إن الصدق والإخلاص عملان جليلان من أعمال القلوب، لا تصح أعمال القلوب إلا بهما، إذ هما الفرقان بين النفاق والإيمان، وعليهما مدار الدين، وبهما يَنال العبد رضوان الله وحسن ثوابه في الدنيا والآخرة.

مقدمة

إن صلاح السريرة وفسادها أمر لا يعلمه على وجه القطع إلا علام الغيوب، ولكن الله عز وجل جعل علامات لصلاح السريرة وفسادها، تظهر على العبد يعرفها من نفسه، وتكون للناس بمثابة القرائن التي تعكس لهم سرائر الغير.

قيمة الإخلاص

يعد الإخلاص عمدة أعمال القلوب، وأساس صلاح السريرة، حيث إن جل الأعمال القلبية المحبوبة لله عز وجل تعود إلى صفة الإخلاص. إن قيمة الإخلاص ومكانته العظيمة تظهر في كون التفاضل بين الأعمال والثواب عليها عند الله عز وجل تكون على قدر الإخلاص وتحقيقه في الأعمال، وقد بين الصحابي الجليل أبو ذر رضي الله عنه هذه الحقيقة بقوله: (يا حبذا نوم الأكياس وإفطارهم، كيف يغبنون سهر الحمقى وصيامهم. ولمثقال ذرة من صاحب تقوی ويقين أعظم وأفضل وأرجح من أمثال الجبال عبادة من المغترین)11- الزهد، للإمام أحمد: (171).. وإن ركعة من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أفضل من مئات الركعات من غيرهم، وقيام ليلة منهم أفضل من قيام الليالي الكثيرة من غيرهم، لما في عبادة الأنبياء من كمال التعظيم والإجلال والإخلاص والخشوع ما ليس عند غيرهم. قال مطرف بن عبدالله: (إنك لتلقي الرجلين أحدهما أكثر صوم وصلاة وصدقة والآخر أفضل منه بونا بعيدا، قيل له: وكيف ذلك؟ فقال: هو أشدهما ورعا عن محارمه)2(2) الزهد، لابن أبي عاصم: (240)..

ويقول شيخ الإسلام: (والعبد قد يأتي بالحسنة بنية وصدق وإخلاص تكون أعظم من أضعافها)3(3) مجموع الفتاوی: ( 11/660).، وقال ابن المبارك: (رب عمل صغير تعظمه النية، ورب عمل كبير تصغره النية)4(4) جامع العلوم والحكم: (1/71)..

الطريق إلى تحقيق الإخلاص والصدق

والإخلاص عمل قلبی باعثه معرفة الله عز وجل بأسمائه وصفاته، التي تثمر محبة الله عز وجل والخوف منه وتعظيمه ورجاءه واليقين بوعده ووعیده. فإذا تمكنت هذه الأعمال الجليلة من القلب قادته إلى العبودية الصادقة لله عز وجل وتوحيده لا شريك له، وأصبح الباعث لجميع الأعمال والأقوال والأحوال الظاهرة هو إرادة وجه الله والدار الآخرة، وسلم من الأعراض الدنيوية التي تكون باعث بعض الناس إلى بعض العبوديات قصد الرياء والسمعة والظهور بين الناس، ولا يخفى ما يترتب على ذلك من آفات أخرى: كالكبر والعجب والحسد وغيرها، نسأل الله العافية من ذلك.

ولست هنا بصدد التوسع في مسألة الإخلاص وأدلته من الكتاب والسنة، فإن هذا قد كتب فيه الكثير من الكتب والرسائل، وإنما المقصود التأكيد على أهمية هذا العمل القلبي وأثره العظيم في صلاح السريرة وأثر ضعفه في فسادها.

حقيقة الإخلاص والصدق

وقد ذكر طائفة منها الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في منزلة الإخلاص إذ يقول: (وقد تنوعت عبارتهم في الإخلاص والصدق، والقصد واحد.

فقيل: هو إفراد الحق سبحانه وتعالى بالقصد في الطاعة. وقيل: تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين.

وقيل: التوقي من ملاحظة الخلق حتى عن نفسك ، والصدق التنقي من مطالعة النفس، فالمخلص لا رياء له، والصادق لا إعجاب له. ولا يتم الإخلاص إلا بالصدق، ولا الصدق إلا بالإخلاص، ولا يتمان إلا بالصبر.

وقيل: الإخلاص استواء أعمال العبد في الظاهر والباطن. والرياء أن يكون ظاهره خيرا من باطنه. والصدق في الإخلاص: أن يكون باطنه أعمر من ظاهره.

وقيل: الإخلاص نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق، ومن تزين للناس بما ليس فيه سقط من عين الله.

وقيل لسهل: أي شيء أشد على النفس؟ فقال: الإخلاص، لأنه لا حظ للنفس فيه.

وقال يوسف بن الحسين: أعز شيء في الدنيا: الإخلاص، وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي، فكأنه ينبت على لون آخر)5(5) مدارج السالكين: (2/90-91)..

علامات الإخلاص التي يعرف بها العبد صلاح سريرته

– ابتغاء وجه الله عز وجل والخلوص من الرياء:

أثنى الله عزوجل على عباده المخلصين بقوله: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا﴾ [الإنسان: ۸-۹ ].

ويتحقق الإخلاص في القلب بالتخلص من أعراض الرياء الثلاثة، ألا وهي:

١- جلب المصالح الدنيوية بعمله الأخروي.

۲- دفع المضار الدنيوية بعمله الأخروي.

٣- التعظيم والشهرة بين الناس وحب الثناء منهم.

وبتخلص العبد من هذه الأعراض يتخلص من آفة الرياء المسخوطة لله عز وجل. وإن أشد هذه الأعراض تخلصا منها حب التعظيم والشهرة بين الناس، ولقد كان من دأب الصالحين مجاهدة النفس بالفرار من مدح الناس وتعظيمهم وكراهية الظهور بينهم.

عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله: «إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي»6(6) صحیح مسلم: (2965)..

نماذج من أحوال السلف في کراهتهم للشهرة والظهور.

– حديث أويس القرني: عن زرارة بن أوفى، عن أسير بن جابر، قال: كان عمر بن الخطاب، إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن، سألهم: أفيكم أویس بن عامر؟ حتى أتى على أويس. فقال: أنت أویس بن عامر؟ قال: نعم. قال من مراد ثم من قرن؟ قال: نعم. قال: فكان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم. قال: لك والدة؟ قال: نعم. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يأتي عليكم أویس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد، ثم من قرن. كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم. له والدة هو بها بر. لو أقسم على الله لأبره. فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل» فاستغفر لي. فاستغفر له.

فقال له عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة. قال: ألا أكتب لك إلى عاملها؟ قال: أكون في غبراء الناس أحب إلى.

قال: فلما كان من العام المقبل حج رجل من أشرافهم، فوافق عمر، فسأله عن أويس. قال: تركته رث البيت قليل المتاع. قال: سمعت رسول الله يقول: «يأتي عليكم أويس ابن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد، ثم من قرن . كان به برص فبرأ منه. إلا موضع درهم. له والدة هو بها بر لو أقسم على الله لأبره. فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل» فأتی أويسا فقال: استغفر لي. قال: أنت أحدث عهد بسفر صالح. فاستغفر لي. قال: استغفر لي. قال أنت أحدث عهدا بسفر صالح. فاستغفرلي. قال: لقيت عمر؟ قال: نعم. فاستغفر له. ففطن له الناس. فانطلق على وجهه)7(7) صحیح مسلم: (2542)..

– قال الشافعي رحمه الله تعالى: (وددت أن الخلق يتعلمون هذا العلم ولا ينسب إلي منه شيء)8(8) حلية الأولياء : ( 9/118 )..

– وعن سفيان الثوري رحمه الله تعالى أنه كتب إلى أخ له: (واحذر حب المنزلة، فإن الزهادة فيها أشد من الزهادة في الدنيا)9(9) المصدر السابق: ( 6/387 )..

– وعن إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى قال: (لم يصدق الله من أحب الشهرة)10(10) حلية الأولياء: ( 8/19 )..

– وكان خالد بن معدان رحمه الله تعالى (إذا عظمت حلقته قام وانصرف کراهة الشهرة)11(11) مختصر منهاج القاصدين: (ص 76)..

– وقال الزهري رحمه الله تعالى: (ما رأينا الزهد في شيء أقل منه في الرياسة. ترى الرجل يزهد في المطعم والمشرب والمال، فإذا نوزع الرياسة حامى عليها وعادى)12(12) المصدر السابق: (ص 209)..

فإن قيل: هذا فيه فضيلة الخمول، وذم الشهرة، وأي شهرة أكثر من شهرة الأنبياء، وأئمة العلماء.

قلنا: المذموم طلب الإنسان الشهرة، وأما وجودها من جهة الله تعالى من غير طلب الإنسان فليس بمذموم، غير أن في وجودها فتنة على الضعفاء13(13) المصدر السابق: (ص 210)..

داء ودواء

وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى علاجا لحب المدح وثناء الناس، فقال: (لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماء والنار والضب والحوت، فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص فاقبل على الطمع أولا فاذبحه بسكين اليأس واقبل على المدح والثناء فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا في الآخرة، فإذا استقام لك ذلك الطمع والزهد في الثناء والمدح سهل عليك الإخلاص.

فإن قلت: وما الذي يسهل علي ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح؟ قلت: أما ذبح الطمع فيسهله عليك علمك يقينا أنه ليس من شيء يطمع فيه إلا وبيد الله وحده خزائنه لا يملكها غيره، ولا يؤتي العبد منها شيئا سواه. وأما الزهد في الثناء والمدح فيسهله عليك علمك أنه ليس أحد ينفع مدحه ويزين ويضر ذمه ویشين إلا الله وحده)14(14) الفوائد: (150)..

وذكر ابن القيم أن رجلا رأي (ربيعة الرأي) يبكي، فقال: ما يبكيك؟ فقال: (استفتي من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم. قال: ولبعض من يفتي هاهنا أحق بالسجن من السراق)15(15) أعلام الموقعين: (4/207 )..

إخلاص زائف

ومن دقائق حب الشهرة والظهور ما ذكره صاحب الإحياء، ونقله المقدسي من كتابه مختصر منهاج القاصدين، حيث يقول: (وأخفى من ذلك أن يختفي بحيث لا يريد الاطلاع عليه، ولكنه مع ذلك إذا رأى الناس أحب أن يبدؤوه بالسلام، وأن يقابلوه بالبشاشة والتوقير، وينشطوا في قضاء حوائجه، ويسامحوه في المعاملة، ويوسعوا له المكان، فإن قصر في ذلك مقصر، ثقل ذلك على قلبه، كأن نفسه تتقاضى الاحترام على الطاعة التي أخفاها)16(16) مختصر منهاج القاصدين: (ص ۲۱۹)..

ومن دقائق الإخلاص ما ذكره الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى في كتاب التوحيد عند قوله تعالى: ﴿قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [يوسف: ۱۰۸]. إذ يقول (المسألة الثانية: التنبيه على الإخلاص، لأن كثيرا لو دعا إلى الحق فهو يدعو إلى نفسه)17(17) کتاب التوحيد (باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله)..

ويالها من مسألة عظيمة يغفل عنها كثير منا، فإن من الإخلاص أن تكون دعوة المرء إلى الله وابتغاء وجهه، وليس إلى نفسه وتعظيم ذاته وإشهارها بين الناس، والتفاف الناس حوله، وحب الصدارة بينهم، وعدم رؤية الخير في عمل الآخرين.

ومن دقائق الرياء ما ذكره ابن رجب رحمه الله تعالى بقوله: (وربما أظهروا بألسنتهم ذم أنفسهم واحتقارها على رؤوس الأشهاد، ليعتقد الناس فيهم أنهم عند أنفسهم متواضعون، فيمدحون بذلك وهو من دقائق أبواب الرياء کما نبه عليه التابعون فمن بعدهم من العلماء ويظهر منهم من قبول المدح واستجلابه مما ينافي الصدق والإخلاص. فإن الصادق يخاف النفاق على نفسه ويخشى على نفسه سوء الخاتمة فهو في شغل عن قبول المدح واستحسانه)18(18) فضل علم السلف على الخلف: ص8..

الهوامش

1- الزهد، للإمام أحمد: (171).

(2) الزهد، لابن أبي عاصم: (240).

(3) مجموع الفتاوی: ( 11/660).

(4) جامع العلوم والحكم: (1/71).

(5) مدارج السالكين: (2/90-91).

(6) صحیح مسلم: (2965).

(7) صحیح مسلم: (2542).

(8) حلية الأولياء : ( 9/118 ).

(9) المصدر السابق: ( 6/387 ).

(10) حلية الأولياء: ( 8/19 ).

(11) مختصر منهاج القاصدين: (ص 76).

(12) المصدر السابق: (ص 209).

(13) المصدر السابق: (ص 210).

(14) الفوائد: (150).

(15) أعلام الموقعين: (4/207 ).

(16) مختصر منهاج القاصدين: (ص ۲۱۹).

(17) کتاب التوحيد (باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله).

(18) فضل علم السلف على الخلف: ص8.

اقرأ أيضا

صلاح السريرة .. الأسباب والوسائل

المقصود بـ “السريرة” وصلاحها

دلالات وأمارات صلاح السريرة

محبة الخير للمسلمين ونبذ الفرقة بينهم .. من علامات صلاح السريرة

 

التعليقات غير متاحة