تعمل الشبهات والشهوات، كلاهما، على إضعاف الاستقامة؛ حتى تذهب بصاحبها بعيدا. ولكلٍ منهما أسبابه، وأوجه مقاومته من أجل الله سبحانه.

مصدر الضعف

إن الأسباب المؤدية إلى ضعف الاستقامة، واتباع السبل المضادة لها كثيرة، لكنها لا تخرج في أصلها عن مصدرين اثنين هما أصلا كل الشرور، وهما الشبهات والشهوات. وهناك أسباب تُوقع في الشبهات وأخرى توقع في الشهوات.

الأسباب التي توقع في الشبهات

من المهم الوقوف على أسباب ضعف الاستقامة لتجنبها، ومن أظهرها:

ضعف العلم الشرعي

الأصل في الشبهات هو الجهل بالدين وقواعده الشرعية الصحيحة، وضعف العلم الشرعي.

ولا يبعد أن يصاحب مثل هذه الشبهات شهوة وهوى من أصحابها جعلتهم يبحثون لشهواتهم عن شبهة يغطون بها أهواءهم، وهذا تلبيس ومغالطة يعرف صاحبها ذلك من نفسه قبل غيره، والله وحده هو علام الغيوب، والمطّلع على ما في القلوب.

تكالب أعداء هذا الدين

وهو تكالب من الكفار الصرحاء من اليهود والنصارى ومن المنافقين الذين تسلطوا على رقاب المسلمين فحكموهم بغير شرع الله تعالى، وتصدّوا لمن أنكر عليهم من المصلحين بشتى صنوف الأذى والنكال، ووضع العقبات في طريقهم؛ مما أدى ببعض الدعاة إلى شيء من اليأس وجعلهم يعيدون النظر في تمسكهم بالمواقف الصلبة والثبات على المبادئ، مما حدا ببعضهم إلى التنازل أمام هذه الضغوط عن بعض المبادئ والثوابت.

وحجتهم في ذلك “شبهة تحقيق المصالح ودرء المفاسد”، وأن ذلك لا يحصل إلا بشيء من التنازلات، بل حجة بعضهم هي الأخذ بمبدأ الواقعية، ويعنون بالواقعيه: الرضا بالأمر الواقع، ومسايرته، لعدم القدرة على مصادمته.

الغلو في ردود الأفعال

والمقصود ردود الأفعال التي تدفع بأصحابها إلى طرف آخر يقابل المردود عليه.

ولو استقرأنا تاريخ الفرق الضالة لرأينا بعضها رد فعل لفرقة أخرى، كما هو الحال في مقابلة المرجئة للخوارج، والقدرية للجبرية، والمشبهة للمعطلة.

وفي واقعنا المعاصر رأينا من تأثر بالفكر الإرجائي في مقابل بعض الطوائف التي غلت في التكفير.

مجالسة أهل الأهواء والشبهات

وحضور نواديهم ومناظراتهم أو القراءة في كتبهم، وسماع أشرطتهم؛ لأن ذلك قد يؤدي إلى التأثر بشبههم، ومناهجهم في الاستدلال، والتي آلت بهم وبكل من أخذ بها إلى مجانبة طريق أهل الاستقامة؛ سواء في المعتقد أو السلوك.

وقد رأينا في زماننا هذا مَن تبنّى بعض مآخذ المعتزلة الذين يقدّمون العقل على النقل بسبب مخالطتهم لمتبعي الشبهات أو القراءة في كتب مَن يسمون أنفسهم بالعقلانيين أو العصرانيين، أو غيرها من الألفاظ المحدثة.

إهمال الأخذ بقاعدة سد الذرائع عند بعض المتصدرين للفتوى

فإن قِلة الفقه بواقع المسألة المستفتَى عنها وعدم الانتباه لمكر وخداع بعض المستفتين، قد يدفع بعضهم إلى إصدار فتاوى مجردة لم يراعوا فيها مآلات فتواهم، مما قد يؤدي إلى بعض المفاسد والشرور في مجتمعات المسلمين، كما هو الحاصل اليوم مما نسمعه من بعض الفتاوى التي يفرح بها ضعاف الإيمان، ويتربص بها المفسدون ليوظفوها في مخططاتهم الإفسادية.

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في معرض حديثه عن الفوائد المتعلقة بالفتوى:

“الفائدة الرابعة والأربعون: يحرم عليه ـ أي: المفتي ـ إذا جاءته مسألة فيها تحيُّل على إسقاط واجب أو تحليل محرم أو مكرٌ أو خداعٌ أن يعين المستفتِي فيها ويرشده إلى مطلوبه، أو يفتيه بالظاهر الذي يتوصل به إلى مقصوده.

بل ينبغي له أن يكون بصيرًا بمكر الناس وخداعهم وأحوالهم، ولا ينبغي له أن يحسن الظن بهم، بل يكون حذرًا فَطِنًا فقيهًا بأحوال الناس وأمورهم، يوازره فقهُه في الشرع، وإن لم يكن كذلك زاغ وأزاغ، وكم من مسألة ظاهرها ظاهرٌ جميل، وباطنها مكر وخداع وظلم”. (1)

وبالجملة؛ فإن الشبهات إنما تأتي حينما يقِلّ العلم الصحيح بالشرع ويكثر الجهل، وعندما يقِلّ وجود الراسخين من أهل العلم الذين يجمعون بين العلم والورع والفقه في الواقع، أو يوجدون ولكن أثرهم في الأمة قليل.

الأسباب التي توقع في الشهوات

وهذا النوع من الأسباب التي تُضعِف الاستقامة على دين الله عز وجل ليس مصدرها قلة العلم بالشرع، أو الاشتباه في معرفة الحكم الشرعي، وإنما مصدرها “الشهوة” و”الهوى” و”ضعف الوازع الديني”؛ لأن من يقع في المخالفات بسبب الشهوة لم يُؤت من عدم معرفته بالحكم الشرعي فيها، بل يعرف أنها حرام، وإنما أُتِي من ضعف إيمانه وصبره ومسايرة هواه وشهوته أو مسايرة شهوة غيره ممن يلتمس رضاهم ويتقي سخطهم.

ومن أهم هذه الأسباب ما يلي:

انفتاح مجالات الإفساد على الناس

وذلك من أوسع أبوابها؛ المقروء والمسموع والمشاهَد والتي تركز على إثارة الشهوات، وإشاعة الفاحشة بين الناس وتسهيل أمرها، ويتولى كِبْرَ ذلك المفسدون في الأرض سواء القائمون على مؤسسات الإفساد أو الذين مكَّنوا لهم لينشروا فسادهم.

ووافق ذلك ضعف التربية، وضعف الوازع الديني عند كثير من الناس، وميلهم إلى الشهوات، وساير بعضهم بعضًا، ففتحوا قلوبهم وبيوتهم لهذه الوسائل المفسدة، فتربَّى عليها الصغير، وشابَ عليها الكبير، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

الطمع في الدنيا وإغراءاتها وشهواتها

إن الدنيا ومغرياتها، وشهواتها لا يتماسك أمامها إلا من ثبَّته الله عز وجل؛ فخاف مقام ربه سبحانه ونَهى النفس عن الهوى، وكان في عمره حذرًا خائفًا من مزلات الأقدام ومُضلات الفتن.

ولقد جدَّ في زماننا اليوم من مغريات الدنيا وفتنها، وشهواتها ما أصبح سببًا في تساقُط كثير من الناس في حبائلها، وبُعْدهم عن طريق الاستقامة؛ حيث انفتحت الدنيا بزخرفها وزينتها، وشمل ذلك جميع جوانب الحياة، وساير الناس بعضهم بعضًا فيها، وتنافسوا فيها حتى أوقعهم ذلك في “الترف المحرَّم”، والتفاخر بالأموال والأولاد والمساكن واللباس… إلخ.

وكان للمرأة النصيب الأكبر من هذه الفتنة، ففتنت نفسها وفتنت غيرها، وظهرت ألوان وألوان من المخالفات الشرعية لم يَسْلم منها إلا من رحم الله عز وجل.

ويندرج تحت هذا السبب من أسباب “ضعف الاستقامة”: الطمع في مناصب الدنيا، وشهوة حب الظهور والشهرة؛ فيقع بعض الناس بسببها في بعض التنازلات والمخالفات المجانِبة لطريق أهل الاستقامة.

الحقد والحسد

وهذان المرضان من أشد الأمراض فتكًا بالقلوب، ومن أقوى الأسباب المانعة من الاستقامة على دين الله عز وجل، وهما من أمراض الشهوات التي تدفع أصحابها إلى رد الحق، مع علمهم أنه حق، وإلى ارتكاب الباطل مع علمهم ببطلانه، والحسد هو الذي كفر بسببه إبليس، واليهود، وغالب من ردَّ الهدى بعد بيانه.

التعصب المذموم

وهذا أيضًا من أمراض الشهوات التي تصد العبد عن الحق وتصرفه عن طريق الاستقامة، فبسببه يتعصب مَن في قلبه هذا المرض للباطل الذي يعلم بطلانه، ويقع في المخالفات الشرعية التي يعلم حرمتها لا لشيء إلا أن شيخه الذي يحب ويتعصب له أو طائفته التي يتحزب لها كانوا على هذه المخالفة فلا يريد أن يخالفهم، أو يحكم عليهم بالخطأ ومجانبة الاستقامة..!

وهذا هو الهوى والاستكبار عياذًا بالله من ذلك.

مخالطة أصحاب الشهوات

وهذا السبب من أعظم أسباب الانحراف، والوقوع في الشهوات، ومخالفة أهل الاستقامة وطريقهم؛ لأن الإنسان بطبيعته يؤثّر ويتأثّر؛ فإذا خالط أهل الشهوات، وحضر مجالسهم المملوءة بالمفاسد والشرور، تأثّر بهم إن عاجلًا أو آجلًا؛ لأن الإنسان ضعيف، والشيطان والنفس يأمرانه بالسوء؟

فإذا اجتمعت عليه هذه الشرور أصبح أسير أعدائه من شياطين الإنس والجن، ولا يلبث أن يصبح قتيلهم، إلا أن يتداركه الله برحمة من عنده، فيبغّض له هذه المجالس وينقذه منها.

الهزيمة النفسية عند بعض المسلمين

الذين رأوا حضارة الغرب وما فيها من التقدم العلمي والصناعي، والترف المادي، فانبهروا بذلك وانساقوا وراء شهواتهم، وصاروا يحاكون الغرب في كثير من عاداته وتقاليده، وبخاصة أولئك الذين درسوا في بلاد الغرب، أو كانوا من المُكْثرين من الأسفار إلى بلدانهم سواء لتجارةٍ أو سياحةٍ أو غيرها، أو الذين فتحوا قلوبهم وعقولهم وبيوتهم لثقافات الغرب وعاداته وفساده ومُجونه التي تبث عبر القنوات وغيرها؟ فوافق ذلك خَوَاءً في العلم الشرعي، وضعفًا في التربية الإيمانية:

فوافق قلبا خاليا فتمَكَّنا

وقد ظهرت كثير من المخالفات الشرعية، بداية من أخطرها ألا وهي موالاة الكفار، والتشبه بهم، وضعف البراءة منهم، وانتهاءً بدقائق العادات والممارسات في المأكل والملبس والمسكن؛ وغيرها.

وممن كرس هذه الهزيمة في بلدان المسلمين قوم من بني جلدتنا يدَّعون “العقلانية” و”العصرانية” و”الاستنارة”، وهم مع ذلك قد سقطوا في حمأة التقليد، وأهملوا إعمال العقول فيما يضرّ وفيما ينفع، فتراهم يدْعون إلى محاكاة الغرب، وتطوير الإسلام وأحكامه بما يناسب العصر ويساير الواقع، كبُرت كلمةً تخرج من أفواههم؛ فلا شرع لديهم ولا عقل إلا ما وافق أهواءهم وشهواتهم.

خطر الشيطان

وهنا كلمة أخيرة حول الأسباب بعامة، ما كان مصدرها الشبهات أو الشهوات؛ أنبّه فيها نفسي وإخواني المسلمين إلى خطر “الشيطان الرجيم” الذي هو مصدر هذه الشرور كلها، والذي لا يبالي من أيِّ باب يدخل منه على الإنسان، أَمِنْ باب الشبهات أو الشهوات؛ فالمهم عنده الإضلال.

وإن كان إضلال الناس بالشبهات أحبّ إليه من إضلالهم بالشهوات؛ لأن صاحب الشبهات يحسب أنه على الحق، فقليل منهم من يتوب ويُقلع، أما صاحب الشهوات فيعلم أنه على مخالفة ومعصية فالتوبة منه أقرب وأحرى.

…………………………………..

الهوامش:

  1. إعلام الموقعين، 4/ 286.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة