمن الأسري في البيوت؛ حيث الضياع والتفكك الأسري، وهتك الأعراض، وكثرة أولاد الزنا، أو على مستوى المجتمعات حيث الجرائم الفظيعة على الأنفس والأموال والأعراض والعقول التي تفتك بها الخمور والمخدرات والكفر والإلحاد.

فالحياة الهنيئة الآمنة التي يجدها المسلم في نفسه وفي أسرته وبيته ومجتمعه، وذلك في ظل الإسلام، وتوحيد الله عز وجل، وتحكيم شرعه. فالحمد لله الذي هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، ومن واجب شكر الله عز وجل على هذه النعمة العظيمة أن يحافظ عليها وأن يتجنب أسباب زوالها، كما أن من واجب شكرها على المسلمين السعي في إهدائها، وإيصالها إلى من حُرِمها من البشرية في هذا العالم بقدر المستطاع. وإذا لم نسْعَ للحفاظ على هذه النعمة العظيمة في أنفسنا ومجتمعاتنا بطاعة الله عز وجل، وإذا لم نسْعَ لإبلاغها للناس المحرومين منها؛ فإننا لن نكون مضيعين لأنفسنا في التيه فحسب، بل نكون مضيعين للبشرية كلها حين تُحْرم من هذا الخير الذي لو وجدته لوجدت عنده الأمن والسلام والطمأنينة بعد طول الشرود والقلق والعناء، فلنقدِّر تبعتنا تجاه أنفسنا وتجاه البشرية بأسرها.

طُرق أداء الأمانة

وهنا يرد سؤال هام؛ ألا وهو: ما الوسيلة إلى إيصال هذا الخير الذي هو دين الإسلام إلى البشرية لتهنأ به وتسعد في ظلاله بالأمن والسلام..؟

والجواب: في قوله تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: 104].

وقوله تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا…﴾ الآية [البقرة: 143].

ومن هاتين الآيتين يتضح لنا تلك الأمانة العظيمة والمسؤولية الجسيمة الملقاة على كاهل المسلمين، وبخاصة العلماء والدعاة والأغنياء منهم، التي توجب عليهم إيصال التوحيد المتمثل في دين الإسلام، وما يتضمن من أحكام كلها عدل وخير ومصلحة وأمن وسلام ورحمة إلى الناس كافة.

ويمكن أداء هذه الأمانة عن طريق اثنين:

أولهما: البلاغ العام

بوسائله المختلفة المسموع منها، والمقروء والمشاهد الذي يبين للناس حقيقة التوحيد، وحقيقة دين الإسلام، وما فيه من الخير والأمن والسلام والرخاء في الدنيا لمن اتبعه. وفي الآخرة ينجو من دار الشقاء والعذاب والهموم والغموم، ويفوز بدار السلام والأمان في جنات ونعیم ادخلوها بسلام آمنين.

ثانيهما: الجهاد في سبيل الله تعالى

وذلك حين يحول الطواغيت بين الناس وبين البلاغ الموجه لهم؛ فحينئذ يشرع الجهاد في سبيل الله تعالى؛ لا لإكراه الناس على الإسلام؛ وإنما لرفع الفتنة عن المؤمنين كما هو الحال في جهاد الدفع، أو لإزالة وتكسير الحواجز والطواغيت الذين يحُولون بين الناس وبين أن يصل إليهم الحق بصورته النقية، ويقيم فيهم شرع الله تعالى والتوحيد الذي قامت عليه السموات والأرض، وأُنزلت من أجله الكتب وأرسلت الرسل، الذين ختم بهم رسول الإسلام، محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة. كما هو الحال في جهاد الطلب.

والجهاد ضرورة شرعية وحكم قدري. لأن حكمة الله عز وجل اقتضت أن يكون هناك صراع بين الحق والباطل؛ وذلك بأن يقيض للحق وأهله أعداء من الباطل وأهله يمكرون في الأرض ويصدون الناس عن سبيل الله عز وجل. وحينئذ تأتي شعيرة الجهاد لتدفع عن الناس هؤلاء الطواغیت الذين هم أعداء البشرية بحق، وأعداء أَمْنها وسلامها ورخائها، وذلك لوقوفهم في سبيل هذا الدين الذي هو أساس أمن الناس وسعادتهم في الدنيا والآخرة.

إذن نستطيع القول وبأعلى صوتنا؛ أن الجهاد في الإسلام شُرع لأمن البشرية، وخيرها، وإن سقط فيه من سقط من القتلى، لأن هؤلاء القتلى إما أن يكونوا مسلمين فهم شهداء عند الله عز وجل وآمنين في جنات النعيم، وإما أن يكونوا كفارا فلا أسف عليهم لأنه بزوالهم يزول عن الناس أعداء الأمن الحقيقيون، الذين يحولون بينهم وبين الحياة الآمنة الرخية في الدنيا والآخرة.

خاتمة

وأخيرا.. ماذا تساوي التضحيات والجراحات، والقتل في ساحات الجهاد، بالنسبة إلى مآلات الجهاد، الذي فيه سعادة البشرية، وأمنها وإنقاذها من استعباد الطواغیت لها؛ وما يترتب على ذلك من ظلم وإرهاق وشقاء في الدنيا والآخرة. قال الله تعالى في مشروعية الجهاد وحكمته: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ﴾ [الأنفال:39] فإذا زالت الفتنة ـ وهي الشرك والكفر ـ وصار الدين كله لله فثَم الأمن والسلام للناس.

وحينئذ لا إكراه في الدين بعد وضوح الحق والباطل، قال الله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة:256]. ومن اختار البقاء على دينه بعد ذلك فسيبقى آمنا له حقوقه وله الحماية من الدولة المسلمة على أن يدفع الجزية مقابل هذه الحقوق إذا كان قادرا.

…………………………

الهوامش:

  1. البخاري (5127).
  2. في ظلال القرآن1 / 510 (مع تقديم وتأخير) واختصار.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة