مقدمة

يقدم القرآن عقيدته للناس مجردة من كل إغراء خارج عن طبيعتها ، ومن كل زينة زائدة عن حقيقتها . . فالرسول الذي يقدمه للناس بشر ، لا يملك خزائن الله ، ولا يعلم الغيب ، ولا يقول لهم : إني ملك . . وهو لا يتلقى إلا من ربه ، ولا يتبع إلا ما يوحى إليه منه . والذين يقبلون دعوته هم أكرم البشر عند الله ، وعليه أن يلزمهم ، وأن يهش لهم ، وأن يبلغهم ما كتبه الله لهم على نفسه من الرحمة والمغفرة .

وقفات مع آية

قال تعالى: ﴿قُل لَّا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ۚ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ ۚ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ﴾ [الأنعام: 50].

الدروس المستفادة من هذه الآية:

بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم

– الدرس الأول: بيان حقيقة الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه عبد ورسول: عبد لله تعالى يحمل كل صفات العبودية لله عز وجل والتي تنفي عنه صلى الله عليه وسلم أيَّ صفة ترفعه عن هذه العبودية كالغلو فيه ورفعه لمقام الألوهية بأن يدعى من دون الله، أو أنه يعلم الغيب استقلالًا، أو أنه يملك خزائن الله ويتصرف فيها، ومع كونه عبدًا لله عز وجل فقد اصطفاه ربه سبحانه بأنه جعله رسولًا للعالمين؛ فله صفات الرسول وخصائصه وحقوقه التي تخصه عن سائر البشر.

وظيفته صلى الله عليه وسلم

– الدرس الثاني: في الآية أيضًا بيان وظيفته صلى الله عليه وسلم ومهمته التي كلفه الله عز وجل بها، وأنها إبلاغ الناس بالتوحيد، وإنقاذهم من ظلمات الشرك، وأنه مبلغ عن الله تعالى بما يوحي الله سبحانه، وأنه في ذلك متبع ومنقاد لربه سبحانه، وأنه صلى الله عليه وسلم بشر، وليس ملك من الملائكة، وفي أمره عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس: ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ﴾، أمر بالاستمساك بالوحي، وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم مأمورًا بهذا وهو المعصوم، فإن في ذلك أمرًا وتأكيدًا لأمته صلى الله عليه وسلم باتباع ما يبلغ به عن ربه، والتسليم له، وعدم التقدُّم بين يدي الله ورسوله بشيء لم يأذن به الله تعالى ولم يشرعه.

الأجر هناك في دار النعيم

– الدرس الثالث: في قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿قُل لَّا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾ بيان بشريته صلى الله عليه وسلم وعبوديته لربه وأنه لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا إلا ما شاء الله وليس عنده شيء من تدبير الله تعالى في خزائنه؛ فكيف يدعي له أهل الشرك والغلو ما لم يدعه صلى الله عليه وسلم لنفسه، بل نفاه وأنكره؟ كما أن في هذه الجملة من الآية تنبيهًا لأتباع الرسل والمهتمين بأمر الدعوة إلى الله عز وجل بأن يكون مقصدهم في الاتباع والبلاغ وجه الله عز وجل وقطع الطمع في مكاسب مادية من الدعوة والتبليغ، وليس في هذا الدين مطمع دنيوي، وليس عند المتبوعين خزائن الدنيا ليغدقوا بها على الأتباع.

بل يجب أن تتوجه أنظار مقاصد الدعاة والأتباع والمتبوعين إلى الآخرة، وينتظروا الأخذ هناك من الله عز وجل الذي بيده خزائن السموات والأرض، وألا ينظروا إلى الدنيا ومكاسبها، بل يوطنوا أنفسهم على أن يعطوا ويبذلوا في هذه الدنيا من جهودهم وأعمالهم وتضحياتهم في سبيل الله تعالى، ولا ينتظروا الأخذ مقابل ذلك شيئًا في هذه الدنيا، بل يعلقوا هممهم بالآخرة، وأخذ الأعطيات العظيمة هنالك، وأعظمها وأكثرها رضوان من الله عز وجل ﴿وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ [التوبة: 72].

المبصر العاقل والأعمى السفيه

– الدرس الرابع: في قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ ۚ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ﴾؛ فائدة مهمة ألا وهي أن البشر ينقسمون إلى فريقين لا يستويان ولا ثالث لهما: فريق بصير مبصر، وهم اتباع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الموحدون لربهم، وفريق أعمى، وهم أعداء الرسل من المشركين والكفار والمنافقين، هذا حكم الله عز وجل فيهم، كما في قوله تعالى: ﴿أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ ۚ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [الرعد: 19].

فكل موحد أخلص عبادته لله عز وجل فهو المبصر العاقل، وكل كافر مشرك أعرض عن عبادة ربه واستكبر عنها، فهو الأعمى سفيه العقل واللب، مهما أوتي من ذكاء وفطنة وبرع في علوم الدنيا ومخترعاتها، فما دام أنه متكبر على عبادة ربه كافر بدين الإسلام، فهو عند الله عز وجل أعمى وأضل سبيلًا.

قال سبحانه: ﴿وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلًا﴾ [الإسراء: 72]، ولذلك يخطئ من يقول عن بعض علماء الدنيا وما أنجزوه من اختراعات، أو عن بعض المستشرقين من الكفار الذين لم يهتدوا بنور الإسلام، أنهم عقلاء وعلماء ومنصفون، كلا فليسوا بعقلاء ولا علماء، لأن العاقل يسعى لمصلحة نفسه وما يريحها في الدنيا والآخرة، فإذا آثر الكافر الدنيا على الآخرة وما يئول من ذلك إلى عذاب الله عز وجل؛ فإن هذا من عداد العميان، وليس من عداد العقلاء.

وأعظم خطأ وضلالًا ممن يصف هؤلاء العُمْي بالعقل والبصيرة أولئك الذين يستمدون المناهج والنظم والموازين والقيم من الكفرة الذين وصفهم الله عز وجل بأنهم عمي ولا يعقلون!

لماذا يجب أن نرفض مناهج الغرب وأفكاره؟!

وما أحسن ما سطرته يد سيد قطب -رحمه الله تعالى- عند آية الرعد الآنفة الذكر، حيث قال: «وهكذا يتقرر أن الذين لا يستجيبون لهذا الحق هم -بشهادة الله سبحانه- عمي، وأنهم لا يتفكرون ولا يعقلون، وأن الذين يستجيبون له هم أولو الألباب، وهؤلاء تطمئن قلوبهم بذكر الله، وتتصل بما هي عارفة له ومصطلحة عليه بفطرتها العميقة، فتسكن وتستريح.

وإن الإنسان ليجد مصداق قول الله هذا في كل مَن يلقاه من الناس معرضًا عن هذا الحق الذي تضمنه دين الله، والذي جاء به في صورته الكاملة محمد رسول الله، فإن هذه إلا جبلَّات مَئُوفة مطموسة، وإن هي إلا كينونات معطَّلة في أهم جوانبها، بحيث لا تتلقى إيقاعات هذا الوجود كله من حولها، وهو يسبح بحمد ربه، وينطلق بوحدانيته وقدرته وتدبيره وتقديره.

وإذا كان الذين لا يؤمنون بهذا الحق عميًا -بشهادة الله سبحانه- فإنه لا ينبغي لمسلم يزعم أنه يؤمن برسول الله، ويؤمن بأن هذا القرآن وحي من عند الله، لا ينبغي لمسلم يزعم هذا الزعم أن يتلقى في شأن من شئون الحياة عن أعمى! وبخاصة إذا كان هذا الشأن متعلقًا بالنظام الذي يحكم حياة الإنسان؛ أو بالقيم والموازين التي تقوم عليها حياته، أو بالعادات والسلوك والتقاليد والآداب التي تسود مجتمعه..

وهذا هو موقفنا من نتاج الفكر -غير الإسلامي- بجملته -فيما عدا العلوم المادية البحتة وتطبيقاتها العملية، مما قصده رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «أنتم أعلم بشئون دنياكم»؛ فإنه ما ينبغي قط لمسلم يعرف هدى الله، ويعرف هذا الحق الذي جاء به رسول الله، أن يقعد مقعد التلميذ الذي يتلقى من أيِّ إنسان لم يستجب لهذا الهدى ولم يعلم أنه الحق، فهو أعمى بشهادة الله سبحانه ولن يرد شهادة الله مسلم، ثم يزعم بعد ذلك أنه مسلم!

إنه لابد لنا أن نأخذ هذا الدين مأخذ الجد: وأن نأخذ تقريراته هذه مأخذ الجزم، وكل تميع في مثل هذه القضية هو تميع في العقيدة ذاتها، إن لم يكن هو رد شهادة الله سبحانه وهو الكفر البواح في هذه الصورة!

وأعجب العجب أن ناسًا من الناس اليوم يزعمون أنهم مسلمون: ثم يأخذون في منهج الحياة البشرية عن فلان وفلان من الذين يقول عنهم الله سبحانه: أنهم عمي، ثم يظلون بزعمون بعد ذلك أنهم مسلمون!..»11- «في ظلال القرآن» (4/2074)..

مجالات إعمال العقل

– الدرس الخامس: في قوله تعالى: ﴿أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ﴾، أمر منه سبحانه بإعمال العقل فيما خلق له من التدبر وفهم كلام الله عز وجل والنظر في الآفاق والأنفس، التي تدل على وحدانية الله عز وجل وتفرده بالخلق والرَّزق والتدبر، وهذا كله يستلزم إفراده وحده سبحانه بالعبادة والألوهية والحاكمية.

وللعقل حدود لا يستطيع تجاوزها في التفكير، وذلك فيما زوى الله عز وجل عنه العلم بها من كيفيات صفات الله عز وجل وأفعاله، وما زواه عنه من علم الغيوب الماضية والمستقبلة، وفي نفس الوقت فتح له مساحة كبيرة أمره بأن يتفكر فيها من ذلك: التفكر في آيات الله عز وجل المتلوة وتدبرها، والتفكر في آيات الله المنظورة في الآفاق والأنفس، والتفكر في آلاء الله عز وجل ونعمه المتواصلة التي لا تحصى، والتفكر في سير الأنبياء وقصصهم مع أقوامهم وعاقبة الفريقين، والتفكير في النفس ومحاسبتها فيما قدمت وأخرت، والتفكر في حقيقة الدنيا والآخرة والأمثال التي ضربت لهما، والتفكر في آيات الله عز وجل الخارقة المذكورة في القرآن.

الهوامش

1- «في ظلال القرآن» (4/2074).

اقرأ أيضا

كتب ربكم على نفسه الرحمة .. دروس مستفادة

ولا تطرد الذين يدْعون ربَّهم .. دروس وعبر

“ولتستبين سبيل المجرمين” .. دروس وعبر

«وقالوا إنْ هي إلَّا حياتُنا الدُّنيا» .. دروس وعبر

 

التعليقات غير متاحة