تفترس الشبهات قلوب الناس وتأكل من قوتها وطاقتها وتفسد على السالك الطريق وتعطل مسيره إلى ربه وتحرفه عنه، وللنجاة أسباب ووسائل.

حماية القلب

كما يحرص الانسان على جسده وجوارحه؛ فالأوْلى، وما به النجاة، هو القلب؛ فهو يحرك الجوارح وهي أدواته، فإن فسد اختلت القوى كلها وإن تعطل تعطلت، وإن صلح ففي ذلك الخير..

وكما يعالج العبد أمراض بدنه يدفع ويتقي الآفات قبل حلولها؛ فالقلب أوْلى بذلك، ووقايتُه أوجب وعلاجه ضرورة.

ومن هنا فيجب البحث عن الأسباب التي تدفع الشبهات أو ترفعها بعد وقوعها؛ ومنها:

أسباب دفع الشبهات

الاستعانة بالله عز وجل وسؤاله والتضرع بين يديه

وهي أول الوسائل وأقرب الطرق وأوجبها؛ فالمعبود سبحانه هو المعين على ما كلّف به العبد، ولهذا قرن تعالى بين العبادة والتوكل في غير موضع فقال آمرا عباده أن يقولوا هذه الكلمات ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ فهما لا ينفكان، فلا يعين على أمر الله إلا الله..

وقال تعالى: ﴿فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾ (هود: 123) وقال تعالى آمرا عبده أن يقول: ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ﴾ (الرعد: 30)

وقد جعل سبحانه فيما أنزل مادة للاختبار؛ فجعل تعالى آيات كتابه محكمات هي أم الكتاب، معظمه وأصله، وأُخر متشابهات اختبر بها عباده ليظهر من يريد اتباع الحق ويبحث عنه ممن يبتغي الزيغ والفتن فسلك التأويل المحرم لفتنة الخلق.

قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ * رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ (آل عمران: 7-8)

فمن تدبّر علم أن الله سبحانه هو العاصم وحده من الزيغ واتباع الشبهات، بفضله تعالى ومنّه، فها هم الراسخون في العلم يضْرعون الى ربهم ألا يزيغ قلوبهم ولا يعاقبهم بذنوبهم فيُفتنون في قلوبهم.

البصيرة والعلم

البصيرة في الدين والعلم بالشريعة المستمدة من الكتاب والسنة بفهم الصحابة رضي الله عنهم.

وذلك لأن من أسباب الانحراف عن طريق الاستقامة الجهل بالدين وشرائعه ومقاصده؛ فترى المنحرف عن الشريعة يحسب أنه على الحق لجهله بالحلال والحرام، أو لتقليده ومسايرته لمن يبرر المخالفة بشبهة أو تأويل أو غير ذلك.

فإذا وجد العلم بالشرع ، والحلال والحرام، والبدعة والسنة، فإن الانحراف بسبب الجهل أو الشبهة سيندفع إن كان صاحبه متجرداً للحق متبعاً له بعد بيانه، أما إن كان ذا هوىً وشهوة فقد لا يكون العلم بالشرع علاجاً مفيداً، إذ قد يعلم العبد المخالفة ويرتكبها عن ضعف وشهوة وعناد.

وإذا كان الشخص لا يستطيع البحث بنفسه والقراءة في كتب العلم لأمّيته أو انشغاله، فليتفقه في دين الله تعالى عن طريق أهل العلم والـذكر الذين يجمعون بين العلم والورع، ومعرفة الواقع..وليسألهم عما أشكل عليه في أمر دينه ودنياه.

ولْيتجنبْ المنتسبين إلى العلم الذين يكتمون الحق ويسيرون مع أهواء الناس، ويتلمسون الرخص والآراء الشاذة المخالفة للنصوص الشرعية، وما عليه سواد أهل السنة والجماعة.

والعلم بالشرع هو الذي يورث العمل به، والاستقامة عليه، وهو الذي يورث الميزان الثابت الذي توزن به الآراء والأخلاق والمواقف.

وصية السلف بالعلم، والمقصود به

والمقصود بهذا الميزان ميزان أهل السنة والجماعة؛ أهل الاستقامة الذي هو الحق والوسط بين الغلو والجفا والذي من حكم به أصاب ومن وزن به عدل.

ولقد كان السلف رحمهم الله تعالى يوصون طلابهم بطلب العلم، ويرون فيه العصمة ـ لمن وفقه الله تعالى ـ من فتنة الشبهات ودفع وساوس شياطين الإنس والجن.

فقد ذكر ابن عبد البر في كتاب العلم قال:

“قال ابن وهب: كان أول أمري في العبادة قبل طلب العلم، فولع بي الشيطان في ذكر عيسى ابن مريم عليه السلام. وكيف خلقه الله تعالى؟ ونحو هذا؛ فشكوت ذلك إلى شيخٍ فقال لي: ابنَ وهب، قلت: نعم، قال: أطلب العلم. فكان سبب طلبي العلم”. (1)

ومن الفقه بالشرع الفقه بمقاصده وقواعده الفقهية لأن الجهل بهذه القواعد أو الغفلة عنها يوقع في الانحراف والشطحات.. كمن يفتي للناس دون مراعاة لـ “مآلات الفتوى”، والتي هي مرتبطة بقاعدة “سد الذرائع”، أو من يفتي بـ “الضرورة والمصالح” دون الإلمام بـ “ضوابط الضرورة والمصلحة”.

والحاصل أن البصيرة في الدين ومقاصد الشريعة تقي بإذن الله تعالى من مخالفة الاستقامة وأهلها إذا وجد الإخلاص والتجرد عن الهوى.

التؤدة والأناة وعدم العجلة

إن العجلة والتسرع، وترك التؤدة والأناة في الأمور؛ لهي من أخطر الأبواب التي تدخل منها الشبهات إلى القلوب؛ وبالتالي يقع الانحراف ومخالفة طريق أهل الاستقامة سواء في المعتقد أو العمل.

بينما لو حصل التأني وعدم التسرع في قبول ما يُطرح من أفكار، لكان في ذلك فرصة لمزيد من البحث والمشورة وعرض كل ما يُطرح على كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفهم الصحابة رضي الله عنهم.

وقد مدح الرسول صلى الله عليه وسلم التؤدة في الأمور بقوله: «التؤدة في كل شيء خير إلا في عمل الآخرة» (2).

ومن ذلك عدم التسرع والعجلة في إفتاء الناس قبل معرفة حكم الله عز وجل، ومعرفة الواقعة التي يستفتون عنها من جميع جوانبها وما يترتب عليها.

ومن ذلك عدم التسرع في إفتاء الناس في قضايا لم تقع بعد، لأن الواقعة تختلف في وصفها قبلَ وقوعهـا عنها بعد وقوعها، وقد يكون فيه من الملابسات والأحوال ما لا تظهر إلا بعد الوقوع.

فعن عامر الشعبي قال: «سئل عمار رضي الله عنه عن مسألة فقال: كان هذا بعد؟ قالوا: لا، قال: دعونا حتى يكون، فإذا كان تجشمناه لكم» (3).

وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه ـ رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ـ قال: قال: «لا تعجلوا بالبلية قبل نزولها، فإنكم إن لم تفعلوا لم ينفكّ المسلمون أن يكون منهم من إذا قال وُفق ـ أو قال: سُدّد ـ وإنكم إن استعجلتم بالبلية قبل نزولها ذهب بكم السبل ها هنا، وها هنا» (4).

من فوائد الأناة

وإن من فوائد الأناة وعدم العجلة أن يكون هناك فرصة لمشاورة أهل العلم والعقل والتجربة.

ومن فوائد التؤدة وعدم التسرع ـ وبخاصة لأهل العلم والفتوى أيام الفتن ـ أن يكون لديهم وقت ليسْبُروا فيه حال المستفتين ومقصدهم من سؤالهم؛ فقد يظهر بعد التأني والتفكر أن منهم من يزخرف سؤاله ويُظهره في قالب يسْتلّ به الفتيا التي يريد .

وهذا مكر منه وخداع .. فإذا تسرع المفتي وأفتى أمثال هؤلاء؛ فإنه بذلك قد يَضل ويُضل وهو لا يشعر.

مصاحبة أهل العلم الصادقين وتجنب أهل الشبهات والبدع

وهذا مما يُتقى به الشبهات ـ التي هي من أسباب الانحراف والجنوح ـ عن طريق أهل الاستقامة، لأن في مصاحبة أهل العلم الذين يجمعون “صحة العلم” و”حسن القصد” عاصماً بإذن الله تعالى من الشبهات ورافعاً لها إذا وجدت، لأن الشبهات لا تنتشر إلا في بيئات الجهل وقلة العلم.

كما أن في مجانبة مجالس أهل الأهواء والبدع والشبهات وعدم السماع لهم حماية بإذن الله تعالى من المزالق والمخالفات، لأن في مجالسهم تثار الشبهات ويكثر الجدال والمراء فتعْلق بقلوب السامعين لها شبهاتهم، ويصعب التخلص منها بعد ذلك.

ولذلك شدّد السلف رحمهم الله تعالى في ذلك ونهوا عن مناظرة أهل الأهواء والشبهات، وعن حضور مجالسهم أو السماع منهم.

وإذا كان هذا موقف السلف من أهل الشبهات وتشديدهم في النهي عن حضور مجالسهم أو قراءة كتبهم؛ فكيف بمن يفتح لهم اليوم مجلته أو قناته أو موقعه في شبكة المعلومات ليبث شبهاته بحجة حرية الفكر والنقاش وفتح المجال لطرح الأفكار والرد عليها؟!

إني لأحسب أن في هذا مخالفة شديدة لمنهج السلف وباباً من أبواب نشر الأفكار المنحرفة، ويخشى على من يفتح منبره لأهل الأهواء والبدع أن يتحمل وزره ووزر من تتسبب هذه الأفكار في تضليله.

ويلحق بمصاحبة “أهل العلم والاستقامة” مصاحبة كتبهم ومقالاتهم وسماع أشرطتهم المسجلة.

وفي مقابل ذلك هجر كتب أهل الأهواء والبدع، والتنفير منها ومن سماع أشرطتهم، إلا للمتمكن من أهل العلم الذين يقرأون أو يسمعون لأهل البدع بغرض الرد على شبههم وبيان ضلالاتهم.

التواصي بالحق والدعوة إليه

وهذا من أعظم ما تدفع به الشبهات التي تحرف الناس عن طريق الاستقامة، وبخاصة في عصور الغربة وانتشار الفتن.

فكلما وجد في زمان أو مكان “دعاة إلى الحق” يوصي بعضهم بعضاً بلزومه، وينشرونه بين الناس؛ كلما قلت البدع والشبهات.

والعكس بالعكس؛ فعندما تضعف الدعوة إلى المنهج الحق، ويقِلّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإن الأهواء والشبهات حينها تفشو، وينشأ من جراء ذلك التضليلُ والتلبيس والانحراف الذي يقوم به أهل الباطل؛ حيث يزخرفون كلامهم لضعاف العلم والعقول من الناس فيصغون إليه، ويرضون به، ويحسبونه حقا لما كسوه من زخرف القول غروراً.

مناصحة الدعاة وطلَبة العلم

ويلحق بالتواصي بالحق المناصحة بين الدعاة وطلبة العلم بعضهم مع بعض لأنه قد يتأثر أحد الدعاة بشبهةٍ ما ويتعلق بها..

فإذا وُجدت المناصحة والمناظرة الصادقة في إزالة الشبهة فإنها تزول بإذن الله تعالى، أما إذا رأى أحدنا على أخيه موقفاً أو سلوكاً مشيناً، سببه شبهة، ثم تركه وجامَله؛ فإن هذا من أسباب رسوخ الانحرافات وانتشارها.

لزوم الجماعة ونبذ الفرقة

إن لزوم “جماعة المسلمين” الملتزمة بما كان عليه الرسول صلى الله عليه سلم وأصحابه لمن أعظم الأسباب في الوقاية من الانحراف.

والمقصود بالجماعة هنا جماعة العقيدة والمنهج الحق، مع لزوم جماعة المسلمين التي لها إمام موافق للشرع، فإذا تحقق هذان الوصفان وجب الالتزام بهما جميعاً، والمفارق لهما أو لأحدهما مفارق للجماعة ومعرّض نفسه للشبهات والانحرافات.

أما إذا لم يوجد الإمام الشرعي؛ فيبقى لزوم الجماعة “بالمعنى العلمي العقدي” هو الأصل ولا يمكن أن يخلو منه زمان.

ولو تتبعنا نشوء الفتن والانحرافات في التاريخ الإسلامي لرأيناها إنما نمَت وترعرعت في أرض الفرقة والاختلاف.

وقد وصى الرسول صلى الله عليه وسلم بلزوم الجماعة قال: «…عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، ومن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، ومن سرته حسنته وساءته سيئته فذلكم المؤمن» (5).

وفي عصور الغربة والفتن كعصرنا اليوم لا يكفي مجرد الانتماء العلمي لأهل الاستقامة، بل لا بد من العيش الجماعي والتواصي بالحق معهم، وعدم الانفراد أو العزلة عنهم؛ لأن شياطين الإنس والجن يكونون مع الواحد، وهم مع الاثنين أبعد، كما جاء في الحديث الآنف الذكر.

وجوب الحذر

ينبغي على المؤمن عدم الشعور بالأمان من الفتن، بل يجب التنبه ودوام الخوف من السقوط، والتوجه الى الله تعالى طلبا للتثبيت، والأخذ في أسبابه، سواء ما تناوله هذا المقال أو غيره من الأسباب.

فكم من شبهة فتكت بقلب صاحبها أو زيغٍ غوَى به إنسان، وكم من قتيل طريح لإبليس هلك مع الهالكين .. والله تعالى العاصم.

…………………………………………………

هوامش:

  1. سير أعلام النبلاء10/ 31.
  2. أبو داود في الأدب (4810)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة ( 1794).
  3. المطالب العالية 3/ 106.
  4. المصدر نفسه 3 / 106، وقال البوصيري: رواه إسحاق بإسناد حسن لابن أبي شيبة.
  5. جزء من حديث رواه الترمذي في الفقه وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (1758) .

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة